صفحة جزء
691 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد ، وعثمان بن طلحة الحجبي ، وبلال بن رباح ، فأغلقها عليه ومكث فيها ، فسألت بلالا حين خرج : ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فقال : جعل عمودا من يساره ، وعمودين عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ، ثم صلى . متفق عليه .


691 - ( وعن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد ) برفع أسامة على العطف ، وهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وعثمان بن طلحة الحجبي ) الحاجب : البواب ، الجمع حجبة ، والمراد به فاتح بيت الله ( وبلال بن رباح ) : بفتح الراء ; مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأغلقها ) أي : الكعبة يعني بابها ، والفاعل بلال ، فإنه أقرب أو عثمان فإنه أنسب ، ( عليه ) أي : على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية : عليهم ، وهو ظاهر قاله ابن الملك ، ويمكن أن يكون الفاعل هو النبي عليه السلام بمعنى الآمر ، ويلائمه قوله ( ومكث فيها ) : بضم الكاف وفتحها أي : توقف فيها النبي صلى الله عليه وسلم واشتغل بالدعاء . قال الطيبي : وإنما أغلق عليه السلام الباب ; لئلا يجتمع عليه الناس ، ثم رأيت الأبهري قال : ضمير الفاعل في أغلقها عائد إلى عثمان كما وقع التصريح به في رواية لمسلم ، وفي رواية : فأغلقاها ، فالضمير لعثمان وبلال ، وفي رواية للبخاري ومسلم : فأغلقوا والجمع بين الروايات : أن عثمان هو المباشر ، فأما ضم بلال فلعله ساعده في ذلك ، وأما الجمع فباعتبار أن غيرهما أمر بذلك اهـ .

والأحسن في الجمع أن يكون بمساعدة أسامة وبأمره عليه السلام ، والله أعلم . وقال ابن حجر : الظاهر إنما أغلقه ; خوفا من الزحمة ووقوع الضر ، وليكون أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه . قال : ثم رأيت النووي صرح بذلك ، وقال الشافعي : إنما أغلقه لوجوب الصلاة إلى جدار من جدرانها ، فدل على أنه لو صلى إلى الباب وهو مفتوح ، ولم تكن عتبته مرتفعة ثلثي ذراع لم يصح ; لأنه لم يستقبل منها شيئا ، وهو تعليل غريب وتفريع عجيب . ووقع في صحيح البخاري عن بعض الرواة : أنه إنما أغلقه لئلا يستدبر شيئا من البيت ، ورد بأنه إذا أغلق صار كأنه جدار البيت ، ثم لما هدمها ابن الزبير وضع أعمدة وستر عليها الستور لاستقبال المستقبلين وطواف الطائفين ، وقد قال ابن عباس : إن كنت هادمها فلا تدع الناس لا قبلة لهم أي : لا علامة للقبلة ، فلا دلالة على أن بقعة البيت ليست عندهما كالبيت ، كما فهم ابن حجر ; لأن الإجماع على جواز الاستقبال إلى هواء الكعبة من الخارج ، ولهذا قال جابر : صلوا إلى مواضعها ، ولا فرق بين الداخل والخارج ، خلافا للشافعي في اعتبار الهواء للخارج دون الداخل . ( فسألت بلالا حين خرج : ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أي : داخل البيت ( فقال ) أي : بلال ( جعل ) صلى الله عليه وسلم ( عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه ) وفي بعض الروايات : جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه ، والجمع على تعدد الدخول ظاهر ، وعلى عدمه يحمل أحدهما على موقف الصلاة والآخر على موقف الدعاء ، والله أعلم . ( وثلاثة أعمدة وراءه ) أي : خلفه ، وقيل : قدامه ( وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ) وأما الآن فعلى ثلاثة أعمدة . قال الطيبي : وذلك قبل أن بناها الحجاج في فتنة ابن الزبير وهدم الكعبة اهـ .

والمشهور أن الحجاج إنما غير جدار الحجر فقط ، والله أعلم . ( ثم صلى ) أي : متوجها إلى الجدار الغربي المقابل للجدار الشرقي الذي فيه الباب تقريبا ، بينه وبينه ثلاثة أذرع . قال الإمام النووي في الجمع بين رواية بلال المثبت لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ، وبين رواية أسامة النافي لصلاته : أجمع أهل الحديث على الأخذ براوية بلال ، لأنه مثبت فمعه زيادة علم فوجب ترجيحه ، وأما نفي أسامة فيحتمل أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء ، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ، فاشتغل هو بالدعاء أيضا في ناحية من نواحي البيت ، والرسول صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى وبلال قريب منه ، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ، ولم يره أسامة لبعده مع خفة الصلاة وإغلاق الباب واشتغاله بالدعاء ، وجاز له نفيها عملا بظنه . قال بعض العلماء : يحتمل أنه عليه السلام دخل مرتين فمرة صلى فيه ومرة دعا ولم يصل فيه ، فلم تتضاد الأخبار ، كذا في شرح الكرماني . قال ميرك : وأقول احتمال تعدد الدخول خلاف ما عليه الجمهور من أن دخوله عليه السلام الكعبة بعد الهجرة لم يكن إلا مرة واحدة اهـ .

[ ص: 584 ] وقال ابن حبان : الأشبه حملهما على دخولين متغايرين ، أحدهما : يوم الفتح وصلى فيه ، والآخر : في حجة الوداع ، دخلها يوم النحر ولم يصل فيه ، ودخلها من الغد وصلى فيه . رواه الدارقطني بإسناد حسن ، عن ابن عمر وحمل بعضهم نفي أسامة على أنه ذهب - كما رواه ابن المنذر - ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم بماء في الدلو ، حتى يمحو به الصور التي في الكعبة ، فوقعت الصلاة في غيبته . قال ابن حجر : ووقع للفخر الرازي في تفسيره : أنه نازع في خبر بلال بما يعلم رده مما تقرر ، وللشارح كلام نحو كلامه ، وزعمه أن الحديثين تعارضا ، - فيحمل على النسخ - في غاية التهافت لما مر من خبر الدارقطني أن المتأخر هو الصلاة فتكون هي الناسخة للنفي اهـ .

وفيه أن النسخ لا يكون في الأخبار ، ولعله أراد النسخ المتعلق بالحكم المترتب على فعله من الجواز ، وعلى نفيه على عدمه ، وقد تقدم أن عدم صلاته بالفرض ، والتقدير لا يدل على نفي جوازها هذا ويستفاد من دخوله عليه السلام الكعبة وصلاته بها ، أنه يسن دخولها ، ويؤيده خبر البيهقي وقال : فيه من ليس بالقوي ، وجعله ابن أبي شيبة من قول مجاهد : من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة وخرج مغفورا .

قال ابن حجر فإن قلت : زعم بعضهم كراهة دخولها لخبر : صنعت اليوم شيئا لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما كنت صنعته . قالت عائشة : وما ذاك يا رسول الله ; قال : دخلت البيت وخشيت أن يأتي الآتي من بعدي يقول : حججت ولم أدخل البيت ، وأنه لم يكتب علينا دخوله ، وإنما كتب علينا طوافه . قلت : الحديث وإن صححه الترمذي ، في إسناده ضعيف ، على أنه لا حجة فيه لمطلق الكراهة ، بل لخصوص من يتوهم أنه من تمام الحج ، ونحن نقول به .

وقال الزركشي : ينبغي دخوله مرات . مرة يصلي فيه أربعا ، ومرة ركعتين ، ومرة يدعو لاختلاف الروايات في ذلك ، وحملها المحققون على دخوله مرات ، وليجتنب داخله الزحمة والمزاحمة ما أمكن ، فإن أكثر داخليها في هذا الزمان ربحهم أقل من خسرانهم ، وطاعتهم أقل من عصيانهم ، وقد قال ابن العربي : الحمد لله الذي أغنانا من منة الشيبية بإخراج الحجر من الكعبة الشريفة ، فقد ثبت أنه عليه السلام قال لعائشة حين سألت دخول الكعبة : صلي فيه فإنه منها ، وإذا دخلها ، فليدخل بأدب وخضوع وخشوع ، ويقدم رجله اليمنى في الدخول ، ويدعو بدعوات دخول المسجد ويزيد قوله : رب أدخلني مدخل صدق الآية . ولا ينظر إلى سقفها وما فيها من الزينة ، فعن عائشة : عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يدع بصره قبل السقف إجلالا لله تعالى وإعظاما ; دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده ، حتى خرج منها . صححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي بأنه منكر . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي قاله ميرك . قال ابن حجر : وفي الصحيحين ، أنه جعل عمودين عن يساره ، وعمودا عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه . وفي رواية للبخاري : عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه . قال البيهقي : وهو الصحيح اهـ .

وبهذا يعلم أن نسبة المصنف هذه للشيخين فيها نظر ، وفي رواية أبي داود : ثم صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع ، وفي رواية للبخاري ، عن ابن عمر أنه كان إذا دخل البيت مر قبل وجهه ، حتى يدخل ويجعل الباب خلف ظهره ، فيمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي يلي وجهه حين يدخل ثلاثة أذرع ، فيصلي وهو يتوخى المكان الذكي . أخبره بلال أنه عليه السلام صلى فيه . وفي الصحيحين : أن بلالا أخبره ، قال : صلى عليه السلام بين العمودين من السطر المقدم ، وجعل الباب خلف ظهره ، واستقبل بوجهه إلى الجانب الذي يستقبل حين يلج البيت ، بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع .

وقال ابن حجر : عثمان المذكور من بني عبد الدار ، وسبب وصول السدانة - بكسر السين وهي خدمة البيت - لهم أن جرهم لما استخفت بحرمة البيت شردهم الله ، ووليته خزاعة ، ثم بعدهم ولي قصي بن كلاب الحجابة وأمر مكة ، ثم أعطى ولده عبد الدار الحجابة وهي : السدانة ، واللواء ، ودار الندوة سميت بذلك ; لاجتماع الندى فيها وهم : الأشراف لإبرام أمورهم ، وأعطى ولد عبد مناف الرفادة والسقاية ، ثم جعل عبد الدار الحجابة إلى

[ ص: 585 ] ابنه عثمان ، ولم يزل الأمر في أولاده حتى ولي الحجبة عثمان بن طلحة المذكور في الحديث . قال : كنا نفتح الكعبة يوم الاثنين والخميس ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل مع الناس ، فنلت منه وحلم علي ثم قال : يا عثمان : لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت . فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت . قال عليه السلام : بل عزت ، ودخل الكعبة ، ووقعت كلمته مني موقعا ، وظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال ، وأردت الإسلام ، فإذا قومي يزبروني زبرا شديدا ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضاء أي : سنة سبع في ذي القعدة ، غير الله قلبي ، وأدخلني الإسلام ، ولم يعزم لي أن آتيه حتى رجع إلى المدينة ، ثم عزم لي الخروج إليه فأدلجت ، فلقيت خالد بن الوليد فاصطحبنا ، فقدمنا المدينة فبايعته ، وأقمت معه حتى خرجت معه في غزوة الفتح أي : سنة ثمان في رمضان ، فلما دخل مكة قال صلى الله عليه وسلم : يا عثمان ; ائت بالمفتاح ، فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال : ( خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ) .

وقال ابن عباس لما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح من عثمان ، فهم أن يناوله إياه فقال له العباس : بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية ، فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس ، فقال عليه السلام : ( أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ) ، فقال : هاكه يا رسول الله بأمانة الله ، فأخذ عليه السلام المفتاح وفتح البيت ، فنزل جبريل عليه السلام بقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ثم لم يزل عثمان يلي فتح البيت إلى أن توفي ، فدفع إلى شيبة بن عثمان ، وهو ابن عمه ، فبقيت الحجابة في بني شيبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية