صفحة جزء
7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ، وولده ، والناس أجمعين " . متفق عليه .


7 - ( وعن أنس - رضي الله عنه - ) أي ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري - بنون مفتوحة قبل جيم مشددة - خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين بعدما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن عشر سنين ، وقالت أمه : يا رسول الله ، خويدمك ادع الله له ، فقال : ( اللهم بارك له في ماله وولده ، وأطل عمره ، واغفر ذنبه ) ، فقال : لقد [ ص: 73 ] دفنت من صلبي مائة إلا اثنين ، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين ، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة ، وأنا أرجو الرابعة ، أي المغفرة . قيل : عمر مائة سنة وزيادة ، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة ثلاث وتسعين ، انتقل إلى البصرة في خلافة عمر ليفقه الناس . روى عنه خلق كثير ، وكنيته أبو حمزة ، وهي اسم بقلة حريفية ، ومنه حديث أنس : كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كنت أجتنيها . [ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يؤمن أحدكم ) ] : وفي رواية : الرجل ، وفي أخرى : أحد ، وهي أشمل منهما ، والأولى أخص أي : إيمانا كاملا [ ( حتى أكون ) ] بالنصب بأن مضمرة ، وحتى جارة [ ( أحب إليه ) ] : أفعل التفضيل بمعنى المفعول ، وللتوسع في الظرف قدم الجار على معمول أفعل وهو قوله : [ ( من والده ) ] أي : أبيه ، وخص عن الأم لأنه أشرف ، فمحبته أعظم ، أو المراد به ما يشملهما ، وهو ووالده [ ( وولده ) ] أي الذكر والأنثى ، وقدم الوالد لأنه أشرف ، وأسبق في الوجود ، وتقدم الولد في رواية النسائي ؛ لأن محبته أكثر ، وخصا لأنهما أعز من غيرهما غالبا ، وأبدلا في رواية بالمال والأهل تعميما لكل ما تحبه النفس ، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل ، وكأنه قال : حتى أكون أحب إليه من جميع أعزته ، ومن ثم أكد ذلك تأكيدا واستغراقا بقوله : [ ( والناس أجمعين ) ] عطفا للعام على الخاص ، ثم النفس داخلة في هذا العموم لغة ، وإن كانت خارجة عرفا لما سيأتي في الحديث الآتي الموافق لقوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) وقوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم ) الآية . وليس المراد الحب الطبيعي ; لأنه لا يدخل تحت الاختيار ، و ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) بل المراد الحب العقلي الذي يوجب إيثار ما يقتضي العقل رجحانه ، ويستدعي اختياره ، وإن كان على خلاف الهوى كحب المريض الدواء ، فإنه يميل إليه باختياره ، ويتناول بمقتضى عقله ؛ لما علم وظن أن صلاحه فيه ، وإن نفر عنه طبعه مثلا لو أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل أبويه وأولاده الكافرين ، أو بأن يقاتل الكفار حتى يكون شهيدا لأحب أن يختار ذلك ؛ لعلمه أن السلامة في امتثال أمره ، أو المراد الحب الإيماني الناشئ عن الإجلال والتوقير والإحسان والرحمة ، وهو إيثار جميع أغراض المحبوب على جميع أغراض غيره حتى القريب والنفس ، ولما كان جامعا لموجبات المحبة من حسن الصورة والسيرة وكمال الفضل والإحسان ما لم يبلغه غيره استحق أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه فضلا عن غيره ، سيما وهو الرسول من عند المحبوب الحقيقي الهادي إليه ، والدال عليه ، والمكرم لديه .

قال القاضي : ومن محبته نصر سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني إدراكه في حياته ليبذل نفسه وماله دونه اهـ .

وممن ارتقى إلى غاية هذه المرتبة ونهاية هذه المزية سيدنا عمر - رضي الله عنه - فإنه لما سمع هذا الحديث أخبر بالصدق حتى وصل ببركة صدقه إلى كمال ذلك ، فقال بمقتضى الأمر الطبيعي : لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال : ( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) . فقال عمر : فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي ، فقال : ( الآن يا عمر تم إيمانك ) . رواه البخاري ، وهو يحتمل احتمالين ؛ أحدهما : أنه فهم أولا أن المراد به الحب الطبيعي ، ثم علم أن المراد الحب الإيماني والعقلي ، فأظهر بما أضمر . وثانيهما : أنه أوصله الله تعالى إلى مقام الأتم ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطبع في قلبه حبه حتى صار كأنه حياته ولبه ؛ ولهذا قيل : فهذه المحبة منه - رضي الله عنه - ليست اعتقاد الأعظمية فحسب ; لأنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا ، بل أمر يترتب على ذلك به يفنى المتحلي به عن حظ نفسه ، وتصير خالية عن غير محبوبه ، قال القرطبي : وكل من صح إيمانه به - عليه [ ص: 74 ] - الصلاة والسلام - لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة ، وإن استغرق بالشهوات وحجب بالغفلات في أكثر الأوقات ؛ بدليل أنا نرى أكثرهم إذا ذكر - صلى الله عليه وسلم - اشتاق إلى رؤيته ، وآثرها على أهله وماله وولده ووالده ، وأوقع نفسه في المهالك أو المخاوف مع وجدانه من نفسه الطمأنينة بذلك وجدانا لا تردد فيه ، وشاهد ذلك في الخارج إيثار كثيرين لزيارة قبره الشريف ، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر ؛ لما وقر في قلوبهم من محبته غير أن قلوبهم لما توالت غفلاتها وكثرت شهواتها كانت في أكثر أوقاتها مشتغلة بلهوها ذاهلة عما ينفعها ، ومع ذلك هم في بركة ذلك النوع من المحبة ، فيرجى لهم كل خير إن شاء الله تعالى . ولا شك أن حظ الصحابة - رضي الله عنهم - من هذا المعنى أتم ؛ لأنه ثمرة المعرفة ، وهم بقدره ومنزلته أعلم .

وقال النووي : في الحديث تلميح إلى صفة النفس المطمئنة والأمارة ، فمن رجح جانب نفسه المطمئنة كان حبه - عليه الصلاة والسلام - راجحا ، ومن رجح جانب نفسه الأمارة كان بالعكس اهـ . واللوامة حالة بينهما مترتبة عليهما ، ولذا لم يذكرها معهما . ( متفق عليه ) ورواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، قال النووي : مذهب أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال ، فإن كان سالما عن المعاصي كالصغير ، والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث بعد توبته ، والموفق الذي ما لم بمعصية قط - فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ، ولا يدخلون النار أصلا ، لكنهم يردونها على الخلاف الوارد ، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط ، وهو جسر منصوب على ظهر جهنم ، نعوذ بالله منها ، وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذبه بالقدر الذي يريده سبحانه ثم يدخل الجنة ، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل ، كما لا يدخل الجنة من مات على كفر ولو عمل ما عمل من أعمال البر ، وهذا هو المذهب الذي تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به بحيث حصل العلم القطعي ، فإن خالفه ظاهر حديث وجب تأويله جمعا بين الأدلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية