صفحة جزء
5889 - وعن أبي إسحاق رضي الله عنه ، قال : قال رجل للبراء : يا أبا عمارة ! فررتم يوم حنين ؟ قال : لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن خرج شبان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده ، فنزل واستنصر ، وقال : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) ثم صفهم . رواه مسلم ، وللبخاري معناه .


5889 - ( وعن أبي إسحاق ) : قال المؤلف : هو أبو إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي ، رأى عليا وابن عباس وغيرهما ، وسمع البراء بن عازب ، وزيد بن الأرقم . روى عنه الأعمش ، وشعبة ، والثوري ، وهو تابعي مشهور كثير الرواية . ( قال : قال رجل ) : جاء في رواية أنه من قيس لكن لا يعرف اسمه ( للبراء : يا أبا عمارة ) بضم فتخفيف ( فررتم ) أي : أفررتم كما في الشمائل ، وفي رواية : أفررتم كلكم ( يوم حنين ؟ قال : لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : لا حقيقة ولا صورة ، وفي العدول عن تغيير فر إلى ولى حسن عبارة ( ولكن خرج ) أي : إلى العدو ( شبان أصحابه ) : بضم الشين وفتح الموحدة أي : جماعة من الشباب ممن ليس لهم وقار ورأي عليه مدار ، ولهذا عبر عنه في رواية الشمائل بقوله : ولكن ولى سرعان من الناس أي : الذين يتسارعون إلى الشيء من غير روية ومعرفة كاملة كما يدل عليه قوله : ( ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة ) أي : تلقتهم هوازن بالنبل على ما في الشمائل ( لا يكاد يسقط لهم سهم على الأرض ، فرشقوهم ) أي : فرموهم رشقا ( ما كانوا يخطئون ) ، قال النووي : هذا

[ ص: 3792 ] الجواب الذي أجابه البراء من بديع الأدب لأن تقدير الكلام فررتم كلكم ، فيقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافقهم في ذلك ، فقال البراء : لا والله ما فر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا ، ( فأقبلوا ) أي : الشبان ( هناك ) أي : ذلك الزمان أو المكان ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي : متحيزين إليه ، والمعنى أنه مع هذا لا يصدق عليهم الفرار لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة قد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا فئتكم ) .

فإن قلت : ذكر في الحديث السابق ولى المسلمون مدبرين ، وفي هذا الحديث : فأقبلوا ، فكيف الجمع ؟ قلت : المراد له أن جمعا من المسلمين وقع لهم صورة الإدبار ، ثم بعد توجهه - صلى الله عليه وسلم - إليهم ومناداتهم بصياح العباس حصل لهم سعادة الإقبال ، ودولة الاتصال والانتقال من صورة الفرار إلى سيرة القرار . ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء ) : قال العسقلاني : وقع عند البخاري على بغلته البيضاء ، وعند مسلم من حديث العباس أن البغلة التي كانت تحته يوم حنين أهداها له فروة بن نفاثة ، وهذا هو الصحيح . وذكر أبو الحسن بن عبدوس أن البغلة التي ركبها يوم حنين هي : ( دلدل ) وكانت شهباء أهداها له المقوقس ، يعني : صاحب الإسكندرية ، وأما التي أهداها له فروة يقال لها : فضة ، ذكر ذلك ابن سعد ، وذكر عكسه ، والصحيح ما في مسلم . ( وأبو سفيان بن الحارث يقوده ) أي : يمشي قدامه ، أو يقود بغلته على حذف مضاف ، أو بتأويل المركوب ، وهذا بظاهره يعارض ما تقدم من أن العباس كان آخذا باللجام ، وأن أبا سفيان كان آخذا بالركاب ، لكن يمكن حمله على سبيل التناوب ، أو على تلك أن الحال لشدتها احتاج إلى اثنين . ( فنزل ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( واستنصر ) أي : طلب النصر والفتح لأمته كما يأتي تتمة قصته ( وقال ) : وفي نسخة فقال : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) : بسكون الباء فيهما على جري العادة في السجع والنظم ، وإنما صدر هذا من مشكاة صدر النبوة مستقيما على وزن الشعر بمقتضى طبعه الموزون من غير تعمد منه ، فلا يعد ذلك شعرا .

قال القاضي عياض : قد غفل بعض الناس وقال : الرواية أنا النبي لا كذب بفتح الباء ، وعبد المطلب بالخفض حرصا على تغيير الرواية ليستغني عن الاعتذار ، وإنما الرواية بإسكان الباء ، وقال الخطابي : اختلف الناس في هذا ، وما أشبهه من الرجز الذي جرى على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأوقاته ، وفي تأويل ذلك مع شهادة الله تعالى بأنه لم يعلم الشعر وما ينبغي له ، فذهب بعضهم إلى أن هذا وما أشبهه وإن استوى على وزن الشعر ، فإنه إذا لم يقصد به الشعر ، إذ لم يكن صدوره عن نية له وروية فيه ، وإنما هو اتفاق كلام أحيانا فيخرج منه الشيء بعد الشيء على بعض أعاريض الشعر ، وقد وجد في كتاب الله العزيز من هذا القبيل ، وهذا مما لا يشك فيه أنه ليس بشعر .

قال النووي ، فإن قيل : كيف نسب نفسه إلى جده دون أبيه ، وافتخر بذلك مع أن الافتخار من عمل الجاهلية ; فالجواب : أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت شهرته بجده أكثر ، لأن أباه قد توفي شابا قبل اشتهاره ، وكان جده مشهورا شهرة ظاهرة شائعة ، وكان سيد أهل مكة ، وكان مشتهرا عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيظهر ، ويكون شأنه عظيما ، وكان أخبره بذلك سيف بن ذي يزن ، يعني : وجماعة من الكهان ، وقيل : إن عبد المطلب رأى رؤيا تدل على ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك مشهورا عندهم ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذكرهم بذلك ، وينبههم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا بد له من ظهوره على الأعداء ، وأن العاقبة له لتقوى نفوسهم ، وأعلمهم أيضا أنه ثابت يلازم الحرب لم يول مع من ولى ، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون ، وأما قوله : أنا النبي لا كذب ، فمعناه أنا النبي حقا ، فلا أفر ، ولا أزول ، وفيه دليل على جواز قول الإنسان في الحرب : أنا فلان ، أو أنا ابن فلان ، يعني : أنه يجري على مقتضى العادة إظهاره للشجاعة ، فلا يعد من باب الرياء والسمعة . ( ثم ) أي : بعدما اجتمع المسلمون ، ورجع الشبان المسرعون ( صفهم ) أي : جعلهم صافين كأنهم بنيان مرصوص ( رواه مسلم ) .

( وللبخاري معناه ) أي : فالحديث متفق عليه في مؤداه .

[ ص: 3793 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية