صفحة جزء
1017 - وعن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي . قال ابن سيرين : قد سماها أبو هريرة ، ولكن نسيت أنا - قال : فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت سرعان القوم من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ؟ ! وفي القوم أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فهاباه أن يكلماه ، وفي القوم رجل في يديه طول ، يقال له : ذو اليدين ، قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : " لم أنس ولم تقصر " ، فقال : " أكما يقول ذو اليدين ؟ " فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ، ثم سلم ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه ، ثم سلم ، فيقول : نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ، متفق عليه ، ولفظه للبخاري ، وفي أخرى لهما : فـقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل " لم أنس " ، ولم تقصر : كل ذلك لم يكن ، فقال : قد كان ذلك يا رسول الله ! .


1017 - ( وعن ابن سيرين : تابعي مشهور ، قال مولانا عصام الدين في شرح الشمائل : الظاهر أنه كغسلين ، وأنه متصرف ; لأنه ليس فيه إلا العلمية ، لكن قيد في بعض الأصول بالفتح ، ووجهه غير ظاهر ، والعجمة فيه غير ظاهرة ، لأنه من بلاد العرب ، قلت : إنه مضبوط في جميع النسخ المصححة والأصول الحاضرة بالفتح ، ويوجه منع صرفه على رأي أبي علي الفارسي في اعتبار مطلق الزائدين كحمدون وعليون على ما ذكره الجعبري ، قال ابن حجر : اسمه محمد ، مولى أنس ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وأدرك ثلاثين صحابيا ، أمة في العلم والورع وتعبير الرؤيا ، لما رأى أن الجوزاء تقدمت الثريا أوصى وقال : يموت الحسن البصري ، ثم أنا لأنه أشرف مني فمات قبله بمائة يوم ( عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : قال التوربشتي أي : أمنا ، يدخل فيه حرف التعدية ، فيفيد معنى قولنا : أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته ، وقوله : صلى لنا ؛ اللام فيه قائم مقام الباء ، ويصح أن يراد صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة ، ويصيب إليهم من البركة بسبب الاقتداء ، قلت : والباء تحتمل أيضا للسببية ، فتكون في معنى اللام التعليلية ، ( إحدى صلاتي العشي ) : قال الطيبي : إما الظهر أو العصر على ما رواه مسلم في صحيحه ، يأت في رواية : جزم بالظهر ، وفي أخرى بالعصر ، قال : وفي رواية أخرى صلى بنا رسول الله في الظهر أو العصر . والعشي : من حين تزول الشمس إلى أن تغيب اهـ .

فقول من قال : إما المغرب وإما العشاء غير صحيح رواية ودراية ، والعشي بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء على ما هو المشهور المذكور في مواضع من القرآن والحديث ، وضبطه ابن حجر هنا وقال : بضم فكسر من العشاء ، وهو الظلمة ، ومنه عشا البصر وأظلم اهـ ، وقد خبط خبط عشواء ، أي : ركبه على غير بصيرة ، ففي القاموس : عشا النار رآها ليلا من بعد فقصدها مستضيئا ، والعشوة ، بالضم والكسر : تلك النار ، وركوب الأمر على غير بيان ويثلث ، وبالفتح : الظلمة كالعشواء أو ما بين أول الليل إلى ربعه ، والعشاء : أول الظلام أو من المغرب إلى العتمة ، أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، والعشي والعشية : آخر النهار ، وصلاة العشي : الظهر والعصر اهـ ، وهذا هو المراد .

[ ص: 802 ] ( - قال ابن سيرين : قد سماها أبو هريرة ) ، أي : تلك الصلاة بالخصوص ، ( ولكن نسيت أنا - ) : قال ابن حجر : وفي رواية عنه : وظني أنها العصر أو العشاء ، ثم قال : وإحدى صلاتيه هنا الظهر أو العصر ، كما أفصحت به رواية مسلم ، لكن في رواية أخرى له أيضا : بينا أنا أصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ، ولصحة الروايتين قال النووي وغيره : إن واقعة أبي هريرة متعددة ، فكانت مرة في الظهر ومرة في العصر ، قلت : الأظهر أن القضية متحدة والصلاة هي العصر ، فإنها مجزومة في جميع الروايات ، وإنما التردد في غيرها فيترك الشك ويعمل بالمتيقن ، والله أعلم .

( قال ) ، أي : أبو هريرة ( فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم فقام ) ، أي : من ذلك الموضع وأتى ( إلى خشبة معروضة ) ، أي : مطروحة وموضوعة بالعرض ، كقولهم : عرضت العود على الإناء ، ( في المسجد ) ، أي ، بمقدمه كما في رواية ، قيل : يحتمل أنها الجذع الذي كان - عليه السلام - يخطب مستندا إليه قبل اتخاذ المنبر اهـ ، ويؤيده رواية مسلم : جذعا في ناحية المسجد ، لكن يبعد ذلك التعبير بناحية المسجد ، ( فاتكأ عليها كأنه غضبان ) : ولعل غضبه لتأثير التردد والشك في فعله ، وكأنه كان غضبان فوقع له الشك لأجل غضبه ( ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ) ، أي : أدخل بعضها في بعض من فوق الكف ( ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ) : وفي نسخة : الأيسر ، وهذا كله مبني منه على ظن أنه فرغ من الصلاة ، فلا ينافي ما سبق من النهي عن التشبيك في المتوجه إلى الصلاة فإنه في الصلاة حكما وثوابا ، قال ابن الملك : تشبيك الأصابع إن كان لمد الأصابع والاستراحة ، أو لأخذ اليدين على الركبتين ليتمكن من الجلوس ، أو لوضع الوجه أو الرأس على الركبتين فغير مكروه ، وإن كان للعب فمكروه اهـ .

وهو عجيب ; لأن التشبيك مطلق في الصلاة وحال القصد إليها مكروه ، وأما خارج الصلاة ولو كان للعب فمباح ، قال ابن حجر : وفي رواية عن عمران بن حصين : صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ، ثم دخل منزله ، وسيأتي مع بيان أنها واقعة أخرى ، ( وخرجت سرعان الناس ) : بفتح السين والراء ويسكن جمع : سريع ، وروي بكسر فسكون ورد بأنه خطأ ، وفي نسخة " القوم " بدل " الناس " ، ( من أبواب المسجد ) : قال الطيبي : سرعان مرفوع على أنه فاعل خرجت تدل عليه الرواية الأخرى للبخاري " خرج سرعان " ، وفيه أنه لا يحتمل غير الفاعلية حتى يحتاج إلى الأدلة النقلية ، وفي النهاية : السرعان ، بفتح السين والراء : أوائل الناس الذين يسارعون إلى الشيء ، ويجوز تسكين الراء نقله الطيبي ، قال العسقلاني : وحكى عياض أن الأصيلي ضبط بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع ، ( فقالوا : قصرت ) : بالفتح والضم ، أي : صارت قصيرة ، قال النووي : وهذا أرجح وأكثر نقله العسقلاني ، وقيل بالضم والكسر ، أي : إن الله قصرها ( الصلاة ) : بالرفع على الفاعلية أو النيابة ( وفي القوم ) : أي الباقي في المسجد ( أبو بكر وعمر ، فهاباه ) ، أي : عظماه فضلا عن غيرهما ( أن يكلماه ) ، مما وقع له أنه سهو أو عمد ، فـ " أن يكلماه " : بدل اشتمال من ضمير " هاباه " لبيان أن المقصود هيبة تكليمه ، لا نحو نظره واتباعه ، فلا ينافي الحديث الحسن : " كان - عليه السلام - يخرج على أصحابه فلا ينظر إليه أحد منهم سوى أبي بكر وعمر ، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما " ، قال الطيبي ، أي : فخشيا أن يكلما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقصان الصلاة ، قال ابن الملك : إعظاما لما ظهر عليه من أثر الغضب .

[ ص: 803 ] قال ابن حجر : وفي رواية سندها حسن عن ذي اليدين نفسه أنه لما قام - عليه السلام - تبعه أبو بكر وعمر وخرج سرعان الناس ، ( وفي القوم رجل في يديه طول ) ، أي : كانت يداه أطول من يدي القوم ( يقال له : ذو اليدين ) : وفي رواية : يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين إما لطول يده حقيقة أو مجازا كناية عن البذل والعمل ، قيل : اسمه : خرباق السلمي الحجازي ، وقال الطيبي : خرباق لقب له واسمه : عمير ويكنى أبا محمد ، وقال ابن الأثير في جامع الأصول : إن ذا اليدين رجل من بني سليم يقال له الخرباق ، صحابي حجازي ، شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سها في صلاته ، وقيل له أيضا ذو الشمالين ، فيما رواه مالك بن أنس عن الزهري ، قال ابن عبد البر : ذو اليدين غير ذي الشمالين ، وإن ذا اليدين هو الذي جاء ذكره في سجود السهو وأنه الخرباق ، وأما ذو الشمالين فإنه : عمير بن عبد عمرو ، قال ابن إسحاق : هو خزاعي قدم مكة ، أبوه شهد بدرا وقتل بها ، قال : وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين ، وحديث سجود السهو قد شهده أبو هريرة ورواه ، وأبو هريرة . أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام ، فبهذا تبين لك أن ذا اليدين غير ذي الشمالين .

وكان الزهري مع علمه بالمغازي وجلالة قدره يقول : إن ذا اليدين هو ذو الشمالين المقتول ببدر ، وإن قصة السهو كانت قبل بدر ثم أحكمت الأمور ، قال : وذلك وهم منه ، وقال النووي : قد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا يوجب رد الحديث من روايته خاصة ، وأهل الحديث تركوه لاضطرابه ، وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما ، فإن الغلط لا يسلم منه بشر ، والكمال لله سبحانه ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال : يا رسول الله أنسيت ) : بالخطاب ( أم قصرت الصلاة ؟ ) : بالوجهين وأما بفتحتين فمتعد فـ " من " في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة إما زائدة أو صفة لمحذوف أي : شيئا من الصلاة ، ويؤيده قراءة ابن عباس بضم فكسر ، وقراءة الزهري بذلك مع تشديد الصاد من " قصر " المضعف ، فهذان متعديان اتفاقا ودخلت من في حيزهما ، وظاهر كلام ابن حجر أن الفتحتين أيضا نسخة ، لكنها ليست من أصولنا ويأبى عنها أيضا قوله : ( فقال : " لم أنس ، ولم تقتصر " ) : بالوجهين بناء على ظنه ( فقال ) ، أي : بعد تردده بقول السائل ( " أكما يقول ذو اليدين ؟ ! " ) ، أي : أتقولون كقوله ، أو أكان كما يقول ؟ وفي رواية بعد قوله : " فلم أنس ولم تقصر " ، فقال : بلى قد نسيت يا رسول الله اهـ .

فلما جزم بالنسيان استثبت - عليه السلام - فقال : أوقع مني أني تركت نصف الصلاة كما يقول ؟ وعدل عن قال لتصوير صورة الحال الماضية حتى يستحضر ويتأمل ، قال الطيبي : وفي تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين به دليل على جواز التلقيب للتعريف دون التهجين ، ( فقالوا : نعم ) : وفي رواية للبخاري : صدق ، لم تصل إلا ركعتين ، قال ابن حجر : فحينئذ تيقن - عليه السلام - أنه ترك ركعتين إما لتذكره ، أو لكونهم عدد التواتر ، أو لإخبار الله له بالحال كما في رواية أبي داود ، واحتج مالك وأحمد بقولهم : نعم على جواز الكلام لمصلحة الصلاة ، وليس كما قالا لما مر أن من خصائصه - عليه السلام - كما صرحت به الأحاديث المصححة ، أنه يجب إجابته في الصلاة بالقول والفعل وإن كثر ، ولا تبطل به الصلاة ، وحينئذ لا يحتاج إلى ما روي عن ابن سيرين أنهم لم يقولوا نعم ، بل أومئوا بالإشارة ، ثم رأيت رواية صحيحة أنهم أومئوا ، أي : نعم ، ( فتقدم فصلى ما ترك ) .

قال الخطابي : فيه دليل على أن من تحول عن القبلة سهوا لم تكن عليه الإعادة ؛ قلت : ليس في الحديث دلالة على تحول القبلة : نعم هذا يرد في حديث عمران في أول الفصل الثالث ، والجواب أنه من جملة المنسوخات .

قال ابن حجر : فتقدم أي : مشى إلى محل صلاته إما لقربه فلم يمش إلا خطوتين ، وإما لبعده لكونه لم تتوال خطواته فهي واقعة حال فعلية محتملة ، فلا دليل فيها لجواز الفعل الكثير المتوالي في الصلاة ، قلت : معناه تقدم [ ص: 804 ] للإمامة ، وهو في موضعه فلا يحتاج إلى التكلفات العجيبة والتفريعات الغريبة وفي قوله : فصلى ما ترك ، قال ابن حجر : فيه أوضح حجة على بعض أصحاب أبي حنيفة في زعمه أن سلام التحلل سهوا يبطل الصلاة ، وما رووه عن عمر أنه لم يبن ، منقطع على أن سببه أنه تكلم بكلام أجنبي ، قلت : وهو غير مشهور في المذهب ( ثم سلم ) : قال القاضي : دل حديث عطاء على تقديم السجود على السلام ، وحديث أبي هريرة على تأخيره ، قال الزهري : كل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تقديـم السجود كان آخر الأمرين ، وقال : قصة ذي اليدين كانت قبل بدر ، وحينئذ لم يحكم أمر الصلاة ولم يزل نسخ الكلام اهـ .

وفيه : أنه لا يلزم من نسخ الكلام نسخ جميع ما وقع في صلاته ، وليس في الحديث ما يدل على نسخ السجود بعد السلام ، وعند التعارض يرجح الأصح والأبين والأقيس ، فإنه أمر زائد على الصلاة خارج عنها تتم الصلاة بدونه إجماعا ، مع أن الخلاف في الأولوية ، حتى لو سجد قبل السلام عندنا يجوز على ما ذكره ابن الهمام ، وما أبعد قول ابن حجر " ثم " ، بمعنى " الواو " وقع سهوا أيضا اهـ ، وفيه جراءة عظيمة كما لا يخفى .

( ثم كبر ) ، أي : بعد السلام ، وفي رواية لأبي داود : فكبر ثم كبر وسجد للسهو " ، وبها أخذ من قال : لا بد في سجود السهو بعد السلام من تكبيرة الإحرام ، والجمهور اكتفوا بتكبيرة السجود أخذا بما في غالب الأحاديث الصحيحة ، وبأن تلك الرواية شاذة فلا يعمل بها ، ( وسجد ) ، أي : للسهو ( مثل سجوده ) ، أي : للفرض من الصلاة ، يعني : لبث فيه ما لبث في سجدة الفرض ، وغلط من قال : أنه مثله في الواجبات والسنن لقوله : ( أو أطول ) : أي : أكثر ( ثم رفع رأسه ) : أغرب ابن حجر وقال : فيه دليل على وجوب الجلوس بين السجدتين ، ووجه غرابته أن الجلوس حالة غير الرفع ، ( وكبر ، ثم كبر ) : أي للهوي ( وسجد مثل سجوده ) : للفرض ( أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه ) : الضمير المفعول إلى ابن سيرين والمسئول عنه قوله : ( ثم سلم ؟ ) : وقوله ( فيقول : نبئت ) : جواب ابن سيرين عن سؤالهم ( أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ) ، أي : بعد سجود السهو مرة أخرى ، قال ابن حجر : لا يقال هذا منقطع لا يحتج به ; لأن ابن سيرين لم يدرك عمران ، ولم يذكر الواسطة بينهما ; لأن الحديث متصل كما يأتي عن مسلم ، قال الخطابي : في الحديث دليل على أنه لا تشهد لسجدتي السهو إن سجدهما بعد السلام .

قلت : ليس في الحديث دلالة على التشهد نفيا ولا إثباتا وقد ثبت في حديث رواه الطحاوي وسيأتي في حديث في أول الفصل الثاني ، وقال ابن الهمام ، عند قول صاحب الهداية : ثم يتشهد - : أشار إلى أن سجود السهو يرفع التشهد ، وأما رفع القعدة فلا ، ثم قيل : حديث ذي اليدين كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ، فلذا لم يستأنفوا ، وقيل : أحكام هذا الحديث خصت بمن شهد تلك الصلاة فلم تقم الحجة عليهم يومئذ ، لأنها لم تكن شرعت قبل ذلك ، فعذروا في مبدأ أمر السهو فيما فعلوا ، وقالوا : وكان الحكم فيما امتحنوا به يومئذ على ذلك ، ثم تغيرت أحكام تلك الحادثة بعد ذلك والله أعلم ، ( متفق عليه ) : قال ميرك : ورواه الأربعة ، قال ابن حجر : أي اتفقا على المقصود منه ، فلا ينافيه خلو حديث مسلم عن ذكر وضع اليد والتشبيك ، وطرق حديث ذي اليدين كثيرة جدا ، حتى قال ابن عبد البر : ليس في أخبار الآحاد أكثر منه طرقا إلا قليلا اهـ ، فهو من قسم المستفيض المسمى بالمشهور ، ( ولفظه للبخاري ) .

قال ابن حجر : وفيه دليل على أن من سها بأشياء متعددة في صلاة واحدة لم يزد على سجدتين ، فإنه - عليه السلام - سلم وتكلم ، وهو مذهب عامة الفقهاء ، وشذ الأوزاعي فقال : يلزمه لكل سهو سجدتان ، ولا حجة له في [ ص: 805 ] خبر : " لكل سهو سجدتان " لأنه ضعيف منقطع ، وبفرض صحته ووصله هو مئول ومعارض بحديث ذي اليدين الذي هو أصح منه ، ( وفي أخرى ) ، أي : رواية أخرى ( لهما ) : أي للشيخين ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل : " لم أنس " ) ، أي : مكان " لم أنس ولم تقصر " : " كل ذلك " ) ، أي : كل من النسيان والقصر ( " لم يكن " ) : قال ابن الملك : وهذا دليل على أن من ظن أنه فعل شيئا فقال فعلته ، أو قال ما فعلته ، وفي ظنه أنه لم يفعل ، ثم تبين خلاف ما ظن لم يأثم لأنه - عليه السلام - قال : كل ذلك لم يكن وقد كان السهو ، ( فقال ) ، أي : ذو اليدين ( قد كان بعض ذلك يا رسول الله ) : يعني : قصرت الصلاة ، ولكن لا أدري قصرها سهوا أو أمر الله تعالى بقصرها ، في شرح السنة : احتج الأوزاعي بهذا الحديث على أن الكلام العمد إذا كان من مصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة ; لأن ذا اليدين تكلم عامدا ، والقوم أجابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بنعم عامدين ، مع علمهم بأنهم لم يتموا الصلاة ، ومن ذهب إلى أن كلام الناس يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ، مع أنه كان ،بمكة وحدوث هذا الأمر كان بالمدينة ; لأن أبا هريرة متأخر الإسلام ، أما كلام القوم فقد روي عن ابن سيرين أنهم أومئوا بنعم ، ولو صح أنهم قالوه بألسنتهم لكان ذلك جوابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة ، لما روي : أنه - عليه السلام - مر على أبي بن كعب وهو في الصلاة فدعاه فلم يجبه ، ثم اعتذر إليه بالصلاة ، فقال له - عليه السلام - : " ألم تسمع إلى قوله تعالى : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ويدل عليه أنك تخاطبه في الصلاة بالسلام ، فتقول : السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الخطاب مع غيره يبطل الصلاة ، وأما ذو اليدين فكان كلامه على تقدير النسخ وقصر الصلاة ، وكان الزمان زمان نسخ ، فكان كلامه على هذا التوهم في حكم الناسي .

وأما كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما جرى على أنه قد كمل الصلاة ، فكان في حكم الناسي ، وجاء في الحديث : " إنما أنسى " كذا ذكره الطيبي ، قال الطحاوي : وقد زعم القائل بحديث ذي اليدين أن خبر الواحد تقوم به الحجة ويجب به العمل ، فقد أخبر ذو اليدين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل من أصحابه مأمون ، فالتفت بعد إخباره إلى أصحابه فقال : أقصرت الصلاة ؟ فكان متكلما بذلك مع علمه بأنه في الصلاة على مذهب هذا المخالف ، فلم يكن ذلك مخرجا من الصلاة ، فدل على أن هذا كان قبل نسخ الكلام في الصلاة ، ثم قال : فإن قال قائل : كيف يكون هذا منسوخا وأبو هريرة قد كان حاضرا ذلك ، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين ، ونسخ الكلام كان بمكة ، قيل له : أما ما ذكرت عن وقت إسلام أبي هريرة فهو كما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة فمن روى لك هذا ؟ وأنت لا تحتج إلا بسند ولا تسوغ خصمك الحجة عليك إلا بمثله ، فمن أسند لك هذا وعمن رويته ؟ وهذا زيد بن أرقم الأنصاري يقول : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : وقوموا لله قانتين فأمر بالسكوت ، وقد روينا عنه ذلك في غير هذا الموضع في كتابنا ، وصحبة زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بالمدينة ، فقد ثبت بحديثه هذا أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة ، مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلا ; لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أحد الشهداء ، قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره .

وقد روي عن ابن عمر ما يوافق ذلك أنه ذكر حديث ذي اليدين فقال : كان إسلام أبي هريرة بعدما قتل ذو اليدين ، فقول أبي هريرة : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بالمسلمين - وهذا جائز في اللغة ، وقد روي مثل هذا عن النزال بن سبرة قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف فأنتم اليوم بنو عبد الله ونحن بنو عبد الله " ، فهذا النزال يقول : " قال لنا " ، وهو لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريد بذلك قال لقومنا ، ومما يدل على نسخ الكلام في الصلاة ، وأنه كان بالمدينة ما ورد عن أبي سعيد الخدري قال : " كنا نرد السلام في الصلاة حتى نهينا عن ذلك " ، وأبو سعيد في السن أيضا لعله دون زيد بن أرقم بدهر طويل بل هو كذلك اهـ ، مختصرا .

[ ص: 806 ] -

التالي السابق


الخدمات العلمية