صفحة جزء
5878 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار حين يحفر الخندق فجعل يمسح رأسه ويقول : ( بؤس ابن سمية ! تقتلك الفئة الباغية ) . رواه مسلم .


5878 - ( وعن أبي قتادة ) : صحابي مشهور ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار ) أي : ابن ياسر ( حين يحفر الخندق ) : حكاية حال ماضية ( فجعل يمسح رأسه ) أي : رأس عمار عن الغبار ترحما عليه من الأغيار ( ويقول : بؤس ) : بضم موحدة وسكون همز ، وقال وبفتح السين مضافا إلى ( ابن سمية ) وهي بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية أم عمار ، وهي قد أسلمت بمكة ، وعذبت لترجع عن دينها ، فلم ترجع ، وطعنها أبو جهل فماتت . ذكره ابن الملك وقال غيره : كانت أمه ابنة أبي حذيفة المخزومي ، زوجها ياسرا ، وكان حليفه فولدت له عمارا ، فأعتقه أبو حذيفة . أي : يا شدة عمار احضري ، فهذا أوانك ، واتسع في حذف حرف النداء من أسماء الأجناس ، وإنما يحذف من أسماء الأعلام . وروي : بؤس بالرفع على ما في بعض النسخ أي : عليك بؤس أو يصيبك بؤس ، وعلى هذا ابن سمية منادى مضاف أي : يا ابن سمية . وقال شارح : المعنى : يا شدة ما يلقاه ابن سمية من الفئة الباغية نادى بؤسه وأراد نداءه ، ولذا خاطبه بقوله : ( تقتلك الفئة الباغية ) . أي : الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان . قال الطيبي : ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه ، فإنه قتل يوم صفين . وقال ابن الملك : اعلم أن عمارا قتله معاوية وفئته ، فكانوا طاغين باغين ، بهذا الحديث ، لأن عمارا كان في عسكر علي ، وهو المستحق للإمامة ، فامتنعوا عن بيعته . وحكي أن معاوية كان يؤول معنى الحديث ويقول : نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان ، وهذا كما ترى تحريف ، إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحديث في إظهار فضيلة عمار وذم قاتله ، لأنه جاء في طريق ويح . قلت : ويح كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له ، بخلاف ويل ، فإنها كلمة عقوبة تقال للذي يستحقها ولا يترحم عليه ، هذا وفي الجامع الصغير برواية الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفوعا ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ) وهذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادر من البغي المطلق في الكتاب ، كما في قوله تعالى : وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقوله سبحانه : فإن بغت إحداهما على الأخرى فإطلاق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول عن العدل ، وميل إلى الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه .

[ ص: 3786 ] والحاصل أن البغي بحسب المعنى الشرعي والإطلاق العرفي ، خص عموم معنى الطلب اللغوي إلى طلب الشر الخاص بالخروج المنهي ، فلا يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان ، وهو عثمان رضي الله عنه ، وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال : إنما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال ، وصار سببا لقتله في المآل ، فقيل له في الجواب : فإذن قاتل حمزة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان باعثا له على ذلك ، والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين .

والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلاث : إحداها : أنه سيقتل ، وثانيها : أنه مظلوم ، وثالثها : أن قاتله باغ من البغاة ، والكل صدق وحق ، ثم رأيت الشيخ أكمل الدين قال : الظاهر أن هذا أي : التأويل السابق عن معاوية ، وما حكي عنه أيضا من أنه قتله من أخرجه للقتل وحرضه عليه كل منهما افتراء عليه ، أما الأول فتحريف للحديث ، وأما الثاني فلأنه ما أخرجه أحد ، بل هو خرج بنفسه وماله مجاهدا في سبيل الله قاصدا لإقامة الغرض ، وإنما كان كل منهما افتراء على معاوية لأنه رضي الله عنه أعقل من أن يقع في شيء ظاهر الفساد على الخاص والعام .

قلت : فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه بإطاعته الخليفة ، ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة ، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغيا ، وفي الظاهر متسترا بدم عثمان مراعيا مرائيا ، فجاء هذا الحديث عليه ناعيا ، وعن عمله ناهيا ، لكن كان ذلك في الكتاب مسطورا ، فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجورا ، فرحم الله من أنصف ولم يتعصب ولم يتعسف ، وتولى الاقتصاد في الاعتقاد ، لئلا يقع في جانبي سبيل الرشاد من الرفض والنصب بأن يحب جميع الآل والصحب . ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية