صفحة جزء
85 - وعن علي رضي الله عنه قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ، ومقعده من الجنة ) . قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ، وندع العمل ؟ قال ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ؟ أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة ، ثم قرأ : (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) الآية ) . متفق عليه .


85 - ( وعن علي رضي الله عنه ) : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يكنى أبا الحسن ، وأبا تراب ، القرشي ، وهو أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال ، ومن الصبيان في جميعها . وقد اختلف في سنه يومئذ فقيل : كان له خمس عشرة سنة ، وقيل : ثمان سنين ، وقيل : عشر سنين ، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها غير تبوك فإنه خلفه في أهله ، وفيها قال له : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ) . كان آدم شديد الأدمة ، عظيم العينين ، أقرب إلى القصر من الطول ذا بطن كثير الشعر عريض اللحية أصلع أبيض الرأس ، واللحية ، استخلف يوم قتل عثمان [ ص: 157 ] وهو يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي بالكوفة صبيحة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربعين ، ومات بعد ثلاث ليال من ضربته ، وغسله ابناه الحسن ، والحسين ، وعبد الله بن جعفر ، وصلى عليه الحسن ، ودفن سحرا ، وله من العمر ثلاث وستون سنة ، وكانت خلافته أربع سنين ، وتسعة أشهر وأياما ، روى عنه بنوه الحسن ، والحسين ، ومحمد ، وخلائق من الصحابة ، والتابعين . ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما منكم من أحد ) : من : مزيدة لاستغراق النفي ( إلا وقد كتب مقعده من النار ) : الواو للحال ، والاستثناء مفرغ أي : ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة أي : إلا وقد قدر مقعده من النار ( ومقعده ) : الواو بمعنى ( أو ) بدليل قوله في الحديث : أفلا نتكل ، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ أو كذا حرره السيد جمال الدين أي : موضع قعوده . ( من الجنة ) قال الطيبي : كني عن كونه من أهل الجنة والنار باستقراره فيها ، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون لكل أحد مقعد من النار ، ومقعد من الجنة ، وهذا وإن ورد في حديث آخر يعني في عذاب القبر . رواه أنس لكن التفصيل الآتي يأبى حمله على ذلك ، فيجب أن يقال : إن الواو بمعنى أو . قال المظهر : قد ورد هذا الحديث بلفظ الواو في بعض الروايات ، وليس في شرح السنة إلا بلفظ أو ( قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ) : المقدر لنا في الأزل . قيل : الفاء في جواب الشرط أي : إذا كان الأمر كما ذكرت يا رسول الله أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل ( وندع العمل ؟ ) أي : نتركه ؛ لأنه لا فائدة في إتعاب أنفسنا بالأعمال لأن قضاياه لا تتغير ، فلم يرخص عليه السلام في ذلك الاتكال ، وترك الأعمال حيث ( قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) : بل أمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه من العبودية عاجلا ، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلا ، وأعلمهم بأن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر : باطن ، وهو حكم الربوبية ، وظاهر ، وهو سمة العبودية ، فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب ، والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل العبد بذلك صفات الإيمان ، ونعوت الإيقان ، ومراتب الإحسان يعني : عليكم بالتزام ما أمرتم ، واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية ، وإياكم والتصرف في الأمور الربوبية ، ولا تجعلوا الأعمال أسبابا للسعادة والشقاوة ، بل أمارات لهما وعلامات ، فكل موفق ، ومهيأ لما خلق له أي : لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر ، والفاء في فكل للسببية ، والتنوين عوض عن المضاف إليه ، والحاصل أن الأمر المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على تدبير الربوبية ، وذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية ، فكل من الخلق ميسر لما دبر له في الغيب فيسوقه العمل إلى ما كتب له في الأزل من سعادة ، أو شقاوة ، فمعنى العمل التعرض للثواب والعقاب ، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ، ثم فصل - عليه الصلاة والسلام - ما أجمله بقوله : ( أما من كان ) أي : في علم الله ، أو كتابه ، أو في آخر أمره وخاتمة عمله ( من أهل السعادة ) أي : الإيمان في الدنيا ، والجنة في العقبى ( فسييسر ) أي : يسهل ، ويوفق ، ويهيأ ( لعمل السعادة ) أي : لعمل أهلها ، ( وأما من كان من أهل الشقاوة ) : وهو ضد السعادة . وفي المصابيح بلفظ الشقوة بكسر الشين ، وهو مصدر بمعنى الشقاوة ( فسييسر لعمل الشقاوة ) أي : أهلها من الكفرة ، والفجرة ( ثم قرأ ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا ، أو اعتضادا ( فأما من أعطى ) أي : حق الله من المال ، أو الامتثال ( واتقى ) أي : خاف مخالفته ، أو عقوبته ، واجتنب معصيته ( وصدق بالحسنى ) أي : بكلمة لا إله إلا الله [ ص: 158 ] وأخر في الذكر ترقيا ، أو إشارة إلى حسن الخاتمة ( الآية ) " لا يخفى أن الحسنى رأس آية ، فالمراد بعدها من الآيات المتعلقة بها المناسبة لها ، وهي ( فسنيسره لليسرى ) : قال البيضاوي أي : فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر ، وراحة كدخول الجنة ، ( وأما من بخل ) أي : مما أمر به ( واستغنى ) : بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى ، وكذب بالحسنى ) أي : بكلمة التوحيد ( فسنيسره للعسرى ) أي : للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ، وفي الكشاف سمى طريق الخير باليسر ؛ لأن عاقبته اليسر ، وطريق الشر بالعسرى ؛ لأن عاقبته العسر ، وفي المعالم فسنيسره أي : نهيئه في الدنيا لليسرى للخلة اليسرى ، وهو العمل بما يرضاه ، وأما من بخل بالنفقة في الخير ، واستغنى عن ثواب الله تعالى ، ويرغب فيه فسنيسره للعسرى . أي : سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله ، ويستوجب به النار . قال مقاتل : يعسر عليه بأن يأتي خيرا اهـ .

ولا يخفى أن ما في البيضاوي غير ملائم لمعنى الحديث ؛ لانعكاسه بالمعنى المقصود منه ، فالمدار على ما في المعالم ، والكشاف ، لكن السين في الآية تحمل على مجرد التأكيد لا على الاستقبال ، والله أعلم بالحال . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية