صفحة جزء
5 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " . متفق عليه .


5 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه ) : تصغير هرة . قال المؤلف : قد اختلف الناس في اسم أبي هريرة ونسبه اختلافا كثيرا ، وأشهر ما قيل فيه أنه كان في الجاهلية عبد شمس أو عبد عمرو ، وفي الإسلام عبد الله أو عبد الرحمن ، وهو دوسي . قال الحاكم أبو أحمد : أصح شيء عندنا في اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر ، وغلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له ، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه راغبا في العلم ، راضيا بشبع بطنه ، وكان يدور معه حيثما دار ، وكان من أحفظ الصحابة . قال البخاري : روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل ما بين صحابي وتابعي ، فمنهم ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وأنس . قيل : سبب تلقيبه بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال : كنت أحمل يوما هرة في كمي ، فرآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ما هذه ؟ ) : فقلت : هرة ، فقال : ( يا أبا هريرة ) . وفي رواية ابن إسحاق : وجدت هرة ، وحملتها في كمي ، فقيل لي : ما هذه ؟ فقلت : هرة ، فقيل لي : أنت أبو هريرة . ورجح بعضهم الأول ، وقيل : وكان يلعب بها وهو صغير ، وقيل : كان يحسن إليها ، وقيل : المكني له بذلك والده ، ثم جر " هريرة " هو الأصل ، وصوبه جماعة ; لأنه جزء علم ، واختار آخرون منع صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم ؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة ، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معا في كلمة واحدة بل في لفظة ؛ لأن أبا هريرة إذا وقعت فاعلا مثلا فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرا للحال ، ونظيره خفي . وأجيب بأن الممتنع رعايتهما من جهة واحدة لا من جهتين كما هنا ، وكان الحامل عليه الخفة واشتهار الكنية حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلف فيه اختلافا كثيرا حتى قال النووي : اسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من خمسة وثلاثين قولا ، وبلغ ما رواه خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وستين ، والصحيح أنه توفي بالمدينة سنة تسع وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين ، ودفن بالبقيع ، وما قيل إن قبره بقرب عسفان لا أصل له كما ذكره السخاوي وغيره . [ ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان ) ] أي : ثمراته ، وفروعه فأطلق الإيمان - وهو التصديق والإقرار - عليها مجازا ؛ لأنها من حقوقه ولوازمه [ ( بضع وسبعون ) ] ، وفي رواية : بضعة ، والباء مكسورة فيهما وقد تفتح ، وهي القطعة ، ثم استعملا في العدد لما بين الثلاثة والعشرة . وفي " القاموس " : هو ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس ، أو ما بين الواحد إلى الأربعة ، أو من أربع إلى تسع ، أو هو سبع اهـ . ويؤيده أنه جاء في بعض الروايات سبع وسبعون ، والذي في الأصل هو رواية مسلم ، جرى عليها أبو داود والترمذي والنسائي ، ورواية البخاري بضع وستون ، ورجحت بأنها المتيقن ، وصوب القاضي عياض الأولى بأنها التي في سائر الأحاديث ، ورجحها جماعة منهم النووي بأن فيها زيادة ثقات ، واعترضه الكرماني بأن زيادة الثقة أن يزاد لفظ في الرواية ، وإنما هذا من اختلاف الروايتين مع عدم تناف بينهما في المعنى ؛ إذ ذكر الأقل لا ينفي الأكثر ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أولا بالستين ، ثم أعلم بزيادة فأخبر بها ، ويجاب بأن هذا متضمن للزيادة كما اعترف به الكرماني ، فصح ما قاله النووي ، والأظهر - والله أعلم - أن المراد به التكثير لا التحديد ، ويحمل الاختلاف على تعدد القضية ، ولو من جهة راو واحد ، وقوله : [ ( شعبة ) ] هي في الأصل غصن الشجر وفرع كل أصل ، وأريد بها هنا الخصلة الحميدة أي : الإيمان ذو خصال متعددة ، وفي رواية صحيحة : بضع وسبعون بابا ، وفي أخرى : أربع وستون بابا ، أي نوعا من خصال الكمال ، وفي أخرى : ثلاث وثلاثون شريعة ، من وافى الله بشريعة منها دخل الجنة ، وروى ابن شاهين أن لله تعالى مائة خلق ، من أتى بخلق منها [ ص: 70 ] دخل الجنة ، وفسرت بنحو الحياء ، والرحمة ، والسخاء ، والتسامح ، وغيرها من أخلاقه تعالى المذكورة في أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا . [ ( فأفضلها قول : لا إله إلا الله ) ] أي : هذا الذكر فوضع القول موضعه ، ويؤيده ما ورد بلفظ : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، لا موضع الشهادة ; لأنها من أصله لا من شعبه ، والتصديق القلبي خارج عنها بالإجماع ، كذا قيل ، وهو مبني على جعل الإقرار شطر الإيمان ، وأما على القول بأنه شرط فلا مانع من أن يكون المراد بالقول الشهادة لإنبائه عن التوحيد المتعين على كل مكلف الذي لا يصح غيره إلا بعد صحته ، فهو الأصل الذي يبنى عليه سائر الشعب ، أو لتضمنه شرعا معنى التوحيد الذي هو التصديق والتزامه عرفا سائر العبادات على التحقيق ، ويجوز أن يكون المراد أنه أفضلها من وجه ، وهو أنه يوجب عصمة الدم والمال لا أنه أفضل من كل الوجوه ، وإلا يلزم أن يكون أفضل من الصوم والصلاة ، وليس كذلك ، ويجوز أن يقصد الزيادة المطلقة لا على ما أضيف إليه أي : المشهور من بينها بالفضل في الأديان قول لا إله إلا الله . [ ( وأدناها ) ] أي : أقربها منزلة وأدونها مقدارا ومرتبة ، بمعنى أقربها تناولا وأسهلها تواصلا ، من الدنو بمعنى القرب ، فهو ضد : فلان بعيد المنزلة ، أي : رفيعها ، ومن ثم رواه ابن ماجه مكان أفضلها بلفظ : فأرفعها ، وفي رواية : فأقصاها ، أو من الدناءة أي أقلها فائدة ; لأنها دفع أدنى ضرر [ ( إماطة الأذى ) ] أي : إزالته ، وهو مصدر بمعنى المؤذي ، أو مبالغة ، أو اسم لما يؤذي به كشوكة أو حجر أو قذر . قال الحسن البصري في تفسير الأبرار : هم الذين لا يؤذون الذر ، ولا يرضون الضر ، وفي رواية : إماطة العظم أي : مثلا [ ( عن الطريق ) ] : وفي طريق أهل التحقيق أريد بالأذى النفس التي هي منبع الأذى لصاحبها وغيره ، فالشعبة الأولى من العبادات القولية ، والثانية من الطاعة الفعلية ، أو الأولى فعلية والثانية تركية ، أو الأولى من المعاملة مع الحق والثانية من المجاملة مع الخلق ، أو الأولى من التعظيم لأمر الله والثانية من الشفقة على خلق الله ، أو الأولى من القيام بحق الله والثانية من القيام بحق العباد ، فمن قام بهما صدقا كان من الصالحين حقا [ ( والحياء ) ] : بالمد [ ( شعبة ) ] أي : عظيمة [ ( من الإيمان ) ] أي : من شعبه ، والمراد به الحياء الإيماني ، وهو خلق يمنع الشخص من الفعل القبيح بسبب الإيمان ؛ كالحياء من كشف العورة والجماع بين الناس ، لا النفساني الذي خلقه الله في النفوس ، وهو تغير وانكسار يعتري المرء من خوف ما يلام ويعاب عليه ، وإنما أفرد من سائر الشعب ; لأنه الداعي إلى الكل ; فإن الحيي يخاف فضيحة الدنيا وفظاعة العقبى فينزجر عن المناهي ويرتدع عن الملاهي ، ولذا قيل : حقيقة الحياء أن مولاك لا يراك حيث نهاك ، وهذا مقام الإحسان المسمى بالمشاهدة الناشئ عن حال المحاسبة ، والمراقبة ، فهذا الحديث الجليل مجمل حديث جبريل ، فأفضلها مشير إلى الإيمان ، وأدناها مشعر إلى الإسلام ، والحياء موصل إلى الإحسان ، ومن ثم قال - عليه الصلاة والسلام - ( استحيوا من الله حق الحياء ) قالوا : إنا لنستحي من الله حق الحياء يا رسول الله والحمد لله ، قال : ( ليس ذلك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، ويذكر الموت ، والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى ، فمن يعمل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء ) . رواه الترمذي ، وصح : الحياء خير كله . قال ابن حبان : تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على البضع والسبعين شيئا كثيرا ، فرجعت إلى السنة فعددت كل طاعة عدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان فإذا هي تنقص فضممت ما في الكتاب والسنة فإذا هي سبع وسبعون ، فعلمت أنه المراد . قال السيوطي : قد تكلف جماعة عدها بطريق الاجتهاد - يعني البيضاوي والكرماني وغيرهما - وأقربهم عدا ابن حبان حيث ذكر كل خصلة سميت في الكتاب أو السنة إيمانا ، وقد تبعه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر في شرح البخاري وتبعناهما ، وذلك الإيمان بالله ، وصفاته ، وحدوث ما دونه ، وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر ، وباليوم الآخر ، ومحبة [ ص: 71 ] الله ، والحب في الله ، والبغض فيه ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه ، وفيه الصلاة عليه ، واتباع سنته ، والإخلاص فيه ، وترك الرياء ، والنفاق ، والتوبة ، والخوف ، والرجاء ، والشكر ، والوفاء ، والصبر ، والرضا بالقضاء ، والحياء ، والتوكل ، والرحمة ، والتواضع ، وفيه توقير الكبير ، ورحمة الصغير ، وترك الكبر ، والعجب ، وترك الحسد والحقد ، وترك الغضب ، والنطق بالتوحيد ، وتلاوة القرآن ، وتعلم العلم وتعليمه ، والدعاء ، والذكر ، وفيه الاستغفار ، واجتناب اللغو ، والتطهر حسا وحكما ، وفيه اجتناب النجاسات ، وستر العورة ، والصلاة فرضا ونفلا ، والزكاة كذلك ، وفك الرقاب ، والجود ، وفيه الإطعام ، والضيافة ، والصيام فرضا ونفلا ، والاعتكاف ، والتماس ليلة القدر ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والفرار بالدين ، وفيه الهجرة ، والوفاء بالنذر ، والتحري في الإيمان ، وأداء الكفارات ، والتعفف بالنكاح ، وأداء حقوق العيال ، وبر الوالدين ، وتربية الأولاد ، وصلة الرحم ، وطاعة السادة ، والرفق بالعبيد ، والقيام بالإمرة مع العدل ، ومتابعة الجماعة ، وطاعة أولي الأمر ، والإصلاح بين الناس ، وفيه قتال الخوارج والبغاة ، والمعاونة على البر ، وفيه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، والجهاد ، وفيه المرابطة ، وأداء الأمانة ، ومنها الخمس ، والقرض مع وفائه ، وإكرام الجار ، وحسن المعاملة ، وفيه جمع المال من حله ، وإنفاق المال في حقه ، وفيه ترك التبذير والسرف ، ورد السلام ، وتشميت العاطس ، وكف الضرر عن الناس ، واجتناب اللهو ، وإماطة الأذى عن الطريق اهـ .

ما ذكره السيوطي في كتابه " النقاية " ، وأدلتها مذكورة في شرحها " إتمام الدراية " ، وتجيء في هذا الكتاب متفرقة ، ولكن ذكرتها لك مجملة لتتأمل فيها مفصلة ، فما رأيت نفسك متصفة بها فاشكر الله على ذلك ، وما رأيت على خلافها فاطلب من الله التوفيق على تحصيل ما هنالك ؛ لأن من وجدت فيه هذه الشعب فهو مؤمن كامل ، ومن نقص منه بعضها فهو مؤمن ناقص ، وأغرب النووي حيث قال : الحديث نص في إطلاق اسم الإيمان الشرعي على الأعمال . وتعقبه ابن حجر وقال : تمسك به القائلون بأن الإيمان فعل جميع الطاعات والقائلون بأنه مركب من الإقرار والتصديق والعمل ، وليس كما زعموا ؛ لأن الكلام في شعب الإيمان لا في ذاته ، إذ التقدير : شعب الإيمان ؛ حتى يصح الإخبار عنه بسبعين شعبة ، إذ يرجع حاصله في الحقيقة إلى أن شعب الإيمان كذا ، وشعب الشيء غيره اهـ .

وفي الحديث تشبيه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب ، كما أن في القرآن تشبيه الكلمة الدالة على حقيقة الإيمان بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، أي : أصلها ثابت في القلب ، وفرعها أي : شعبها مرفوعة في السماء . ( متفق عليه ) . قال ميرك : وفيه نظر ؛ لأن قوله : " بضع وسبعون شعبة " من أفراد مسلم ، وفي البخاري : " بضع وستون شعبة " ، وكذا قوله : " فأفضلها " إلى قوله : " عن الطريق " من أفراد مسلم ، فلا يكون متفقا عليه ، ورواه الأربعة أيضا إلا أن الترمذي أسقط قوله : والحياء شعبة من الإيمان اهـ .

وذكر العيني أن قوله : " بضع وسبعون " من طريق أبي ذر الهروي ، وقال السيوطي : بضع وستون ، أو بضع وسبعون شعبة ، رواه البخاري هكذا على الشك من حديث أبي هريرة ، ورواه أصحاب السنن الثلاثة بلفظ : بضع وسبعون بلا شك ، وأبو عوانة في صحيحه بلفظ : ست وسبعون ، أو سبع وسبعون ، والترمذي بلفظ أربع وستون اهـ .

فيؤول كلام المصنف بأن أصله من روايتهما دون زيادة : فأفضلها . . . إلخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية