صفحة جزء
1385 - وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت والإمام يخطب ، فقد لغوت " . متفق عليه .


1385 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا قلت لصاحبك " ) أي : في المسجد ( " يوم الجمعة " ) : ظرف ، ( أنصت ) : من الإنصات بمعنى السكوت مقول القول ، ( " والإمام يخطب " ) : جملة حالية ، ( " فقد لغوت " ) : جزاء الشرط . وفي رواية : لغيت ، ومنه قوله تعالى : والغوا فيه ، قال ميرك : فيه دليل على أن وجوب الإنصات والنهي عن الكلام إنما هو في حال الخطبة ، وهذا مذهبنا ومذهب مالك والجمهور ، وقال أبو حنيفة : يجب الإنصات بخروج الإمام اهـ . ولعله قال به في قول جمعا بين الحديثين ، وهو ما تقدم . فإذا خرج الإمام ، وهذا الحديث وهو لا يفيد الحصر حتى ينافي الجمع في شرح السنة قوله : لغوت أي : تكلمت بما لا يعنيك . وقيل : خبت وخسرت ، وقيل : ملت وعدلت عن الصواب . قال الطيبي : وذلك لأن الخطبة قامت مقام الركعتين ، فكما لا يجوز التكلم في المنوب ، لا يجوز في النائب . تم كلامه ، وفيه أن هذا رأي ضعيف في مذهبه مع حرمة الكلام [ ص: 1032 ] لنهيه - عليه الصلاة والسلام - . وهذه العلة حكمة النهي لا أنها قياس ، فإنه لو صح لبطلت صلاته وليس كذلك ، ثم قال : وهذا في حق من أمر بالمعروف ، فكيف في حق من ارتكب المنكر ، وتكلم ابتداء ؟ ! وتعقبه ابن حجر بأن ما قاله مخالف لمذهبه المعتمد أن الكلام حال الخطبة ولو عبثا مكروه لا حرام اهـ . قال المظهر : والكلام منهي استحبابا أو وجوبا ، فالطريق أن يشار إليه باليد للسكت اهـ . كلامه .

وفي مذهب مالك : الإنصات واجب ، سواء سمع الخطبة أم لا . قال ابن الهمام : قوله : " فقد لغوت " هذا يفيد بطريق الدلالة منع الصلاة ، وتحية المسجد ; لأنه منع من الأمر بالمعروف ، وهو أعلى من السنة وتحية المسجد ، فمنعه منها أولى . فإن قيل : العبادة مقدمة على الدلالة عند المعارضة ، وقد ثبت أن رجلا جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال : " أصليت يا فلان ؟ " قال : لا . قال : " صل ركعتين وتجوز فيهما " . فالجواب : أن المعارضة غير لازمة منه ; لجواز كونه قطع الخطبة ، وهو كذلك لخبر أنس : دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " قم فاركع ركعتين " وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته اهـ .

وعندي الحمل على أنه - عليه الصلاة والسلام - قطع خطبته مستبعد ، لما ذكره ابن الهمام ، أنه يكره للخطيب أن يتكلم في حال الخطبة للإخلال بالنظم ، إلا أن يكون أمرا بمعروف ، كقصة عمر مع عثمان وهي معروفة اهـ . فالأولى أن يقال : معنى قوله يخطب أي : يريد أن يخطب ، وليس قوله : وأمسك عن الخطبة نصا في قطع الخطبة ; لأنا نقول : المراد أمسك عن شروعها ، نعم فيه تقوية لقولهما حيث قالا : يباح الكلام حتى يشرع في الخطبة . وقال أبو حنيفة : إذا صعد الإمام المنبر يجب ترك صلاة النافلة والكلام ، ويحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - علم أن على الداخل قضاء ركعتي الصبح ، فأمره بهما رعاية للترتيب الواجب عندنا ، والله أعلم . ولا يبعد حمله على الخصوصية أو المنسوخية جمعا للأدلة الشرعية . ( متفق عليه ) .

قال ابن حجر : ما اعتيد في الأزمنة المتأخرة أن شخصا يقرأ هذا الحديث بصوت مرتفع بعد فراغ الأذان الذي بين يدي الخطيب ، وقبل أن يشرع في الخطبة ، وهذا وإن كان بدعة إلا أنه حسن ; لأن فيه حث الناس على الإصغاء ، والاستماع ، وعدم الكلام ، وذلك أمر بمعروف ، ومما يشهد لذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع لما أراد الخطبة أمر من يستنصت له الناس ، فسن ذلك قياسا على هذا ، فمن زعم أن ذلك بدعة ، وشنع على فاعله ، فقد غفل عما قررته فتأمل . اهـ . فتأملنا ، فوجدنا المناقضة بين الكلام الأول حيث قال : وإن كان بدعة ، وبين الثاني حيث قال : ومن زعم أن ذلك بدعة ، ثم لا شك أنه بدعة غير مستحسنة ، إذ قعود الخطيب على المنبر منتظرا فراغ كلام غيره غير مستحسن شرعا ، ووضعا ، وطبعا ، وأما أمره - عليه الصلاة والسلام - من يستنصت على تقدير صحته إنما كان حين أراد أن يخطب قبل أن يطلع المنبر ، فالقياس فاسد .

ومن قبيح أفعالهم في هذا الزمان أن الخطيب الشافعي بمقتضى مذهبه يسلم بعد طلوعه المنبر ، وتوجهه إلى الناس ، ولا أحد يرد عليه السلام ، فكل من يقربه ، ويسمع سلامه ، يكون عاصيا بترك رده ، ولو أراد أحد أن يرد عليه لا يتصور ; لأن المؤذنين عقيب سلامه من غير فصل يشرعون في الأذان فقلت لخطيب : إما أن تترك هذه السنة لئلا توقع الناس في ترك الفرض ، وإما أن تأمر المؤذن بأن يرد عليك ، ثم يؤذن . فقال : هذا عادة ولا يمكن تغييرها ، ومن أقبح أفعال المؤذنين حينئذ رفع أصواتهم في أثناء الخطبة ، ومن قبيح فعل الخطيب أنه أحيانا يتبعهم ، وينتظر سكوتهم ، ثم يبالغون في رفع الصوت عند ذكر السلاطين ، وهذا كله بشآمة البدعة ، ومتاركة السنة ، ومنشؤها تذلل العلماء للأمراء ، وإدخال أساميهم في الخطبة متوسلين إلى غرضهم الفاسد بذكر الخلفاء الأربعة وغيرهم في الخطبة ، إلى أن معانديهم ومخالفيهم من الرافضة وجدوا سبيلا إلى الضلالة الزائدة ، فيسبون الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - فوق منابرهم مكان مدح أهل السنة لهم ، وهذه كلها بدع ; فكن منكرا بقلبك وإن أفتاك المفتون ، وما أحسن فعل عمر بن عبد العزيز حيث جعل مكان سب أهل البيت الصادر من بني أمية فوق المنابر هذه الآية الشريفة في آخر [ ص: 1033 ] الخطبة : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فهذه هي البدعة الحسنة ، بل السنة المستحسنة ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . والمراد بالمسلمين زبدتهم وعمدتهم ، وهم العلماء بالكتاب والسنة ، الأتقياء عن الحرام والشبهة ، جعلنا الله منهم في الدنيا والآخرة .

ثم وجه مناسبة هذا الحديث لعنوان الباب أنه يفهم منه الحث على التبكير ، حتى لا تفوته سنة الجمعة ، أو تحية المسجد ، أو لا يحتاج إلى قوله : ( أفسحوا ) ، وأما ما ذكره ابن حجر من أن وجه مناسبته أنه ربما احتاج إلى الكلام حالة الخطبة ، فبين له حكمه ، ففي غاية البعد إذ يستوي في هذا الحكم المبكر وغيره ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية