صفحة جزء
[ ص: 1043 ] 1406 - ( وعن عمار قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته مئنة من فقهه ; فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا رواه مسلم ) .


1406 - ( وعن عمار قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن طول صلاة الرجل ) أي : إطالتها ( وقصر خطبته ) بكسر القاف ، وفتح الصاد أي : تقصيرها ( مئنة ) بفتح الميم وكسر الهمزة وتشديد النون ، وأما قول ابن حجر : وحكي فتح الهمزة فغير ثابت في الأصول ( من فقهه ) أي : علامة يتحقق بها فقهه ، مفعلة بنيت من إن المكسورة المشددة ، وحقيقتها مظنة ، ومكان لقول القائل : أنه فقيه ; لأن الصلاة مقصودة بالذات ، والخطبة توطئه لها ، فتصرف العناية إلى الأهم ، كذا قيل أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق ، وحال الصلاة مقصدة الخالق ، فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه . وقال : فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له ، وحقيقتها أنها مفعلة من معنى إن التي للتحقيق ، غير مشتقة من لفظها ; لأن الحروف لا يشتق منها ، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها ، ولو قيل : إنها مشتقة منها بعد ما جعلت اسما لكان قولا ، ومن أغرب ما قيل فيها : إن الهمزة بدل من ظاء المظنة ، والميم في ذلك كله زائدة . قال أبو عبيدة : معناه أن هذا مما يستدل به - صلى الله عليه وسلم - ذلك علامة من فقهه ; لأن الصلاة هي الأصل ، والخطبة هي الفرع ، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة ، ( فأطيلوا الصلاة ، واقصروا الخطبة ) قال ابن الملك : المراد بهذا الطول ما يكون على وفاق السنة ، لا أقصر منها ولا أطول ; ليكون توفيقا بين هذا الحديث والحديث قبله انتهى . أقول : لا تنافي بينهما ; فإن الأول دل على الاقتصاد فيهما ، والثاني على اختيار المزية في الثانية منهما ، لا ينافي هذا ما ورد في مسلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر وصعد المنبر فخطب إلى الظهر ، فنزل وصلى ثم صعد وخطب إلى العصر ، ثم نزل وصلى ، ثم صعد وخطب إلى المغرب ، فأخبر بما كان ، وما هو كائن اهـ .

لوروده نادرا اقتضاه ، ولكونه بيانا للجواز ، وكأنه كان واعظا ، والكلام في الخطب المتعارفة ، ( وإن من البيان لسحرا ) أي : بعض البيان يعمل عمل السحر ، فكما يكتسب الإثم بالسحر ، يكتسب ببعض البيان أو منه ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون وإن كان غير حق ، ففي هذا إشارة إلى بيان الحكمة في قصر الخطبة ; فإنه في معرض البلية ، فيجب عليه الاحتراز من هذه المحنة حتى لا يقع في الرياء والسمعة ، وابتغاء الفتنة ، فهو ذم لتزيين الكلام وتعبيره بعبارة فيها السامع كالتحير في السحر ، نهي عنه كهو عن السحر ، وقيل : بل هو مدح للفصاحة والبلاغة ، يريد أن البليغ - أي : الذي له ملكة يقتدر بها تأليف كلام بليغ ، أي : مطابق لمقتضى الحال - يبعث الناس على حب الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وعلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ببلاغته وفصاحته ; فبيانه هو السحر الحلال في اجتذاب القلوب ، والاشتمال على الدقائق واللطائف ، فهو تشبيه بليغ ، والظاهر أنه من عطف الجمل ذكره استطرادا . وقال الطيبي : الجملة حال من اقصروا ، أي : اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة ، وهو من أعلى طبقات البيان ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم : " أوتيت جوامع الكلم " . قال النووي : قال القاضي عياض فيه تأويلان : أحدهما : أنه ذم لإمالة القلوب وصرفها بمقاطع الكلام ، حيث يكتسب به من الإثم ما يكتسب بالسحر ، وأدخله مالك في الموطأ في باب ما يكره من الكلام ، وهذا مذهبه في تأويل الحديث . والثاني : أنه مدح ; لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليم البيان ، وشبه بالسحر لميل القلوب إليه ، وأصل السحر الصرف ، والبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو إليه . وقال النووي : وهذا الثاني هو الصحيح المختار ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية