صفحة جزء
55 - وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آية المنافق ثلاث " . زاد مسلم : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " ، ثم اتفقا : ( إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .


55 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ) وإنما لم يقل : وعنه ؛ لئلا يتوهم رجوع الضمير إلى ابن عباس ، أو البخاري ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( آية المنافق ) أي علامة نفاقه الدال على قبح نيته وفساد طويته ، وأصله من يظهر خلاف ما يضمر ، ثم غلب على من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ( ثلاث ) أي خصال ، والآية : العلامة ، وإفرادها إما على إرادة الجنس أي كل واحد منها آية أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث ، ويؤيد الأول ما ورد في صحيح أبي عوانة بلفظ : علامات المنافق ثلاث . فإن قيل : ظاهر الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ : أربع من كن فيه . . . الحديث ؟ أجاب القرطبي باحتمال أنه - عليه الصلاة والسلام - استجد له العلم بخصالهم ما لم يكن عنده ، وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني : ليس بين الحديثين تعارض ؛ لأنه لا يلزم من عد الخصلة كونها علامة على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر ، فإن لفظه من علامة المنافق ثلاث ، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وبعضها في وقت آخر . ( زاد مسلم : ( وإن صام وصلى ) التثنية للتكرير والاستيعاب . أي وإن عمل عمل المسلمين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات ، وفي رواية : وإن صلى ، وصام ، وحج ، واعتمر ، وقال إني مسلم . وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب . ( وزعم ) أي ادعى ( أنه مسلم ) أي كامل ( ثم اتفقا ) أي البخاري ومسلم ، فقالا : ( إذا حدث كذب ) وهو أقبح الثلاثة ، والجملة خبر بعد خبر ( وإذا وعد ) أي أخبر بخير في المستقبل إذ " وعد " يغلب في الخير ، و " أوعد " في الشر ، وأيضا الخلف في الوعيد من مكارم الأخلاق ، قال الشاعر :


وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

( أخلف ) أي جعل الوعد خلافا بأن لم يف بوعده ، ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل ، وهو غير الكذب الذي هو لازم التحديث ، وليس فيه ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد ؛ لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمينه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد لا إن طرأ له كما هو واضح على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها ، إذا المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على المحرم ، ونظيره علامات الساعة ، فإن منها ما ليس بمحرم ( وإذا اؤتمن ) بالبناء للمجهول أي جعل أمينا . قال ابن حجر : وفي رواية : اتمن ، بتشديد التاء لقلب همزته الثانية واوا وإبدالها وإدغام التاء في التاء اهـ .

ولعل هذا الإعلال قبل دخول إذا عليه ، ومع هذا قال البيضاوي في قوله تعالى : ( فليؤد الذي اؤتمن ) قرأ ورش والسوسي " الذي يتمن " بقلب الهمزة ياء ، وقرئ " والذتمن " بإدغام ، وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها ، فلا تدغم اهـ .

ولذا قال المحققون من القراء : قراءة هذا بالتشديد مخالف للرواية والدراية ، فالصحيح في الرواية هنا إما بالهمزة الساكنة أو إبدالها ألفا ( خان ) ورواه ابن ماجه والترمذي ، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي عليها مبنى النفاق من مخالفة السر العلن ، فالكذب الإخبار على خلاف الواقع ، وحق الأمانة أن تؤدى إلى أهلها ، فالخيانة مخالفة لها ، وإخلاف الوعد ظاهر ؛ ولهذا صرح بـ " أخلف " . فإن قيل : هذا الحديث مشكل من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره ، قلنا : اللام في المنافق إما أن تكون للجنس ، فهو إما [ ص: 127 ] على التشبيه لنفاق العمل الذي لا ينافي الإسلام بنفاق الاعتقاد الذي ينافيه بجامع أن كلا فيه إظهار بخلاف ما أبطن ، أو أن المراد الاعتياد ؛ ولذا قيد هذا بإذا المقتضية للتكرار يعني أن النفاق العملي إذا وقع كثيرا بحيث إنه يصير عادة قد يجر إلى النفاق الحقيقي بخلاف من وقعت له هذه الخصال ، أو بعضها نادرا ، فالحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال ، وقال البيضاوي : يحتمل أن يكون عاما لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه إيذانا بأنها طلائع النفاق الذي هو أسمج القبائح ؛ لأنه كفر ضموا إليه الاستهزاء والخداع برب الأرباب ، ومسبب الأسباب ، فيعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين ، فينبغي للمسلم ألا يرتع حولها ، فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ويحتمل أن المراد بالمنافق المنافق العرفي ، وهو من يخالف سره علنه مطلقا ، ويشهد له قوله : ومن كانت فيه خصلة ، وكذا قوله : خالصا ; لأن الخصال التي يتم بها المخالفة بين السر والعلن لا تزيد على هذا . قال النووي : حصل من الحديثين خمس خصال ، وقال في شرح مسلم : إذا عاهد غدر داخل في إذا اؤتمن خان . وباعتبار ذلك يرجع إلى ثلاث بل إلى واحدة هي أقبحها ، وهي الكذب ، قيل : لكن الحق أنها خمسة باعتبار تغايرها عرفا أو تغاير أوصافها ولوازمها ، ولا تنافي بين قوله : ثمة ثلاث ، وهنا أربع ؛ لأن مفهوم العدد ليس بحجة عند الأكثرين ، وعلى مقابله الذي صححه غير واحد فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالوحي بثلاث ، ثم بأربع ، أو معناه الإنذار والتحذير من أن يعتاد هذه الخصال فتفضي به إلى النفاق الخالص ، وإما للعهد إما من منافقي زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإما من منافق خاص شخص بعينه ، أو المراد بالنفاق هو النفاق العملي لا الإيماني ، أو المراد النفاق العرفي ، وهو ما يكون سره خلاف علنه ، واستحسن هذا ؛ لأن النفاق الشرعي وهو الاعتقادي الذي هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام ، وعرفي وهو العملي الذي هو إبطان المعصية وإظهار الطاعة ، فإرادته هنا أولى . وإطلاق النفاق على العملي كإطلاق الكفر على بعض كبائر الذنوب في نحو قوله - عليه الصلاة والسلام - : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . وأبى الحسن البصري مرة هذا الإطلاق ، ومرة قال به ، فسمى صاحب الكبيرة منافقا ، ويحكى أنه رجع عن الأول لما أرسل له عطاء إذ بلغه عنه ذلك أن إخوة يوسف عليهم الصلاة والسلام وجدت فيهم تلك الثلاثة أفتراهم منافقين ؟ فسر بما نبهه عليه عطاء ، وروي أن مقاتلا قال لابن جبير : إن هذا الحديث أفسد علي معيشتي لأني أظن ألا أسلم من هذه الثلاث أو بعضها ، فضحك وقال : قد أهمني ذلك . فسألت عنه ابن عمر وابن عباس فضحكا وقالا : أهمنا ذلك . فسألنا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال : ( ما لكم وما لهن ) ! أما قولي : إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله علي ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، وأما إذا وعد أخلف فذلك في قوله تعالى : ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ) الآية . وأما إذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة ) الآية ، وأنتم برآء من ذلك . قال ابن حجر : وما ذكر في أولاد يعقوب مبني على القول بأنهم غير أنبياء ، أما على القول بأنهم أنبياء فيتعين تأويل ما صدر منهم بحمله على محامل التجوزات والكنايات التي تقتضي عدم وقوع حقائق ذلك منهم ؛ إذ الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها عن كبائر الذنوب وصغارها ، ولو سهوا على ما هو الحق عند المحققين ، وإن كان الأكثرون على خلافه ، ويؤيد القول بنبوتهم بل يصح به قوله تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) وهم - أعني الأسباط - أولاد يعقوب ، فالآية مصرحة بوجوب الإيمان بما أنزل إليهم ، ويلزم من الإنزال إليهم نبوتهم كلهم اهـ .

[ ص: 128 ] وفيه نظر ؛ لأن السبط على ما هو المعروف في العرف واللغة ولد الولد ، ففي القاموس : السبط - بالكسر - ولد الولد ، والقبيلة من اليهود ، جمعه أسباط ، وفي النهاية الأسباط في أولاد إسحاق بن إبراهيم بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ، وأحدهم سبط ، فهو واقع على أمة اهـ . ولا يلزم من الإنزال إليهم أن يكونوا كلهم أنبياء ، إذ يمكن أن يكون أحدهم نبيا ، والباقون مأمورون باتباعه كما في قوله تعالى : ( وما أنزل إلينا ) ثم على ثبوت نبوتهم جميعا وعدم تجويز الصغيرة ولو سهوا ينسد باب تأويل ما صدر منهم من العقوق ، وقطع صلة الرحم ، وبيع الحر ، وقولهم : ( أكله الذئب ) ووعدهم بالحفظ بقولهم : ( وإنا له لحافظون ) وإتيانهم عشاء يبكون إظهارا للحزن ، وقولهم : ( ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ) وقولهم : ( اقتلوا يوسف ) وطرحهم إياه في البئر مع أن تأويلها يخالفه أقوال السلف من إلزام عطاء والتزام الحسن . فالصحيح قول الجمهور ، وهو تجويز وقوع الكبائر من الأنبياء سهوا والصغائر عمدا بعد الوحي ، وأما قبل الوحي فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة ، وذهب المعتزلة إلى امتناعها ، ونفت الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية