صفحة جزء
5975 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) متفق عليه .


5975 - ( وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تقتسم ورثتي دينارا ) ، بتأنيث الفعل ورفعه ، فهو إخبار حقيقة ، ومعناه ليس تقتسم ورثتي بعد موتي دينارا إذ لست أخلف بعد موتي دينارا أملكه ، فيقتسمون ذلك ، ويحتمل أن يكون إخبارا في الصورة ونهيا في المعنى ، فهو أبلغ من النهي الصريح . قال الطيبي : ويجوز أن يكون بمعنى النهي فهو على منوال قوله :

على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا دينار هناك فيقسم اه . وفي نسخة بالتذكير ، وفي أخرى بالجزم ، وفي بعض النسخ : لا تقتسم من الاقتسام مرفوعا ومجزوما . قال ميرك : هو بإسكان الميم على النهي ، وبضمها على النفي وهو الأشهر ، وبه يستقيم المعنى حتى لا يعارض ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يترك مالا يورث عنه ، وتوجيه رواية النهي أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا ، بل كان ذلك محتملا . فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلفه ، ذكره العسقلاني . وقال ابن حجر في شرح الشمائل : رواية مسلم لا يقتسم وهو نفي لا نهي ; لأن المنهي عنه شرطه الإمكان وإرث النبي غير ممكن ، فتمحض للإخبار بأنهم لا يقتسمون شيئا لأنه لا يورث اه . وفيه أن الشرط هو الإمكان العقلي ، وهو متصور لا الإمكان الشرعي لئلا يتعارضا ، ثم قوله : ( ورثتي ) أي بالقوة ، وإلا فحيث لا قسمة فلا ورثة ، قال ابن حجر ، أي : من يصلح ورثتي لو أمكنت . وقال ميرك : هم ورثته باعتبار أنهم كذلك بالقوة ، لكن منعوا من الميراث بالدليل الشرعي وهو قوله : لا نورث ، ثم بين سببه وعلته مستأنفا ( ما تركت ) : ما : موصولة مبتدأ ، وتركت صلته ، والعائد محذوف أي الذي تركته ( بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) . والفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط كقولهم : الذي يأتيني فله درهم ، وهو ضمير الفصل يفيد التوكيد والتأبيد ، وفي شرح السنة : قال سفيان بن عيينة : كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في معنى المعتدات ، إذ كن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا فجرت لهن النفقة . وقوله : ( ومؤنة عاملي ) أراد بالعامل الخليفة بعده ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقة أهله من الصفايا التي كانت له من أموال بني النضير وفدك ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين ، ثم وليها أبو بكر ثم عمر كذلك ، فلما صارت إلى عثمان استغنى عنها بماله ، فأقطعها مروان وغيره من أقاربه ، فلم يزل في أيديهم حتى ردها عمر بن عبد العزيز . وقال شارح من علمائنا : يريد بما تركه من أموال الفيء التي كان يتصرف فيها تصرف الملاك ، ولم يكن ذلك لغيره . وقوله : بعد نفقة نسائه لأن نفقة نسائه بعده كانت تتعلق بحياة كل واحدة منهن لكونهن محبوسات عن النكاح في الله وفي رسوله ، وبقي حكم نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - باقيا مدة بقائهن ، فوجب لهن النفقة من مال الفيء وجوب نفقة النساء على أزواجهن .

والحاصل أنه ليس معنى نفقة نسائه إرثهن منه ، بل لكونهن محبوسات وممنوعات عن الأزواج بسببه فهن في حكم المعتدات ما دامت حياتهن ، وقيل : لا عدة عليهن لأنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره ، وكذلك سائر الأنبياء ، فعلى هذا لا إشكال في نفقة النساء . وقال بعضهم : لعظم حقوقهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين ، ولذلك اختصصن بمساكنهن ولم يرثها ورثتهن . قال الشارح : وأما نفقة عامله فإنها تتعلق بعامل ذلك ، وهو العامل الذي استعمله على مال الفيء فاستحق العمالة بقدر عمله ، ولم يكن يأخذها فاستثناها من مال الفيء اه .

ولفظ الحديث : ( ومؤنة عاملي ) ففي شرح المشارق المؤنة فعولة من مأنت القوم ، أي : احتملت مؤنتهم ، وفي الصحاح : المؤنة يهمز ولا يهمز . وقال الفراء : مفعلة من الأبن وهو التعب والشدة وقيل : هي مفعلة من الأون وهو الحرج والعدل لأنها ثقل على الإنسان اه .

وفي الحديث : المعونة تأتي على قدر المؤنة . وقال بعض المحققين : اختلف في المراد بقوله : ( مؤنة عاملي ) فقيل : الخليفة بعده ، وهذا هو المعتمد ، وقيل : يريد بذلك العامل على النخل والقيم على الأرض ، وبه جزم الطبري وابن بطال ، وأبعد من قال المراد بعامله حافر قبره عليه الصلاة والسلام . وقال ابن دحية في الخصائص : المراد بعامله خادمه العامل على الصدقة ، وقيل : العامل فيها كالأجير ، واستدل به على أجرة القسام ، وقيل : كل عامل للمسلمين إذ هو عامل له ونائب عنه في أمته . ( متفق عليه ) .

ورواه الترمذي في الشمائل بزيادة ( ولا درهما ) فقيل : فائدة التقييد بهما التنبيه على أن ما فوقهما بذلك أولى ، وهذا الحكم عام في الأنبياء لورود الحديث الآتي : ( لا نورث ما تركنا صدقة ) يعني لا نورث نحن معاشر الأنبياء ، فإنا من جملة الفقراء ، ومن شرط الفقير عند الصوفية أنه لا يملك فما في يده إما أمانة أو وقف أو صدقة ، وحاصل الحديث : ما ميراثنا إلا واقع ومنحصر في صرف أحوال الفقراء والمساكين ، كما جاء في حديث آخر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث إنما ميراثه في المسلمين والمساكين . وقيل لئلا يفرح أحد بموته من ورثته من حيثية أخذ تركته ، وخالف الحسن البصري في المسألة العامة ، وقال : هذا .

[ ص: 3861 ] ]

الحكم مختص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى : يرثني ويرث من آل يعقوب وقال : وهي وراثة مال لا نبوة ، وإلا لم يقل : وإني خفت الموالي من ورائي إذ لا يخافهم على النبوة ، وصوب الجمهور خلاف قوله لخبر النسائي : ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ) . والمراد في الآية : وراثة النبوة دون حقيقة الإرث ، بل قيامه مقامه وحلوله مكانه ، وعلى هذا فإنما خاف من استيلاء الموالي على مرتبته الظاهرة بالقهر والقوة والغلبة ، هذا وقال الباجي : أجمع أهل السنة أن هذا حكم جميع الأنبياء ، وقال ابن علية : إن ذلك لنبينا - عليه الصلاة والسلام - وقالت الإمامية : إن جميع الأنبياء يورثون ذكره السيوطي .

التالي السابق


الخدمات العلمية