صفحة جزء
96 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : خرج رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي يديه كتابان ، فقال : " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ " . قلنا : لا ، يا رسول الله ! إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى : ( هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا . ثم قال للذي في شماله : ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ؛ فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا ) فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال : ( سددوا ، وقاربوا ؛ فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ) . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما ، ثم قال : ( فرغ ربكم من العباد ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) رواه الترمذي .


96 - ( وعن عبد الله بن عمرو ) : بالواو . ( رضي الله عنهما ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي يديه ) : وفي بعض النسخ : وفي يده كما في أكثر نسخ المصابيح فيراد بها الجنس ( كتابان ) : والواو للحال ( فقال ) : ( أتدرون ) أي : أتعلمون ( ما هذان الكتابان ؟ ) : الظاهر من الإشارة أنهما حسيان ، وقيل : تمثيل ، واستحضار [ ص: 172 ] للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كوشف له بحقيقة هذا الأمر ، وأطلعه الله عليه اطلاعا لم يبق معه خفاء صور الشيء الحاصل في قلبه بصورة الشيء الحاصل في يده ، وأشار إليه إشارة إلى المحسوس ( قلنا : لا ) أي : لا ندركه ( يا رسول الله ! إلا أن تخبرنا ) : استثناء مفرغ ؛ أي : طلبوا بهذا الاستدراك إخباره إياهم ( فقال للذي في يده اليمنى ) أي : لأجله ، وفي شأنه ، أو عنه ، وقيل : قال بمعنى أشار فاللام . بمعنى ( إلى ) ( هذا كتاب من رب العالمين ) : خصه بالذكر دلالة على أنه تعالى مالكهم ، وهم له مملوكون يتصرف فيهم كيف يشاء ، فيسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، وكل ذلك عدل وصواب ، فلا اعتراض لأحد عليه ، وقيل : الظاهر أن هذا كلام صادر على طريق التصوير والتمثيل مثل الثابت في علم الله تعالى ، أو المثبت في اللوح بالمثبت بالكتاب الذي كان في يده ، ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة ، فإن الله تعالى قادر على كل شيء ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستعد لإدراك المعاني الغيبية ، ومشاهدة الصور المصوغة لها ( فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ) : الظاهر أن كل واحد من أهل الجنة ، وأهل النار يكتب أسماؤهم ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، سواء كانوا من أهل الجنة ، أو النار للتمييز التام ، كما يكتب في الصكوك . قال الأشرف : أهل الجنة تكتب أسماؤهم وأسماء آبائهم ، وقبائلهم للذين هم أهل النار في الكتاب الذي باليمين ، وبالعكس في أهل النار ، وإلا فالآباء والأبناء إذا كانوا من جنس أهل الجنة ، أو من جنس أهل النار ، فلا حاجة إلى إفراد ذكرهم لدخولهم تحت قوله : فيه أسماء أهل الجنة ، وفيه أسماء أهل النار ( ثم أجمل على آخرهم ) : من قولهم : أجمل الحساب إذا تمم ورد التفصيل إلى الإجمال ، وأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته كما هو عادة المحاسبين أن يكتبوا الأشياء مفصلة ، ثم يوقعوا في آخرها فذلكة ترد التفصيل إلى الإجمال ، وضمن ( أجمل ) معنى أوقع فعدي بعلى أي : أوقع الإجمال على من انتهى إليه التفصيل ، وقيل : ضرب بالإجمال على آخر التفصيل أي : كتب . ويجوز أن يكون حالا أي : أجمل في حال انتهاء التفصيل إلى آخرهم فعلى بمعنى ( إلى ) ( فلا يزاد فيهم ) : جزاء شرط ؛ أي : إذا كان الأمر على ما تقرر من التفصيل ، والتعيين والإجمال بعد التفصيل في الصك فلا يزاد فيهم ( ولا ينقص ) : بصيغة المجهول ( منهم أبدا ) : لأن حكم الله لا يتغير ، وأما قوله تعالى : ( لكل أجل كتاب يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) فمعناه لكل انتهاء مدة وقت مضروب ، فمن انتهى أجله يمحوه ، ومن بقي من أجله يبقيه على ما هو مثبت فيه ، وكل ذلك مثبت عند الله في أم الكتاب ، وهو القدر ، كما أن ( يمحو ويثبت ) هو القضاء فيكون ذلك عين ما قدر وجرى في الأول ، كذلك فلا يكون تغييرا ، أو المراد منه محو المنسوخ من الأحكام ، وإثبات الناسخ ، أو محو السيئات من التائب ، وإثبات الحسنات بمكافأته ، وغير ذلك ، ويمكن أن يقال : المحو ، والإثبات يتعلقان بالأمور المعلقة دون الأشياء المحكمة ، والله أعلم . ففي الجامع الصغير برواية الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ( إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ؛ يخلق ، ويرزق ، ويميت ، ويحرس ، ويعز ، ويذل ، ويفعل ما يشاء ) قال ابن حجر ، ولا ينافيه قوله تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) لما مر أن المحو والإثبات إنما هو بالنسبة لما في اللوح المحفوظ وعلم الملائكة ؛ لأن الأشياء فيه قد تكون معلقة على أسباب يتغير بوجودها ، وفقدها لا لأم الكتاب المراد بها علم الله تعالى القديم ؛ لأنه لا محو فيه ، ولا إثبات ، وسر ذلك التعليق مع أنه لا يقع إلا الموافق للعلم القديم مزيد التعمية على الملائكة المطلعين على ذلك ، وتحقيق انفراده تعالى [ ص: 173 ] بعلمه القديم ، وأنه لا يمكن أحدا أن يطلع عليه إلا بالنسبة لجزئيات معينة كإعلامه - عليه الصلاة والسلام - لجماعة من أصحابه على التعيين أنهم من أهل الجنة . ( ثم قال للذي في شماله : ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ) : والفاسق مسكوت عنه كما هو دأب الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية في جميع الأحكام الوعدية ، والوعيدية ، ليكون بين الخوف والرجاء راضيا . بما جرى عليه من القضاء ، والأظهر أنه مكتوب في أهل الجنة ؛ لأن مآله إليها ، وإن دخل النار فإن الخاتمة هي المدار عليها . ( ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبدا ) . فقال أصحابه ) : رضي الله عنهم ( ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه ) : بصيغة المجهول يعني إذا كان المدار على كتابة الأزل فأي فائدة في اكتساب العمل ؟ ( فقال : سددوا ) أي : اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق ( وقاربوا ) أي : اطلبوا قربة الله تعالى بطاعته بقدر ما تطيقونه ، والجواب من أسلوب الحكيم ؛ أي : فيم أنتم من ذكر القدر والاحتجاج به ، وإنما خلقتم للعبادة فاعملوا ، وسددوا ، وقاربوا قاله الطيبي . وقال الشيخ ابن حجر في شرح البخاري : سددوا أي : الزموا السداد ، وهو الصواب من غير إفراط وتفريط ، وقاربوا أي : إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه . وقال الكرماني : وقاربوا في العبادة ، ولا تباعدوا فإنكم إن باعدتم في ذلك لم تبلغوه ، أو معناه ساعدوا . يقال : قاربت فلانا إذا ساعدته أي : ليساعد بعضكم بعضا في الأمور ، وحاصل الجواب - والله أعلم بالصواب - : نفي الجبر ، والقدر ، وإثبات الحكم باعتدال الأمرين كتابة الأزل ، وسراية العمل ، أو لأن الأعمال أمارات ، وعلامات فلا بد من وجودها إذ لا يعمل الله تعالى بمجرد علمه ، والله أعلم ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن صاحب الجنة يختم له ) : بصيغة المجهول ( بعمل أهل الجنة ) أي : بعمل مشعر بإيمانه ، ومشير بإيقانه ، ( وإن عمل ) أي : ولو عمل قبل ذلك ( أي عمل ) من أعمال أهل النار ( وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ) : أعم من الكفر ، والمعاصي ( وإن عمل أي عمل ) أي : قبل ذلك من أعمال أهل الجنة ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : أشار ( بيديه ) ؛ العرب : تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، فتطلقه على غير الكلام واللسان ، فتقول قال بيده أي : أخذ ، وقال برجله أي : مشى .


وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب



أي : أومأت ، وقال بالماء على يده ، أي : قلب ، وقال بثوبه أي : رفعه ( فنبذهما ) أي : طرح ما فيهما من الكتابين ؛ قيل : وراء ظهره ، وفي الأزهار الضمير في نبذهما لليدين ؛ لأن نبذ الكتابين بعيد من دأبه اهـ . وفيه أن نبذهما ليس بطريق الإهانة ، بل إشارة إلى أنه نبذهما إلى عالم الغيب ، ثم هذا كله إذا كان هناك كتاب حقيقي ، وأما على التمثيل فيكون المعنى نبذهما أي : اليدين . قال بعضهم : قوله قال بيديه فنبذهما . بمنزلة قوله : جف القلم بما أنت لاق ، كناية عن أن هذا الأمر قد فرغ منه فصار كما تخلفه وراء ظهرك ؛ فيكون معنى قوله : ثم قال : ( فرغ ربكم ) : تفسيرا لهذا الفعل ، ويكون نتيجة لهذا الكلام ( من العباد ) : قال الأشرف أي : من أمر العباد ، والمراد بالأمر الشأن ؛ أي : قدر أمرهم لما قسمهم قسمين ، وقدر لكل قسم على التعيين كونه من أهل الجنة ، أو النار بحيث لا يقبل التغيير فكأنه فرغ من أمرهم ، وإلا فالفراغ لا يجوز عليه تعالى ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) : يمكن أن يكون [ ص: 174 ] هذا استشهادا من القرآن ، واعتضادا بالفرقان على أن أمر الفريقين مبهم عندنا ومجمل ، ومعلوم عنده تعالى ومفصل ، ويمكن أن يكون موافقة لفظية ، ومطابقة معنوية بنوع من الاقتباسات الحكمية ، والتضمنات بالكلمات الإلهية ، والله تعالى أعلم . ( رواه الترمذي ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية