صفحة جزء
الفصل الثاني

1960 - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة " رواه الترمذي وابن ماجه .


الفصل الثاني

1960 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت " ) بالتشديد ويخفف أي قيدت " الشياطين ومردة الجن " جمع مارد كطلبة وجهلة وهو المتجرد للشر ، ومنه الأمرد لتجرده من الشعر ، وهو تخصيص بعد تعميم ، أو عطف تفسير وبيان كالتتميم ، وقال الطيبي : المارد هو العاتي الشديد ، وتصفيد الشياطين إما في أيام رمضان خاصة ، وإما فيها وفيما بعدها من الأيام اهـ كلام المختصر ، وفيه أنه إن أراد بالأيام ضد الليالي فيرده هذا الحديث بعينه ، حيث قال : إذا كان أول ليلة ، وإن أراد بها الأوقات فهو صحيح ، لكن لا معنى لقوله وإما فيها إلخ هذا ، ثم رأيت الطيبي ذكر في الشرح : روى البيهقي عن الإمام أحمد عن الحليمي أنه قال : يحتمل أن يكون المراد به أيامه خاصة ، وأراد الشياطين التي هي مسترقة السمع ، ألا تراه قال : مردة الشياطين ، لأن شهر رمضان كان وقتا لنزول القرآن إلى سماء الدنيا ، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب ، كما قال - تعالى - وحفظناها الآية ، والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ ، ويحتمل أن يكون المراد به أيامه وبعده ، والمعنى أن الشياطين لا يتخلصون فيه من إفساد الناس ما يتخلصون إليه في غيره لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات ، وبقراءة القرآن وسائر العبادات اهـ ويرد على الاحتمال الأول ما تقدم ، وأيضا يلزم منه اختصاص هذا الوصف بأيام نزول الوحي ، وهو زمن حياته - صلى الله عليه وسلم - وهو مع بعده وكونه خلاف ظاهر التصفيد ينافي الإطلاق ، ولا يلائمه بقية الأوصاف الآتية على طريق الاستحقاق ، وقيل : الحكمة في تقييد الشياطين وتصفيدهم كيلا يوسوسوا في الصائمين ، وأمارة ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي ورجوعهم بالتوبة إلى الله - تعالى ، وأما ما يوجد من خلاف ذلك في بعضهم فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أغرقت في عمق تلك النفوس الشريرة ، وباضت في رءوسها ، وقيل : قد خص من عموم " صفدت الشياطين " زعيم زمرتهم ، وصاحب دعوتهم لمكان الإنظار الذي سأله من الله ، فأجيب إليه ، فيقع ما يقع من المعاصي بتسويله وإغوائه ، ويمكن أن يكون التقييد كناية عن ضعفهم في الإغواء والإضلال " وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب " كالتأكيد لما قبله " وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب " ولعلها أبواب مخصوصة منهما ، أو أبوابهما في غير رمضان ، قد تفتح وتغلق ، بخلافها في هذا الزمن المبارك ، تعظيما لشأنه ، وفيه إشارة إلى أن الأزمنة الشريفة والأمكنة اللطيفة لها تأثير في كثرة الطاعة وقلة المعصية ، ويشهد به الحس والمشاهدة ، فلتغتنم الفرصة ، ويشير إلى هذا المعنى قوله " وينادي مناد " أي بلسان الحال أو ببيان المقال من عند الملك المتعال " يا باغي الخير " أي طالب العمل والثواب " أقبل " أي إلى الله وطاعته ، بزيادة الاجتهاد في عبادته ، وهو أمر من الإقبال أي تعال فإن هذا أوانك ، فإنك تعطى الثواب الجزيل بالعمل القليل ، أو معناه يا طالب الخير المعرض عنا وعن طاعتنا أقبل إلينا وعلى عبادتنا ، فإن الخير كله تحت قدرتنا وإرادتنا " ويا باغي الشر " أي يا مريد المعصية " أقصر " بفتح الهمزة وكسر الصاد أي أمسك عن المعاصي وارجع إلى الله - تعالى - فهذا أوان قبول التوبة وزمان الاستعداد للمغفرة ، ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر النداءين ، ونتيجة إقبال الله - تعالى - على الطالبين ، ولهذا ترى أكثر المسلمين صائمين حتى الصغار والجوار ، بل غالبهم الذين يتركون الصلاة يكونون حينئذ مصلين مع أن الصوم أصعب من الصلاة ، وهو يوجب ضعف البدن الذي يقتضي الكسل عن العبادة ، وكثرة النوم عادة ، ومع ذلك ترى المساجد معمورة ، وبإحياء الليالي مغمورة ، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله " ولله عتقاء " أي كثيرون " من النار " فلعلك تكون منهم " وذلك " قال الطيبي : أشار بقوله ذلك إما للبعيد وهو النداء ، وإما للقريب وهو لله عتقاء " كل ليلة " أي في كل ليلة [ ص: 1365 ] من ليالي رمضان " رواه الترمذي وابن ماجه " قال الجزري : كلاهما من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وهذا إسناد صحيح ، قال ميرك : وهذا لا يخلو عن تأمل ، فإن أبا بكر بن عياش مختلف فيه ، والأكثر على أنه كثير الغلط ، وهو ضعيف عن الأعمش ، ولذا قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي بكر ، وسألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال : حدثنا الحسن بن الربيع عن أبي الأحوص عن الأعمش عن مجاهد قوله : قال : وهذا أصح عندي من حديث أبي بكر ، يعني قوله موقوفا على مجاهد اهـ كلام الترمذي ، لكن يفهم من كلام الشيخ ابن حجر العسقلاني أن الحديث المرفوع أخرجه ابن خزيمة والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم ، وقال : واللفظ لابن خزيمة ، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود ، وقال فيه : " فتحت أبواب الجنة ، فلم يغلق باب منها الشهر كله " اهـ . كلامه ، ويقوي رفع الحديث أن مثل هذا لا يقال بالرأي ، فهو مرفوع حكما ، والله أعلم ، تم كلام ميرك ، وفيه أولا أن ابن عياش ولو كان كثير الغلط عند الأكثر ضابط عند الأقل ومنهم الجزري ، ولذا قال : إسناده صحيح ، وأما قوله : وهو ضعيف عن الأعمش فلا يخلو عن غرابة ، لأن الضعيف ضعيف سواء عن الأعمش أو غيره ، وقوله : ولذا قال الترمذي غريب إلخ لا يدل على ضعفه ، بل على غرابته ، حيث إنه أورده مرفوعا مخالفا لمن أورده موقوفا ، والغرابة لا تنافي الحسن والصحة ، كما هو مقرر في الأصول ، ولذا قال البخاري : وهذا أي كونه موقوفا عن مجاهد أصح أي من كونه مرفوعا ، مع ما وقع فيه من النزاع ، وتحصل آخر الأمر أن كونه مرفوعا أصح ، هذا وأبو بكر بن عياش هو تلميذ الإمام عاصم أحد القراء السبعة ، وهو الذي سمي شعبة ، ويقدم على حفص في القراءة ، وقد فاق أقرانه في الفضائل ، لكن اختلف في كونه ضعيفا لقلة ضبطه الحديث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية