صفحة جزء
965 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى ، والنعيم المقيم ، فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " .

قالوا : بلى يا رسول الله قال : "
تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
" ، متفق عليه ، وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم ، وفي رواية للبخاري : " تسبحون في دبر كل صلاة ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " بدل : " ثلاثا وثلاثين " .


965 - ( وعن أبي هريرة قال : إن فقراء المهاجرين ) : من أرباب الصفة وغيرهم ، ولفظ الأربعين : إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : من فقراء المهاجرين ( أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد ذهب أهل الدثور ) : بضم الدال ، جمع دثر بفتح الدال ، وسكون الثاء : وهو المال الكثير ، ( بالدرجات العلى ) ، أي : العالية ، والباء للتعدية ، وقال الطيبي : للمصاحبة أي : ذهب أهل الأموال بالدرجات العلى ، واستصحبوها معهم في الدنيا والعقبى ، ولم يذروا لنا شيئا فما حالنا ؟ ( والنعيم المقيم ) ، أي : وبالعيش الدائم وهو الجنة ، والمراد به زيادة النعمة في مقابلة زيادة الطاعة ، قال الطيبي : وفيه تعريض بالنعيم العاجل فإنه على وشك الزوال ، ( " قال : " وما ذاك ؟ " ) ، أي : ما سببه ( " قالوا : " ) ، لأنهم ( " يصلون كما نصلي " ) ، أي : فرضا ونفلا ( ويصومون كما نصوم ) : ولفظ " ما " كافة تصحح دخول الجار على الفعل ، وتفيد تشبيه الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو مصدرية ، كما في قوله تعالى : بما رحبت ، أي : صلاتهم مثل صلاتنا وصومهم مثل صومنا ، ( ويتصدقون ) : وفي الأربعين : بفضول أموالهم ، أي : بزوائدها ، ويترجحون علينا في الثواب وليس لنا مال ، ( ولا نتصدق ) : وقول ابن حجر : ويجاهدون كما نجاهد ، ويزيدون علينا بأنهم يتصدقون ونحن لا نتصدق موهم أن جملة : ويجاهدون كما نجاهد لفظ الحديث ، وليس كذلك ، ( ويعتقون ولا نعتق ) : لأنهما يتعلقان بالمال ، ولا مال لنا ، فلهم فضل علينا بزيادة العبادات المالية ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم " ) : قدمت الهمزة للصدارة ، والتقدير : ألا أسليكم أفلا أعلمكم ، ( " شيئا تدركون به من سبقكم " ) ، أي : من متقدمي الإسلام عليكم من هذه الأمة ، أو تدركون به كمال من سبقكم من الأمم ، وفي المصابيح بلفظ : " من قبلكم " ، أي : في الثواب ( " وتسبقون به من بعدكم " ) ، أي : تسبقون به أمثالكم الذين لا يقولون هذه الأذكار ، فتكون البعدية بحسب الرتبة ، كذا قاله ابن الملك يعني : يقيد الكلام بالوصف المقدر ، بمعونة السياق والسباق واللحاق ، ويحتمل أن يكون إدراكهم من سبقهم ، وسبقهم من بعدهم يكون ببركة وجوده عليه السلام ، وكونهم من قرنه الذي هو خير القرون ، والله أعلم .

وقال ابن حجر : أي من متأخري الإسلام عنكم ، أو الوجود عن عصركم ، قال ميرك : إن قلت : لم لا يحصل لمن بعدهم ثواب ذلك ؟ قلنا : إلا من صنع مثل ما صنعتم استثناء منه أيضا ، كما هو مذهب الشافعي في أن الاستثناء المتعقب للجمل عائد إلى كلها ، فقوله : إلا من صنع أي : إلا الغني الذي يسبح ، فإنكم لم تكونوا خيرا منه ، بل هو خير منكم أو مثلكم ، نعم إذا قلنا الاستثناء يرجع إلى الجملة الأولى أيضا يلزم قطعا كون الأغنياء أفضل ، إذ معناه إن عملتم به أدركتم من سبقكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، فإنكم لا تدركونه .

فإن قلت : فالأغنياء إذ سبحوا يترجحون فيبقى مجاله ما شكا الفقراء منه ، وهو رجحانهم من جهة التصدق والإعتاق ، وسائر ما يحصل لهم بسبب إنفاق الأموال ، قلت : مقصود الفقراء تحصيل الدرجات العلى والنعيم المقيم لهم ، لا نفي زيادتهم مطلقا ، وفيه أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، كذا أفاده العلامة الكرماني في شرحه للبخاري ، وفيه بحث ; لأن قوله : " فرجع فقراء المهاجرين " يدل على أن مقصود الفقراء نفي رجحان الأغنياء عليهم مطلقا ، وعلى أنهم لم يحملوا الاستثناء على أنه راجع إلى الجملة الأولى ، وإلا لم يكن لسؤالهم صورة تأمل ، ( " ولا يكون أحد " ) ، أي : من الأغنياء ; لأن الكلام فيهم ، وقال ابن حجر : من الأغنياء وغيرهم في زمن من الأزمنة ، ( " أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " ) .

[ ص: 764 ] قال الطيبي : فإن قلت : ما معنى الأفضلية في قوله : " لا يكون أحد أفضل منكم " ، مع قوله : " إلا من صنع مثل ما صنعتم " ; فإن الأفضلية تقتضي الزيادة ، والمثلية تقتضي المساواة ؟ قلت : هو من باب قوله :

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس يعني : إن قدر أن المثلية تقتضي الأفضلية ، فتحصل الأفضلية ، وقد علم أنها لا تقتضيها ، فإذن لا يكون أحد أفضل منكم ، هذا على مذهب التميمي ، ويحتمل أن يكون المعنى ليس أحد أفضل منكم إلا هؤلاء ، فإنهم يساوونكم ، وأن يكون المعنى بأحد الأغنياء ، أي : ليس أحد من الأغنياء أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، ( قالوا : بلى ) ، أي : علمنا ذلك ( يا رسول الله ! قال : " تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون " ) : إخبار بمعنى الأوامر ، أو من قبيل : " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " ، ( " دبر كل صلاة " ) ، أي : مكتوبة ( " ثلاثا وثلاثين مرة " ) : قال الطيبي : يحتمل أن يكون المجموع ثلاثا وثلاثين ، وأن يكون كل واحد منها يبلغ هذا العدد ، وهذا هو المختار الظاهر من الحديث الآخر ، ويؤيد الأول رواية البخاري أن كل واحد عشر اهـ ، الأنسب التأييد برواية مسلم ، عن أبي هريرة إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، فذلك كله ثلاث وثلاثون .

( قال أبو صالح ) ، أي : راوي أبي هريرة ( فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ) : بدل ، وفائدة البدل إشعار بأن ذلك غبطة لا حسد ( بما فعلنا ) : ضمن سمع معنى الإخبار ، فعدي بالباء ( ففعلوا مثله ) ، أي : مثل ما فعلنا وإطلاق الفعل على القول شائع سائغ ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك " ) ، أي : الزائد من الثواب الذي حصل لهم على الجود بأموالهم منضما إلى فعلهم ما فعله الفقراء ، ( " فضل الله يؤتيه من يشاء " ) : قال الطيبي : إشارة إلى أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، نعم لا يخلو الغني من أنواع من الخطر ، والفقير الصابر آمن اهـ .

قال الإمام حجة الإسلام في إحياء العلوم : " واعلم أن الناس قد اختلفوا ، فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى فضل الفقر ، وقال ابن عطاء : الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر ، ويقال : إن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا ، فأصابته محنة " ، ثم قال : إن الفقر والغنى إذا أخذا مطلقا لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ، ولا بد فيه من تفصيل فنقول : إنما يتصور الشك في مقامين ، أحدهما : فقير صابر ليس بحريص على الطلب ، بل هو قانع وراض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ، ليس حريصا على إمساك المال .

الثاني : فقير حريص مع غني حريص ; إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك ، وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقر الحريص ، أما الأول فربما يظن أن الغنى أفضل من الفقر ، لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال ، والغني متقرب بالصدقات والخيرات ، والفقير عاجز عنه ، وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه ، فأما الغني المتمتع بالمال ، وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع ، وقد يشهد له ما روي [ ص: 765 ] " في الخبر : إن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد ، فعلمهم كلمات في التسبيح ، وذكر لهم أنهم ينالون بها ما فوق ما ناله الأغنياء ، فعلم الأغنياء بذلك ، فكانوا يقولونه فعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال عليه السلام : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " قال : " وفيه نظر ; لأن الخبر قد ورد مفصلا تفصيلا يدل على خلاف ذلك ، وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني ، وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء .

فقد روى زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : بعث الفقراء [ رسولا ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني رسول الفقراء إليك ، فقال : " مرحبا بك وبمن جئت من عندهم جئت من عند قوم أحبهم الله " ، قال : قالوا : يا رسول الله ! إن الأغنياء ذهبوا بالجنة ، يحجون ولا نقدر عليه ، ويعتمرون ولا نقدر عليه ، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلغ عن الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء ، أما خصلة واحدة فإن في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة ، كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير ، أو شهيد فقير ، أو مؤمن فقير .

والثانية : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام ، والثالثة : إذا قال الغني : [ سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] ، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ، ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم ، وكذلك أعمال البر كلها " ، فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : رضينا رضينا ، فهذا يدل على أن قوله : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
" ، أي : مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم اهـ ، كلامه .

وفي المسألة أقوال أخر ، منها : أن الكفاف أفضل منهما ، ومنها : أن الفقير الشاكر أفضل من الغني الشاكر ، ومنها : أن التسليم والرضا تحت القضاء بحكم المولى في الفقر والغنى هو الأفضل ، ولذا قال عمر - رضي الله عنه - : الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما أركب ، وقال تعالى : إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا نعم اختار الله الفقر لأكثر أنبيائه وأوليائه وأصفيائه ، واختار الغنى لأكثر أعدائه ، وقليل من أحبائه ، فاختر ما هو المختار ، أو اختر أن لا تختار ، فإن ربك يفعل ما يشاء ويختار ، ( متفق عليه ) : قال ميرك : فيه نظر ; لأن قوله : يتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق " من إفراد مسلم .

( وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم ) : قال ميرك : الأحسن أن يقول المصنف بعد قوله : " وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " ، متفق عليه ، وزاد مسلم : قال أبو صالح إلخ ، ( وفي رواية للبخاري ) : قال ميرك : ورواه النسائي ( " تسبحون دبر كل صلاة عشرا ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " بدل : ثلاثا " ) : نصب على الحكاية ( " وثلاثين " ) .

[ ص: 766 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية