صفحة جزء
5893 - وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله .

حتى إذا كان ذات يوم عندي ، دعا الله ودعاه ، ثم قال : ( أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته ، جاءني رجلان ، جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي . قال : في ماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ) فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه إلى البئر . فقال : ( هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ) فاستخرجه .
متفق عليه .


5893 - ( وعن عائشة ، قالت : سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : سحره يهودي ( حتى إنه ليخيل إليه ) : بصيغة المفعول أي : ليظن ( أنه فعل الشيء ) أي : الفلاني مثلا ( وما فعله ) ، أي : والحال أنه ما فعل ذلك الشيء . قيل : معناه أنه غلب عليه النسيان بحيث يتوهم من حيث النسيان أنه فعل الشيء الفلاني وما فعله ، أو أنه ما فعله وقد فعل ، وذلك في أمر الدنيا لا في الدين ، ونظيره ما قال تعالى في حق موسى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أي : والحال أنها ما تسعى ، بل أنهم لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت ، فخيل إليه أنها تتحرك فأوجس في نفسه خيفة موسى قال البيضاوي : يعني فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، وقد قرئ : يخيل على إسناده إلى الله سبحانه . قال النووي : قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعم أنه يحط من منزل النبوة لذلك ، وأن تجوزه يمنع الثقة بالشرع ، وهذا الذي ادعاه باطل ; لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ ، والمعجزة شاهدة بذلك ، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل ، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بها ، فهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من السحر . وقد قيل : إنه إنما كان يتخيل إليه ما يخيل ، ولكنه لم يعتقد صحته ، وكانت معتقداته على الصحة والسداد . أقول : ويمكن أن يعتقد صحة ما لم يتعلق بالدين ، ثم ينبه عليه ، ويبين له صحيح الاعتقاد كما قال تعالى لموسى : لا تخف إنك أنت الأعلى وقيل : معنى ليخيل إليه أي يظهر له من نشاطه أنه قادر على إتيان النساء ، فإذا دنا منه أخذته أخذة السحر ، فلم يتمكن من ذلك .

[ ص: 3795 ] قال النووي : وكل ما جاء من أنه يخيل شيئا لم يفعله ، فمحمول على التخيل بالبصر لا بالعقل ، وليس فيه ما يطعن بالرسالة . قال المظهر : وأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بأنبيائه ، فليس كذلك ; لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم ، وهم بشر يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم ، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل ، وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم ، وقد قتل زكريا وابنه ، وسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله عز وجل وأرصدهم له ، وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد وتبديل بأن لا يطول ذلك ، بل يزول سريعا ، وكأنه ما حل ، وفائدة الحلول تنبيه على أن هذا بشر مثلكم ، وعلى أن السحر تأثيره حق ، فإنه إذا أثر في أكمل الإنسان فكيف غيره ؟ ( حتى إذا كان ذات يوم ) : بالنصب ويجوز الرفع ذكره العسقلاني ، لكن الرفع لا يلائم قولها ( عندي ، دعا الله ودعاه ) ، كرر للتأكيد أو التكثير أي : وأكثر الدعاء . قال الطيبي : أي : أتى عقب دعائه بدعاء واستمر عليه ، ويدل على هذا التأويل الرواية الأخرى ، ثم دعا ثم دعا . قال النووي : هذا دليل على استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة ، وحسن الالتجاء إلى الله تعالى .

( ثم قال : أشعرت ) أي : أعلمت ( يا عائشة ! أن الله قد أفتاني ) أي : بين لي فيما استفتيته أي فيما طلبت بيان الأمر منه ، وكشفه عنه . ثم بينه بقوله : ( جاءني رجلان ) أي : ملكان على صورة رجلين ( جلس أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ) ، وفي نسخة بالتثنية ( ثم قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ) ؟ أي ما سبب تعبه الذي بمنزلة وجعه ( قال : مطبوب ) . أي هو مسحور ، يقال : طب الرجل إذا سحر ، فكنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا بالسليم على اللديغ . ( قال ) أي : الآخر ( ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ) . قيل أي : بناته ؛ لقوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد أي النساء أو النفوس السواحر التي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق . قال القاضي : وتخصيصه بالتعوذ لما روي أن يهوديا سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر ، فمرض النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل بموضع السحر ، فأرسل عليا رضي الله عنه ، فجاء به فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر انتهى . والظاهر أن ذلك قضية أخرى ، فإنها مغايرة لما في هذا الحديث ، ويمكن الجمع بينهما بوقوع نوعين من السحر له - صلى الله عليه وسلم - ليكون أجره مرتين . وإن أحدهما وهو ما في هذا الحديث وقع من لبيد ، والآخر من بناته ، والله أعلم .

( قال ) أي : الآخر ( في ماذا ) ؟ أي سحر في أي شيء ( قال : في مشط ) : بضم الميم . وفي القاموس : المشط مثلثة وككتف وعنق وعتل ومنبر آلة يمتشط بها ( ومشاطة ) : بضم الميم ما سقط من شعر الرأس أو اللحية عند تسريحه بالمشط ( وجف طلعة ذكر ) ، بضم الجيم وتشديد الفاء ، وهو وعاء طلع النخل ، وطلعة ذكر على الإضافة ، وأراد بالذكر فحل النخل ، قيل : ويروى جب بالباء الموحدة أي : داخل طلعة ذكر . قال النووي : الجف ، بضم الجيم والفاء ، هكذا هو في أكثر بلادنا . وفي بعضها جب بالباء ، وهما بمعنى ، وهو وعاء طلع النخل ، ويطلق على الذكر والأنثى ، فلهذا أضاف في الحديث طلعة إلى ذكر إضافة بيان . ( قال : فأين هو ) أي : ما ذكر مما سحر به ( قال : في بئر ذروان ) : بفتح الذال المعجمة . قال شارح : وفي كتاب مسلم في بئر ذي أروان . قيل : هو الصواب ; لأن أروان بالمدينة أشهر من ذروان ، وذروان على مسيرة ساعة من المدينة ، وفيه بني مسجد الضرار ، قلت : فذروان أوفق في هذا المقام ، والله أعلم بالمرام .

وقال النووي : وفي كتاب مسلم في بئر ذي أروان ، وكذا وقع في بعض روايات البخاري ، وفي معظمها

[ ص: 3796 ] ذروان ، وكلاهما صحيح مشهور ، والأول أصح وأجود ، وهي بئر في المدينة في بستان أبي زريق ( فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس ) أي : مع جمع ( من أصحابه ) أي : المخصوصين ( إلى البئر : ( هذه البئر التي أريتها ) : بصيغة المفعول ( وكأن ) : بالتشديد ( ماءها نقاعة الحناء ) ، بضم النون أي : لونه ، والمعنى أن ماءها متغير لونه مثل ماء نقع فيه الحناء والنقاعة ما يخرج من المنقوع . ( وكأن نخلها رءوس الشياطين ) . قال التوربشتي : أراد بالنخل طلع النخل ، وإنما أضافه إلى البئر ، لأنه كان مدفوعا فيها ، وأما تشبيهه ذلك برءوس الشياطين ، فلما صادفوه عليه من الوحشة والنفرة وقبح المنظر ، وكانت العرب تعد صور الشياطين من أقبح المناظر ذهابا في الصورة إلى ما يقتضيه المعنى ، وقيل : أريد بالشياطين الحيات الخبيثات العرمات ، وأيا ما كان فإن الإتيان بهذا المنظر في الحديث مسوق على نص الكتاب في التمثيل . قال تعالى : كأنه رءوس الشياطين ( فاستخرجه ) ، أي ما ذكر مما سحر به ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية