صفحة جزء
[ ص: 809 ] ( 21 ) باب سجود القرآن

الفصل الأول

1023 - عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد ( بالنجم ) وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ؛ رواه البخاري .


[ 21 ] - باب سجود القرآن

أي : سجدة التلاوة وهي سجدة مفردة منوية مخفوفة بين تكبيرتين ، مشروط فيها ما شرط للصلاة من غير رفع يد وقيام وتشهد وتسليم ، وتجب على القارئ والسامع ، ولو لم يكن مستمعا عند أبي حنيفة وأصحابه ، وقال غيره : سنة على القارئ والمستمع ، واختلفوا فيمن لم يكن مستمعا للقراءة بل حصل له سماع ، على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي ، أصحهما في الروضة الاستحباب أيضا ، وقال النووي في شرح مسلم : قال القاضي : واختلف العلماء في العالم والمتعلم إذا قرأ السجدة ، فقيل : عليهما في أول مرة ، وقيل : لا سجدة لهما اهـ ، وعندنا تتداخل السجدات إذا كانت القراءة في مجلس واحد ، سواء سجد أولا أو آخرا .

الفصل الأول

1023 - ( عن ابن عباس قال : سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ) : قال ابن الملك : المراد سورة النجم ، قلت : المراد آية السجدة منها ، وفيه دليل على وجوب سجدات المفصل خلافا لمالك ، ( وسجد معه المسلمون ، والمشركون ، والجن ، والإنس ) : تعميم بعد تخصيص ، قال ميرك : هذه اللامات في هذه الأربعة للعهد ، أي : الذين كانوا عنده ، وهذا كان بمكة في المسجد الحرام ، قال ابن حجر : وسبب تقديم الجن لما في سجودهم من الغرابة ، وسبب سجود المشركين أنه - عليه السلام - لما وصل فيها إلى قوله تعالى : أفرأيتم اللات والعزى الآيات الثلاث قرأ الشيطان محاكيا لصوته في أثناء قراءته : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وأدخل ذلك في جملة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فظن المشركون أنه قد أثنى على آلهتهم ففرحوا ، فلما سجد سجدوا ، وفي ذلك نزل : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ، أي : قرأ ألقى الشيطان في أمنيته ، أي : قراءته ، وهذا هو الصحيح ; لأن ما ذكره بعض المفسرين من أنه - عليه السلام - جرى على لسانه في أثناء قراءته على سبيل السهو ، فإن ذلك غير صحيح ، وحاشا مقامه عن ذلك ، كذا نقله عن التصحيح ، والغرانيق : بغين معجمة مفتوحة ، طيور الماء شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنها تشفع لهم بالطيور ، وتعلو في السماء وترتفع ، وقال ابن الملك في شرح المصابيح : وقيل : أنه شق على النبي - صلى الله عليه وسلم - تولي قومه عنه ومباعدتهم عما جاء به ، فجلس ذات يوم في نادية من أندية قريش ، وتمنى في نفسه أن يأتيه الله بما يقارب به بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، وأن لا يأتيه بما ينفرون عنه ، فأنزل الله تعالى سورة النجم ، فقرأ عليهم حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى ، ففرحت قريش ، ومضى كل على قراءته وسجد في آخر السورة ، فسجد المسلمون لسجوده ، وسجد جميع من كان هناك من المشركين ، وتفرقوا مسرورين بما سمعوا منه - عليه السلام - وما رأوه من السجدة ، وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا فأحسن الذكر ، فنحن نوافقه كما وافقنا في مدح الأصنام ، فلما انتهى - صلى الله عليه وسلم - أتاهجبريل فقال : ما صنعت ! تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم أقل لك ؟ فحزن - عليه السلام - حزنا شديدا ، فخاف منه تعالى خوفا بليغا فأنزل الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فقالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من مدح آلهتنا عند الله تعالى ، فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ، وأما سجود الجن ، فكان منهم مسلمون ومشركون فوافقوا الرسول كما وافق الإنس اهـ .

[ ص: 810 ] ومعنى قوله : ألقى الشيطان على لسانه ، أي : ألقى الشيطان تلك الكلمات على منوال لسانه وحكاية صوته - عليه السلام - فإن الشيطان ليس له قوة الإلقاء ، ولا قدرة الإغواء على سيد الأنبياء وسند الأصفياء ، ولذا قال الطيبي : لعله - عليه السلام - سجد هذه السجدة لما وصفه الله تعالى في مفتتح السورة من أنه وما ينطق عن الهوى وذكر شأن قربه من الله تعالى ، وأراه من آيات ربه الكبرى ، وأنه ما زاغ البصر وما طغى شكرا لله تعالى على تلك النعمة العظمى ، والمشركون لما سمعوا أسماء طواغيتهم اللات والعزى سجدوا معه ، وأما ما يروى أنهم سجدوا لما مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أباطيلهم فقول باطل من مخترعات الزنادقة اهـ .

لكن تعليله السجدة ، بما ذكر غير صحيح ، فإن سجدته سجدة تلاوة لا سجدة شكر بلا خلاف ، ثم رأيت ابن حجر تعقبه بقوله : سبب سجدات التلاوة في محالها الأربعة عشر ، أن آياتها مسوقة لمدح الساجدين أو ذم من أبى السجود أو الأمر به والحث عليه على أنها سجدة تلاوة لا سجدة شكر اهـ .

فشكرت الله تعالى على حسن التوارد ، ويؤيده عنوان الباب ؛ والله أعلم بالصواب .

ثم اعلم أن هذه القصة ردها غير واحد ، منهم الطيبي ، والبيضاوي لكن الشيخ ابن حجر في شرح البخاري أطال في ثبوتها ، ثم قال : وأحسن ما قيل في التأويل أن الشيطان ألقى ذلك في سكتة من سكتاته ، ولم يفطن لها - عليه السلام - وسمعها غيره فأشاعها ، قلت : الظاهر أن الكافرين هم السامعون ، وقال البغوي : الأكثرون على أنها جرت على لسانه سهوا ونبه عليه ، قال شيخنا عمدة المفسرين الشيخ عطية نقلا عن شيخه الإمام أبي الحسن البكري : أنه لا يقدح ذلك في العصمة لكونه من غير قصد كحركة المرتعش اهـ .

لكن قال صاحب المدارك : إجراء الشيطان ذلك على لسانه - عليه السلام - جبرا بحيث لم يقدر على الامتناع عنه ممتنع ; لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ففي حقه بالأولى ؛ والقول بأنه جرى ذلك على لسانه سهوا أو غفلة مردود أيضا ; لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه ، سيما في حال تبليغ الوحي ، ولو جاز لبطل الاعتماد على قوله ، ثم اختار التأويل الذي ذكره الشيخ ابن حجر ، ثم قال : وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمع كلامه ، فقد روي أنه نادى يوم أحد : ألا إن محمدا قد قتل ، وقال يوم بدر : لا غالب لكم اليوم من الناس ( رواه البخاري ) قال ميرك : ورواه الترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية