صفحة جزء
[ ص: 775 ] باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

الفصل الأول

978 - عن معاوية بن الحكم ، قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني ، لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ، ولا شتمني ، قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاءنا الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : " فلا تأتهم " ، قلت : ومنا رجال يتطيرون ، قال : " ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم " ، قال : قلت : ومنا رجال يخطون ، قال : " كان نبي من الأنبياء يخط ، فمن وافق خطه فذاك " ، رواه مسلم ، قوله : لكني سكت ، هكذا وجدت في " صحيح مسلم " ، وكتاب " الحميدي ، وصحح في " جامع الأصول " بلفظة : كذا ، فوق : لكني .


[ 19 ] باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة .

وهو يعم المحرمات والمكروهات والمفسدات وغيرها ، ( وما يباح منه ) ، أي : من العمل فيها .

الفصل الأول

978 - ( عن معاوية بن الحكم ) : هو من أبي سليم ، كان يسكن فيهم ونزل المدينة ، وعداده في أهل الحجاز ، ذكره الطيبي ، وفي المفاتيح قيل : " لا يروي غير هذا الحديث " ، ( قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس ) : بفتح الطاء على ما في النسخ المصححة الموافقة لما في القاموس وغيره وضبطه السيوطي بكسرها في تعليقه على أبي داود ، وفي بعض النسخ : إذا عطس ( رجل من القوم ، فقلت ) ، أي : وأنا في الصلاة ( يرحمك الله ) : ظاهره أنه في جواب قوله : الحمد لله ، قال النووي : إذا قال يرحمك الله بطلت صلاته لأنه خاطبه ، ولو قال : يرحمه الله فلا ، وقال ابن الهمام : لو قال لنفسه يرحمك الله لا تفسد كقوله : يرحمني الله ، وعن أبي يوسف لا تفسد في قوله لغيره ذلك لأنه دعاء بالمغفرة والرحمة ، ولهما هذا الحديث اهـ .

وحديث ابن مسعود الآتي يرد على أبي يوسف أيضا ( فرماني القوم بأبصارهم ) : أي أسرعوا في الالتفات إلي ونفوذ البصر في ، استعيرت من رمي السهم ، قال الطيبي : والمعنى أشاروا إلي بأعينهم من غير كلام ، ونظروا إلي نظر زجر كيلا أتكلم في الصلاة ( فقلت : واثكل أمياه ) : بكسر الميم ، والثكل بضم وسكون وبفتحهما فقدان المرأة ولدها ، والمعنى وافقدها لي فإني هلكت ( ما شأنكم ) : بالهمزة ويبدل ، أي : ما حالكم وأمركم ( تنظرون إلي ) : نظر الغضب ( فجعلوا ) ، أي : شرعوا ( يضربون بأيديهم ) ، أي : زيادة في الإنكار علي ( على أفخاذهم ) : وفيه دليل على أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة ، ( فلما رأيتهم ) ، أي : علمتهم ( يصمتونني ) : بتشديد الميم ، أي : يسكتوني غضبت وتغيرت ، قاله الطيبي ، أو يأمروني بالصمت عجبت لجهلي بقبح ما ارتكبت ومبالغتهم في الإنكار علي ( لكني سكت ) ، أي : سكت ولم أعمل بمقتضى الغضب قاله الطيبي ، أو سكت امتثالا لأنهم أعلم مني ، ولم أعمل بمقتضى غضبي ، ولم أسأل عن السبب ، ( فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : جوابه قال : " إن هذه الصلاة " وقوله : فبأبي هو وأمي إلى قوله قال معترضة بين لما وجوابه ، والفاء فيه كما في قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل فإنه عطف " وجعلناه " على " آتينا " ، وأوقعها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه كذا قاله الطيبي ، وتبعه ابن حجر وقال : واعترض بينهما بما فيه غاية الالتئام والمناسبة لهما ، وفي كون الآية نظيرا للحديث نظر ظاهر ، وقال ميرك : الأولى أن يقال جواب قوله : فلما صلى محذوف وهو ما يدل عليه جملة ( - فبأبي هو وأمي - ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ) ، أي : اشتغل بتعليمي بالرفق وحسن الكلام . تم كلامه ، وضميره هو يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : مفدى بهما ، وفي رواية ابن الهمام : " فلما صلى دعاني ( " فوالله ما كهرني ) ، أي : ما قهرني وزجرني ، قال الطيبي : الكهر والقهر والنهر أخوات ، وفي النهاية يقال : كهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس ( ولا ضربني ، ولا شتمني ) : أراد نفي أنواع الزجر والعنف [ ص: 776 ] وإثبات كمال الإحسان واللطف ، ( قال ) : جواب لما على ما قاله الطيبي واستئناف مبين لحسن التعليم على مختار غيره ( " إن هذه الصلاة " ) : إشارة إلى جنس الصلاة ( " لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " ) .

قال القاضي : أضاف الكلام إلى الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح والذكر ، فإنه لا يراد بها خطاب الناس وإفهامهم ، قال النووي : وفيه أن من حلف أن لا يتكلم فسبح أو كبر أو قرأ القرآن - لا يحنث ، وفي شرح السنة ، لا يجوز تشميت العاطس في الصلاة ، فمن فعل بطلت صلاته ، وفيه أن كلام الجاهل بالحكم لا يبطلها إذ لم يأمره بإعادة الصلاة ، وعليه أكثر العلماء من التابعين ، وبه قال الشافعي ، وزاد الأوزاعي وقال : إذا تكلم عامدا بشيء من مصلحة الصلاة مثل : إن قام الإمام في محل القعود فقال : اقعد ، أو جهر في موضع السر فأخبره لم تبطل صلاته اهـ .

وإطلاق الحديث دليل لنا في أن الكلام مطلقا يبطل الصلاة كما ذكره في الهداية ، قال ابن الهمام : وقد أجابوا بأنه لا يصلح دليلا على البطلان ، بل على أنه محظور والحظر لا يستلزم الإبطال ، ولذا لم يأمره بالإعادة وإنما علمه أحكام الصلاة ، قلنا : إن صح فإنما بين الحظر حالة العمد والاتفاق على أنه حظر يرتفع إلى الإفساد ، وما كان مفسدا حالة العمد كان كذلك حالة السهو لعدم المزيل شرعا كالأكل والشرب ، وأما قوله عليه السلام : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " ، فالإجماع على أن المراد رفع الإثم فلا يراد غيره ، وقال ابن حجر : أجمعوا على بطلانها بالكلام العمد لغير مصلحة الصلاة ، واعترض الإجماع بأن ابن الزبير قال : من قال وقد مطروا في الصلاة : يا هذا خفف فقد مطرنا ، لا تبطل صلاته ، ويرد بأن التخفيض حينئذ من مصلحة الصلاة خلافا لمن زعم أنه ليس من مصلحتها ، وجاء في خبر مسلم ، عن زيد بن الأرقم الأنصاري : كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ، وبه يعلم أن نسخ الكلام إنما كان بالمدينة في أواخر الأمر ; لأن سورة البقرة إنما نزلت كذلك ; لأن زيدا كان في أوائل الهجرة صبيا ، وبهذا يتضح رد قول من قال : إن تحريم الكلام كان بمكة ( " إنما هي " ) ، أي : الصلاة ( " التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن " ) : قال ابن الملك : استدل الشافعي على أن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة ، قلنا : " إنما هي ذات التسبيح والتكبير " اهـ .

واستدل أبو حنيفة على كون التحريمة شرطا بقوله تعالى : وذكر اسم ربه فصلى فإن العطف يفيد التغاير ، ( أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : شك من الراوي ، أي : مثل ما قاله من التسبيح والتهليل والدعاء ، قاله الطيبي وغيره ، ( قلت : يا رسول الله إني حديث عهد ) ، أي : جديده ( بجاهلية ) : متعلق بعهد ، وما قبل ورود [ ص: 777 ] الشرع يسمى جاهلية لكثرة جهالتهم ، يعني انتقلت عن الكفر إلى الإسلام ، ولم أعرف بعد أحكام الدين ( وقد جاءنا الله ) ، أي : معشر الإسلام ( بالإسلام ) : قال ابن الملك : هذا لا يتعلق بما قبله ، بل شروع في ابتداء سؤال منه عليه السلام اهـ ، والأظهر تعلقه بما قبله اعتذارا عما وقع له من الخطأ ، وابتداء السؤال قوله : ( وإن منا رجالا يأتون الكهان ) : بضم الكاف جمع كاهن ، وهو من يدعي معرفة الضمائر ، قال الطيبي : الفرق بين الكاهن والعراف : أن الكاهن يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل ، والعراف يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما ، ومن الكهنة من زعم أن جنيا يلقي إليه الأخبار ، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه وأمارات يستدل بها عليه ، ( قال : " فلا تأتهم " ) : قال صلى الله عليه وسلم : " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " ، رواه الإمام أحمد بسند صحيح ، عن أبي هريرة كما في الجامع الصغير للسيوطي ، ( قلت : ومنا رجال يتطيرون ) : في النهاية : الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن ، هي التشاؤم بالشيء وهي مصدر تطير طيرة ، كما تقول : تخير خيرة ولم يجئ من المصادر غيرهما هكذا قيل ، وأصل التطير التفاؤل بالطير ، واستعمل لكل ما يتفاءل به ويتشاءم ، وقد كانوا في الجاهلية يتطيرون بالصيد كالطير والظبي ، فيتيمنون بالسوانح ويتشاءمون بالبوارح ، والبوارح على ما في القاموس من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك والسوانح ضدها ، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ويمنعهم عن السير إلى مطالبهم فنفاه الشرع وأبطله ونهاهم عنه ، وأخبر أنه لا تأثير له حيث قال : " اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك ، " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ( " قال : " ذاك " ) ، أي : التطير ( بشيء يجدونه في صدورهم " ) : يعني : هذا وهم ينشأ من نفوسهم ليس له تأثير في اجتلاب نفع أو ضر ، وإنما هو شيء يسوله الشيطان ويزينه حتى يعملوا بقضيته ليجرهم بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى ، وهو كفر صراح بإجماع العلماء ، ( " فلا يصدنهم " ) ، أي : لا يمنعهم التطير من مقاصدهم ; لأنه لا يضرهم ولا ينفعهم ما يتوهمونه ، وقال الطيبي : أي لا يمنعنهم عما يتوجهون إليه من المقاصد ، أو من سواء السبيل ما يجدون في صدورهم من الوهم ، فالنهي وارد على ما يتوهمونه ظاهرا وهم منهيون في الحقيقة عن مزاولة ما يوقعهم من [ ص: 778 ] الوهم في [ الصدر ] ، ( قال ) ، أي : معاوية ( قلت : ومنا رجال يخطون ، قال : كان نبي من الأنبياء يخط " ) ، أي : فيعرف بالفراسة بتوسط تلك الخطوط ، قيل : هو إدريس أو دانيال عليهما الصلاة والسلام ، ( " فمن وافق " ) : ضمير الفاعل راجع إلى " من " ، أي : فمن وافق فيما يخطه ( " خطه " ) : بالنصب على الأصح ، ونقل السيد جمال الدين عن البيضاوي أن المشهور خطه بالنصب ، فيكون الفاعل مضمرا وروي مرفوعا ، فيكون المفعول محذوفا اهـ .

أي : من وافق خطه خطه أي خط ذلك النبي في الصورة والحالة ، وهي قوة الخاط في الفراسة وكماله في العلم والعمل الموجبة لها ، وقال ابن حجر : أي في الصورة وقوة الفراسة التي هي نور في القلب يلقيه الله فيه حتى ينكشف بعض المغيبات عيانا ، وإنما نشأ ذلك عن التحلي بكمال مرتبتي العلم والعمل ، كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام " إن في أمتي ملهمون " وقوله : " من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " ، ( " فذاك " ) ، أي : فذاك مصيب أو يصيب أو يعرف الحال بالفراسة كذاك النبي ، وهو كالتعليق بالمحال ، قال الخطاب : إنما قال عليه الصلاة والسلام : من وافق خطه فذاك " على سبيل الزجر ، ومعناه لا يوافق خط أحد خط ذلك النبي ; لأن خطه كان معجزة ، قال ابن الملك : لأنهم ما كانوا صادفوا خط ذلك النبي حتى يعرف الموافقة من المخالفة لأن خطه كان علما لنبوته ، وقد انقضت والشيء إذا علق بأمر ممتنع فهو ممتنع .

قال ابن حجر : ولم يصرح بالنهي عن الاشتغال بالخط لنسبته لبعض الأنبياء لئلا يتطرق الوهم إلى ما لا يليق بكمالهم ، وإن كانت فروع الأحكام مختلفة باختلاف الشرائع ، ومن ثم قال المحرمون لعلم الرمل - وهم أكثر العلماء - : لا يستدل بهذا الحديث على إباحته لأنه علق الإذن فيه على موافقة خط ذلك النبي ، وموافقته غير معلومة ، إذ لا تعلم إلا من تواتر أو نص منه عليه الصلاة والسلام ، أو من أصحابه أن الأشكال التي لأهل علم الرمل كانت لذلك النبي ، ولم يوجد ذلك فاتضح تحريمه .

قال ابن عباس : الخط ما يخطه الحازي ، وهو علم قد تركه الناس يعني لعدم فائدته يأتي صاحب الحاجة الحازي فيعطيه حلوانا أو شيئا من الأجرة ، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ، فيأتي إلى أرض رخوة أو خشب فيخط خطوطا بالعجلة كيلا يلحقها العدد ، ثم يمحو منها خطين خطين على مهلة ، فإن بقي خطان فهو علامة النجح ، وإن بقي واحد فهو علامة الخيبة ، قال صاحب النهاية ، المشار إليه علم معروف ، وللناس فيه تصانيف كثيرة ، وهو معمول به إلى الآن ، ولهم فيه أوضاع وعلامات واصطلاحات وأسهام وأعمال كثيرة ، ويستخرجون به الضمير وغيره ، وكثيرا ما يصيبون فيه أي بحسب الاتفاق كما أن كثيرا ما يخطئون فيه ، بل الخطأ أكثر ; لأن كذبهم أظهر ، قال ميرك : والحازي بالحاء المهملة والزاي الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه ، ويقال للمنجم : الحازي لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره ، والحازي أيضا الكاهن ، ( رواه مسلم : قال ميرك : ورواه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، ( قوله : لكني سكت ، هكذا وجدت في صحيح مسلم ، وكتاب الحميدي ، وصحح في جامع الأصول بلفظة : كذا ، فوق : لكني ) ، أي : كذا في الرواية لفظ لكني مسطور دفعا لوهم أنه ليس في الحديث بمذكور ، والحاصل أن " لكني " ثابت في الأصول ، لكنه ساقط في المصابيح .

[ ص: 779 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية