صفحة جزء
692 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام ) . متفق عليه .


692 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة ) : التنكير للوحدة : أي صلاة واحدة ( في مسجدي هذا ) : أي : مسجد المدينة لا مسجد قباء . قال النووي : يعني أن يتحرى الصلاة فيما كان مسجدا في حياته عليه السلام ، لا فيما زيد بعده ، فإن المضاعفة تختص بالأول . ووافقه السبكي وغيره ، واعترضه ابن تيمية وأطال فيه ، والمحب الطبري وأوردا آثارا استدلا بها ، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تختص بما كان موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه عليه السلام ، وبأن الإمام مالكا سئل عن ذلك ، فأجاب بعدم الخصوصية وقال : لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض ، فعلم بما يحدث بعده ، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة ، ولم ينكر ذلك عليهم ، وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيادة قال : لو انتهى إلى الجبانة . وفي رواية : إلى ذي الحليفة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي ) وفي رواية : لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي . هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم ، والله أعلم . ( خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) : فإن الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة في مسجدي كذا ذكره ابن الملك . قال الطيبي : قيل : الاستثناء يحتمل أن الصلاة في مسجدي لا تفضل الصلاة في المسجد الحرام بألف بل بدونها ، ويحتمل أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، ويحتمل المساواة أيضا .

قلت : لكن الحديث الآتي في آخر الفصل الثاني ، يدفع الاحتمالين للطرفين ; فإنه قال : ( صلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) . رواه ابن ماجه ، والله أعلم . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي قاله ميرك .

[ ص: 586 ] قال ابن حجر : وفهم منه المالكية أفضلية المدينة على مكة ، قالوا : ومعناه إلا المسجد الحرام ; فإن الصلاة بمسجد المدينة أفضل منها بمسجد مكة بدون الألف ، وهو غفلة عن بقية الأحاديث المبطلة لما فهموه ، بل معناه إلا المسجد الحرام ; فإن الصلاة فيه تفضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف مضاعفة ، كما صرح به في خبر أحمد ، والبزار . وصحيح ابن حبان ، من حديث حماد بن زيد ، عن حبيب المعلم ، عن عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة ) . وإسناده على شرط الشيخين .

ولما صححه ابن عبد البر من أئمة المالكية قال : إنه الحجة عند التنازع . وقال أيضا : إنه حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد إلا المتعسف لا يعرج على قوله في حبيب المعلم ، وقد كان الإمام أحمد يمدحه ويوثقه ويثني عليه ، وكان ابن مهدي ، ويزيد بن زريع ، وحماد بن زيد ، وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم - يروون عنه ، وهم أئمة علماء يقتدى بهم ، وبقية رجال إسناده أئمة ثقات ، ومنهم من علله بالاختلاف على عطاء ; لأن قوما يروونه عنه ، عن ابن الزبير ، وآخرين عنه عن ابن عمر ، وآخرين عنه عن جابر ، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث ، وليس كذلك ; لأنه يمكن أن يكون عند عطاء عن هؤلاء جميعهم ، بل هو الواقع كما يأتي ، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة . وقال البزار : وهذا الحديث روي عن عطاء واختلف عليه فيه ، ولا نعلم أحدا قال : إنه يزيد عليه بمائة ، إلا ابن الزبير . وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح ، فرواه عن عطاء بن الزبير ، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عنه عن ابن عمر ، وابن جريج عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة اهـ . كلام ابن عبد البر ولا مزيد على حسنه .

ومن ثم قال الذهبي : إسناده صالح ، وفي ابن ماجه بسند في بعض رجاله لين : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ) . وخبر ابن عبد البر وقال : رجال إسناده علماء أجلاء ، ولفظه كالذي قبله . ورواه ابن زنجويه بلفظ : ( إلا المسجد الحرام فإنها تعدل مائة ألف صلاة في مسجد المدينة ) . وفي حديث البزار : ( فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة ) . وخبر ابن ماجه ( صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى ومسجد المدينة بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في مسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) . وخبر الطبراني : ( صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها بمائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله ) .

قلت : يحمل صلاة الرجل في بيته أولا على الفرض ، وثانيا على النفل ; لئلا يتعارضا أو على العذر ، وصح عن عمر . - قال ابن حزم بسند كالشمس في الصحة - أنه قال : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وصح عن عبد الله بن الزبير قال : الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي بمائة ضعف .

[ ص: 587 ] قال ابن عبد البر وابن حزم : فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة ، فصار كالإجماع منهم في ذلك . وفي رسالة الحسن البصري إلى الرجل الزاهد الذي أراد الخروج من مكة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى في المسجد الحرام ركعتين فكأنما صلى في مسجدي ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان ) إذا تأملت ذلك علمت ضعف ما قيل على رواية صلاة بالمسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة ، تبلغ صلاة واحدة فيه عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، وصلاة خمس صلوات فيه تبلغ مائتي سنة ، وسبعا وسبعين سنة ، وسبعة أشهر ، وعشر ليال اهـ .

وضعف ما قيل أيضا : صلاة بالمسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة . كما ورد : كل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة ، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف صلاة وخمسمائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل بغير المساجد الثلاثة كل مائة سنة شمسية بمائة ألف وثمانين ألف صلاة ، وكل ألف سنة بألف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة . فتلخص من هذا أن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة ، يفضل ثوابها على ثواب من صلى في بلده فرادى ، حتى بلغ عمر نوح بنحو الضعف ، وهذه فائدة تساوي رحلة اهـ .

وهذا كله كالذي قبله غفلة عن الرواية الصحيحة السابقة أن : صلاة واحدة بمكة أفضل من مائة ألف صلاة بمسجده عليه السلام ، وإلا فالحسنات تزيد على ذلك بما لا نهاية له ، ثم لا تنافي في الروايات المختلفة في التضعيف ; لاحتمال أن حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يكون تفاوت الأعداد لتفاوت الأحوال ; لما جاء أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة إلى غير نهاية . وورد : تفكر ساعة خير من عبادة سنة كذا ذكره ابن حجر . وقال الخطابي : ذكر الفاكهاني بلفظه : فكرة ساعة خير من عبادة سنة ، من كلام السري السقطي .

قلت : ذكر السيوطي في الجامع الصغير : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة ، رواه أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة . واختلفوا في محل هذه المضاعفة على أربعة أقوال ، الأول : أنه الحرم ، والثاني : أنه مسجد الجماعة وهو ظاهر من كلام أصحابنا ، واختاره بعض الشافعية ; لأن أصحابنا قالوا : التفضيل مختص بالفرائض دون النوافل فإنها في البيوت أفضل ، فجعلوا حكم البيت غير حكم المسجد . قال العسقلاني : ويمكن إبقاء حديث : أفضل صلاة المرء ، على عمومه ، فتكون النافلة في بيت مكة أو المدينة ، تضاعف على الصلاة في البيت بغيرهما ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا . والثالث : أنه مكة ، واختاره بعضهم لخبر ابن ماجه : صلاة بمكة بمائة ألف . والرابع : أنه الكعبة وهو أبعدها . قيل : ورد عن ابن عباس أن حسنات الحرم كلها الحسنة بمائة ألف . وأجيب : بأن حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف ، لكن الصلاة في مسجد الجماعة تزيد على ذلك ، ولذا قيل : بمائة ألف صلاة في مسجدي ، ولم يقل حسنة . وصلاة في مسجده عليه السلام بألف صلاة ، كل صلاة بعشر حسنات ، فتكون الصلاة في مسجده عليه السلام بعشرة آلاف حسنة ، ويحتمل أن يلحق بعض الحسنات ببعض ، أو يختص ذلك بالصلاة لمعنى فيها الكعبة وحدها . الرواية إلا الكعبة . وفي رواية للنسائي : إلا المسجد والكعبة ، وفي أخرى لمسلم إلا مسجد الكعبة .

قال ابن حجر : ثم المضاعفة لا تختص بالفرض ، بل تعم النفل أي تعم النفل أيضا خلافا لبعض الحنفية والمالكية وغيرهم ، وإن كان دون الفرض لزيادته عليه بسبعين درجة ، ولا ينافي عموم التضعيف للنفل كونه في البيت أفضل حتى في الكعبة للخبر الصحيح : ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) ، وذلك لأن في فضيلة الاتباع ما يربو على المضاعفة ، ومن ثم قال السبكي : صلاة الظهر بمنى يوم النحر أفضل منها بمكة بالمسجد الحرام ، وإن جعلنا المضاعفة مختصة به لما تقرر أن في فضيلة الاتباع ما يربو على فضيلة العمل . والمضاعفة غير مختصة بزمنه عليه السلام على المختار ، ثم المراد بالتضعيف السابق إنما هو في الأجر دون الإجزاء باتفاق العلماء ، فالصلاة في أحد المساجد

[ ص: 588 ] الثلاثة لا تجزئ عن أكثر من واحدة إجماعا ، وما اشتهر على ألسنة العوام أن من صلى داخل الكعبة أربع ركعات تكون قضاء الدهر ، باطل لا أصل له . ثم المضاعفة لا تختص بالصلاة بل تعم سائر الطاعات ، وبه صرح الحسن البصري فقال : صوم يوم بمكة بمائة ألف ، وصدقة درهم بمائة ألف ، وكل حسنة بمائة ألف . وورد فيه حديث بسند حسن خلافا لمن ضعف : إن حسنات الحرم كل حسنة بمائة ألف حسنة . وروى ابن ماجه خبر : من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه وقام فيه ما تيسر كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه ، وكتب له بكل يوم وليلة عتق رقبة ، وفي كل يوم حمل فرسين في سبيل الله . وروى البزار خبر : رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة ، وذهب جماعة من العلماء إلى أن السيئات تضاعف بمكة كالحسنات منهم : ابن عباس ، وابن مسعود ، ومجاهد ، وأحمد بن حنبل وغيرهم لتعظيم البلد ، ثم قيل : تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم ، وقيل : بل كخارجه ، وأخذ الجمهور بالعمومات كقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون وحمل بعض المتأخرين القول بالمضاعفة على أن المراد بها مضاعفة الكيفية لا الكمية ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن السيئات متفاوتة إذ ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في طرف من أطراف بلده ، قيل : يرجع النزاع في ذلك الحمل أيضا إذ أي فرق بين سيئة معظمة تقدر بمائة ألف سيئة وهي واحدة ، وبين سيئة بمائة ألف سيئة عددا ; وأجيب بأنه ورد : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف . ومما يدل على تعظيم الحرم المقتضي لتعظيم السيئة قوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم فقد أخذ منه جماعة كابن مسعود أن من خصوصياته أنه يعاقب على الهم فيه بالسيئة وإن لم يفعلها ، واحتج المالكية لأفضلية المدينة بخبر : المدينة خير من مكة ولا حجة فيه ، لأنه حديث ضعيف ، وقيل : موضوع ، ذكره ابن عبد البر وغيره ، وخبر : ( اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك ) وهو مرسل ضعيف . وقيل : بل موضوع ، وخبر : ( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ) يدل على الفضيلة لا الأفضلية ، وقد صح في فضيلة مكة أحاديث أيضا منها خبر : ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ) ، وخبر : ( ما أطيبك وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) . ومنها خبر أنه عليه السلام قال لهم في حجة الوداع : ( أي بلد تعلمونه أعظم حرمة ؟ ) قالوا : لا إلا بلدنا الحديث ، وفي رواية : أن ابن عمر وجابرا يشهدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الناس : ( أي بلد أعظم حرمة ؟ ) فأجابوا بأنه مكة . وهذا إجماع من الصحابة أنها أفضل البلاد ، وأقرهم عليه السلام ، هذا ونقل القاضي عياض وغيره الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة ، وأن الخلاف فيما عداه . ونقل عن أبي عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش ، وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات قال : بل الظاهر المتعين تفضيل جميع الأرض على السماء لحلوله عليه الصلاة السلام بها ، وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها . وقال النووي : والجمهور على تفضيل السماء على الأرض أي : ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة ، ومحل الخلاف فيما عدا الكعبة ، فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا ، ما عدا موضع قبره المقدس ومحل نفسه الأنفس صلوات الله وسلامه عليه ما دام الصبح تنفس والليل إذا عسعس .

[ ص: 589 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية