صفحة جزء
145 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها ; فقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! .

فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : أنا أصوم النهار أبدا ، ولا أفطر . وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ،
فمن رغب عن سنتي فليس مني
" متفق عليه .


145 - ( وعن أنس ) : - رضي الله عنه - ( قال : جاء ثلاثة رهط ) : الرهط : العصابة دون العشرة وقيل : دون الأربعين ، وقيل : هم علي وعثمان بن مظعون وعبد الله بن رواحة ، كذا ذكره الطيبي وقيل : المقداد بن الأسود بدل عبد الله كذا نقله ابن الملك . وقال الكرماني : إنما جاء تفسير الثلاثة بالرهط لأنه معنى الجماعة فكأنه قيل : ثلاثة أنفس ، والفرق بين الرهط والنفر أنه من الثلاثة إلى العشرة ، والنفر من الثلاثة إلى التسعة . قال الشيخ : وقع في مرسل سعيد بن المسيب عن عبد الرازق أن الثلاثة المذكورين هم : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعثمان بن مظعون . قال : لكن في عد عبد الله بن عمرو منهم نظر لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب كذا ذكره الأبهري ، وذكر في " الخلخالي " مكان عبد الله المقداد والله أعلم . ( إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، أي : عبادته في البيت ، والمراد معرفة قدر عادة وظائفه في كل يوم وليلة حتى يفعلوا ذلك ( فلما أخبروا ) : على صيغة المجهول ، أي : أخبرتهم ( بها ) أي : بعبادته ( كأنهم تقالوها ) : تفاعل من القلة أي استقلوها ، وجدوها أو عدوها قليلة لما في نفوسهم أنها أكثر مما أخبروا به بكثير ( فقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، أي بيننا وبينه بون بعيد فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة وهو معصوم مأمون الخاتمة ، أو لأن له معاملة باطنية مع الله تعالى ساعة منها أفضل من طاعة سنة ظاهرية من غيره كما ورد : تفكر ساعة خير من عبادة سنة أو ستين سنة له ، لا سيما في العلوم والمعارف ، وقيل : فإنا مذنبون ومحتاجون إلى المغفرة ( وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! ) فينبغي أن تكون العبادة نصب أعيننا ولا نصرف عنها وجوهنا ليلا ونهارا ، ثم الذنب : ما له تبعة دينية أو دنيوية مأخوذ من الذنب ، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معاتبا بترك الأولى تأكيدا للعصمة أطلق عليه اسم الذنب ، أو يكون من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين " . قال ابن حجر ، أي : ستر بينه وبينه بعصمته منه فلم يمكن صدوره منه ولو صغيرة قبل النبوة على الصواب .

هذا معنى المغفرة في حق الأنبياء ، ومعناها في غيرهم سترة بينهم وبين عقوبة ذنوبهم اهـ - .

وفي قوله : على الصواب تخطئة لأكثر أهل العلم : وهو غير صواب فكان حقه أن يقول على الصحيح بناء على مذهبه والله أعلم بالصواب . وقال بعض المحققين : وإجماع الصحابة على التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وسائر أحواله حتى في كل حالاته من غير بحث ولا تفكر بل بمجرد علمهم أو ظنهم ذلك عنه دليل قاطع على إجماعهم على عصمته وتنزهه عن أن يجري على ظاهره أو باطنه شيء لا يتأسى به فيه مما لم يقم دليل على اختصاصه به اهـ .

والجمهور جوزوا وقوع الكبائر سهوا والصغائر عمدا ، لكن المحققون منهم اشترطوا أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه ، فعلى هذا قول الجمهور لا ينافي الإجماع المذكور .

قال المظهر : ظنوا أن وظائف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة : فلما سمعوها عدوها قليلة ، وقد راعوا الأدب حيث لم ينسبوه إلى التقصير بل أظهروا كماله ولاموا أنفسهم في مقابلتهم إياها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه تعليم للمريد بأن لا ينظر إلى الشيخ بعين الاحتقار وإن رأى عبادته قليلة ، فليظهر عذره وليلم نفسه إن جرى فيها إنكار على شيخه لأن من اعترض على شيخه لم يفلح أبدا ، وفيه أن قلة وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم -

[ ص: 228 ] كانت رحمة على الأمة لئلا يتضرروا بالاقتداء ، إذ لأنفسهم عليهم حق ولأزواجهم عليهم حق ، فإن الإنسان محتاج إلى الطعام ليتقوى صلبه ، والرجال محتاجون إلى النساء لبقاء النسل ( فقال أحدهم : أما أنا ) ، أي : أما : رسول الله فقد خص بالمغفرة العامة فلا عليه أن يكثر العبادة ، وأما أنا فلست مثله ( فأصلي الليل ) ، أي : أحييه بالصلاة ، والظاهر أنه وما قبله عزم على ما ذكر ، ويحتمل الإخبار عن ذلك ( أبدا ) ، أي : طول الليل أو دائما غير مختص بليل دون ليل ( وقال الآخر : أنا أصوم النهار ) ، أي : أبدا كما في نسخة لكن يستغنى عنه بقول ( ولا أفطر ) ، أي : بالنهار يعني غير الأيام الخمسة المنهية ( وقال الآخر : أنا أعتزل النساء ) : أي أجتنبهن ( فلا أتزوج ) ، أي : منهن أحدا ( أبدا ) ، فإنهن والاشتغال بهن يمنع الشخص عن العبادة ويوقعه في طلب الدنيا والحرص على تحصيلها في العادة ، وهو خلاف سلوك أهل الإرادة من السادة ( فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ) ، وقد علم ذلك بأن جاء إلى أهله فأخبروه وإما بالوحي ( فقال : أنتم ) ، أي : أأنتم فحذفت همزة الاستفهام التي للإنكار من قبل أنتم الذي هو الفاعل المعنوي المزال عن مقره على حد : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) مبالغة في الإنكار عليهم ( الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! ) كناية عما تقدم ( أما ) : بالتخفيف حرف تنبيه واستفتاح . بمنزلة ألا ويكثر قبل القسم ، وقيل معناه حقا ، وأغرب ابن حجر وقال : الهمزة للاستفهام الإنكاري وما : حرف تنبيه ( والله إني لأخشاكم ) . قال القاضي ، أي : أنا أعلم به وبما هو أعز لديه وأكرم عنده ، فلو كان ما استأثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال لما أعرضت عنه وقوله ( لله ) : مفعول به لأخشاكم ، وأفعل لا يعمل في الظاهر إلا في الظرف ( وأتقاكم له ) : إشارة إلى أن الخشية التي لا تورث التقوى لا عبرة بها ( لكني أصوم ) : استدراك عن محذوف ، أي : أنا أخشاكم لله ، فينبغي على زعمكم أو في الحقيقة أن أقوم في الرياضة إلى أقصى مداه ، لكن أقتصد وأتوسط فيها فأصوم في وقت ( وأفطر ) : في آخر ( وأصلي ) : بعض الليل ( وأرقد ) : في بعضه ( وأتزوج النساء ) : ولا أزهد فيهن وكمال الرجل أن يقوم بحقهن مع القيام بحقوق الله تعالى والتوكل عليه والتفويض إليه ، وهذا كله ليقتدي بي الأمة ( فمن رغب ) ، أي : مال وأعرض ( عن سنتي ) ، أي : استهانة وزهدا فيها لا كسلا وتهاونا ( فليس مني ) ، أي : من أشياعي ، وضع قوله : عن سنتي مكان ذلك ليشمل كل ما جاء به من المذكور وغيره ، ومن في مني اتصالية ، وذكر الأبهري عن الشيخ أنه قال : لمح بذلك إلى طريقة الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى ، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه اهـ .

قلت : ما هو تلميح بل هو تصريح على ما ذكره البغوي في المعالم " في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . قال أهل التفسير : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما ووصف القيامة فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن ، وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح جمع المسح وهو الصوف ، ويجبوا مذاكيرهم ، أي : يقطعوها ، ويصوموا الدهر ، [ ص: 229 ] ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، والودك أي الدسم من السمن ، والدهن ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الحولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ " فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي على زوجها أي تظهر . فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك ، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير . فقال عليه الصلاة والسلام : " إني لم أومر بذلك " ، ثم قال : " إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، ومن رغب عن سنتي فليس مني " .

ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع " فأنزل الله هذه الآية . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية