صفحة جزء
( وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ) : بالتصغير نسبة إلى قشير قبيلة من العرب ، وهو نيسابوري أحد أئمة علماء هذا الشأن ، جمع من مشايخ البخاري ، وغيرهم كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وقتيبة بن سعيد ، والقعني ، وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره ، وحفاظ دهره كأبي حاتم الرازي ، وأبي خزيمة ، وخلائق . وله المصنفات الجليلة غير جامعه الصحيح كالمسند الكبير صنفه على ترتيب أسماء الرجال لا على تبويب الفقه ، وكالجامع الكبير على ترتيب الأبواب ، وكتاب العلل ، وكتاب أوهام المحدثين ، وكتاب التمييز ، وكتاب من ليس له إلا راو واحد ، وكتاب طبقات التابعين ، وكتاب المخضرمين . قال : صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وهو أربعة آلاف بإسقاط المكرر ، وأعلى أسانيده ما يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وسائط ، وله بضع وثمانون حديثا بهذا الطريق ، ولد عام وفاة الشافعي : سنة أربع ومائتين ، وتوفي في رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وقد رحل إلى العراق ، والحجاز ، والشام ، ومصر ، وقدم بغداد غير مرة ، وحدث بها ، وكان آخر قدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين ، وكان عقد له مجلس بنيسابور للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله ، وقدمت له سلة فيها تمر فكان يطلب الحديث ، ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ، ووجد الحديث ، ويقال : إن ذلك كان سبب موته ; ولذا قال ابن الصلاح : كانت وفاته لسبب غريب نشأ من غمرة فكرة علمية . وسنه قيل : خمس وخمسون ، وبه جزم ابن الصلاح ، وتوقف فيه الذهبي ، وقال : إنه قارب الستين ، وهو أشبه من الجزم ببلوغه الستين .

قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين محمد الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح : إني زرت قبره بنيسابور ، وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمن ، والتبرك عند قبره ، ورأيت آثار البركة ، ورجاء الإجابة في تربته .

( وأبي عبد الله مالك بن أنس ) : وهو غير أنس بن مالك كما توهم ( الأصبحي ) : نسبة إلى ذي أصبح ملك من ملوك اليمن أحد أجداد الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ، وأخر عن البخاري ، ومسلم ذكرا ، وإن كان مقدما عليهما وجودا ، ورتبة ، وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا ; لعدم التزامه تصحيحا ، وهو من تابعي التابعين ، وقيل : من التابعين إذ روي أنه روى عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، وصحبتها ثابتة . قال الحافظ ابن حجر : كتاب مالك صحيح عنده ، وعند من تقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل ، والمنقطع ، وغيرهما . وقال السيوطي : ما فيه من المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط ، وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل - حجة أيضا عندنا إذا اعتمد ، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد ، أو عواضد ; فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء ، وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل ، والمنقطع ، والمعضل . قال ابن عبد البر : مذهب مالك أن مرسل الثقة تجب به الحجة ، ويلزم به العمل كما تجب بالمسند سواء ، قال البخاري إمام الصنعة : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، وفي المسألة خلاف منتشر مشتهر ، وعلى هذا المذهب قالوا : أصح الأسانيد عن مالك الشافعي ; إذ هو أجل أصحابه على الإطلاق بإجماع أصحاب الحديث . ومن ثم قال أحمد : جمعت الموطأ من سبعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك ، ثم من الشافعي فوجدته أقومهم به ، وأصحها عن الشافعي أحمد ، ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا السند قيل لها : سلسلة الذهب .

[ ص: 20 ] قيل ، ولا ينافي ذلك إكثار أحمد في مسنده إخراج حديث مالك من غير طريق الشافعي ، وعدم إخراج أصحاب الأصول حديث مالك من جهة الشافعي ، أما الأول : فلعل جمعه المسند كان قبل سماعه من الشافعي ، وأما الثاني : فلطلبهم العلو المقدم عند المحدثين على ما عداه من الأغراض .

قال بكر بن عبد الله : أتينا مالكا فجعل يحدثنا عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن ، وكنا نستزيده من حديثه ، فقال لنا يوما : ما تصنعون بربيعة ؟ ! هو نائم في ذلك الطاق ; فأتينا ربيعة فنبهناه ، وقلنا له : أنت ربيعة ؟ فقال : نعم قلنا : الذي يحدث عنك مالك ؟ ! قال : نعم قلنا : كيف حظي بك مالك ، ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال : أما علمتم أن مثقال دولة خير من حمل علم . وكأنه أراد بالدولة اللطف الرباني ، والتوفيق الإلهي . قال ابن مهدي : الثوري إمام في الحديث ، والأوزاعي إمام في السنة ، ومالك إمام فيهما ، وكان إذا أتاه أحد من أهل الأهواء قال له : أما أنا فعلى بينة من ديني ، وأما أنت فشاك اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه . وقال الشافعي : رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان ، وبغال مصر ما رأيت أحسن منه ! فقلت : ما أحسنه ! فقال : هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله ، فقلت : دع لنفسك دابة تركبها فقال : أنا أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابة ، وكان مبالغا في تعظيم حديثه - صلى الله عليه وسلم - حتى كان إذا أراد أن يحدث : توضأ ، وجلس على صدر فراشه ، وسرح لحيته ، وتطيب ، وتمكن من الجلوس على وقار ، وهيبة ، ثم حدث ، فقيل له في ذلك فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن كلامه : إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير . وقال : ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما هو نور يضعه الله في القلب . قال مالك : قال لي هارون الرشيد : يا أبا عبد الله ، ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ ، يعني الأمين ، والمأمون ، فقلت : أعز الله أمير المؤمنين ، إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز ، وإن أنتم أذللتموه ذل . وفي رواية : مه يا أمير المؤمنين ، لا تضع عز شيء رفعه الله ، والعلم يؤتى ، ولا يأتي ، قال : صدقت . وفي رواية : صدقت أيها الشيخ ، كان هذا هفوة مني استرها علي اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس . وسأله الرشيد : ألك دار ؟ قال : لا ، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار ، وقال : اشتر بها دارا فأخذها ، ولم ينفقها ، ولما أراد الرشيد الشخوص ، قال لمالك : ينبغي أن تخرج معي ; فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن . فقال : أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه ; لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختلاف أمتي رحمة " ، وأما الخروج معك ; فلا سبيل إليه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ، وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها ، وإن شئتم فدعوها ، يعني أنك إنما كلفتني مفارقة المدينة لما صنعت إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله . وصح عن الشافعي أنه قال : ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك . وفي رواية : ما تحت أديم السماء أصح من موطأ مالك . قال العلماء : إنما قال الشافعي هذا قبل وجود الصحيحين ، وإلا فهما أصح منه اتفاقا ، وجاءه رجل من مسيرة ستة أشهر في مسألة أرسله بها أهل بلده فقص عليه خبره ، فقال : لا أحسن . قال : فماذا أقول لهم ؟ قال : قل لهم : قال مالك لا أحسن ! أخذ عن ثلاثمائة تابعي ، وأربعمائة من تابعيهم . توفي في ربيع الأول سنة تسع [ ص: 21 ] أو ثمان وسبعين ومائة على الأصح ، ودفن بالبقيع ، وقبره مشهور به ، وولد في ربيع الأول سنة ثلاث ومائة على الأشهر . قيل : مكث حملا في بطن أمه ثلاث سنين ، وقيل أكثر ، وقيل : سنتين . قال الواقدي : مات وله تسعون سنة . وقيل : مالك أثبت أصحاب الزهري ، وأبي المنكدر ، ونافع ، ويحيى بن سعيد ، وهشام بن عروة ، وربيعة ، وجمع كثير ، وروى الزهري عنه مع أنه من شيوخه ، ومن أجلاء التابعين ، فهو من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر ، وقد روى عن مالك : ابن جريج ، وابن عيينة ، والثوري ، والأوزاعي ، وشعبة ، والليث بن سعد ، وابن المبارك ، والشافعي ، وابن وهب ، وخلائق لا يحصون . قال مالك : قل من أخذت عنه الحديث أنه ما جاءني ، ولم يأخذ مني الفتوى .

( وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ) : نسبة إلى شافع أحد أجداده ، قيل : شافع كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر فأسر ، وفدى نفسه فأسلم ، وقيل : لقي شافع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مترعرع ، وأسلم أبوه السائب يوم بدر ، وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر ، فأسر ، وفدى نفسه ، ثم أسلم ، وعلى القولين يظهر وجه تخصيص النسبة إليه ، ثم نسبة أهل مذهبه أيضا شافعي .

وقول العامة : شافعوي خطأ ، وهو المطلبي الحجازي المكي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يلتقي معه في عبد مناف ، وورد خبر ( عالم قريش يملأ طباق الأرض علما ) طرقه متماسكة ، وليس بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، والنووي . وقال : إنه حديث مشهور ، وممن حمله على الشافعي أحمد ، وتبعه العلماء على ذلك ، ولد بغزة على الأصح ، وقيل : بعسقلان ، وقيل : باليمن ، وقيل : بمنى ، وقيل : بالبحر سنة خمسين ومائة اتفاقا ، وهي سنة وفاة أبي حنيفة . وقيل : ولد يوم موته . قال البيهقي : هذا التقييد لم أجده إلا في بعض الروايات أما بالعام ، فهو مشهور بين أهل التواريخ ، ونشأ يتيما في حجر أمه في ضيق عيش بحيث كانت لا تجد أجرة المعلم ، وكان يقصر في تعليمه . وكان الشافعي يتلقف ما يعلمه لغيره فإذا ذهب علمهم إياه فكفى المعلم أمرهم أكثر مما لو أعطاه أجرة فتركها ، واستمر حتى تعلم القرآن لسبع سنين ، ثم حبب إليه مجالسة العلماء ، وكان يكتب ما يستفيد منهم في العظام ، ونحوها ، لعجزه عن الورق ، وكان يؤثر الشعر ، والأدب إلى أن تمثل ببيت ، وعنده كاتب أستاذ مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة ، فقرعه بسوط ، ثم قال له : مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا ! أين أنت من الفقه ؟ ! فهزه ذلك إلى مجالسة مسلم ، ومن أشعاره :


يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله

    كفاكم من عظيم القدر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له



ثم قدم المدينة ، وعمره ثلاث عشرة سنة فلازم مالكا فأكرمه ، وعامله لنسبه ، وعلمه ، وفهمه ، وأدبه ، وعقله بما هو اللائق بهما ، وكان حفظ الموطأ بمكة لما أراد الرحلة إلى مالك حين سمع أنه إمام المسلمين ، وكان مالك يستزيده من قراءته ; لإعجابه بها حتى قرأه عليه في أيام يسيرة ، وقال له مرة لما تفرس فيه النجابة ، والإمامة : اتق الله إنه سيكون لك شأن ، وأخرى إن الله قد ألقى عليك نورا فلا تطفئه بالمعصية ; قال : فما ارتكبت كبيرة قط . ثم بعد وفاة مالك رحل عن المدينة إلى اليمن ، وولي بها القضاء ، ثم رحل إلى العراق ، وجد في التحصيل ، وناظر محمد بن الحسن ، وغيره ، [ ص: 22 ] ونشر علم الحديث ، وشاع ذكره ، وفضله إلى أن ملأ البقاع ، والأسماع . قال محمد بن الحسن في مدح الشافعي : إنه استعار مني كتاب الأوسط لأبي حنيفة ، وحفظه في يوم وليلة .

ولما صنف كتاب الرسالة أعجب به أهل عصره ، وأجمعوا على استحسانه ، وأنه من الخوارق حتى قال المزني : قرأته خمسمائة مرة ما من مرة إلا وقد استفدت منه شيئا لم أكن عرفته ، وكان أحمد يدعو له في صلاته لما رأى اهتمامه بنصر السنة . وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة ، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة ، وصنف كتبه الجديدة بها ، ورجع عن تلك ، ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا ، وشاع ذكرها في البلدان ، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه ، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه ، حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة . وابتكر أصول الفقه ، وكتاب القسامة ، وكتاب الجزية ، وكتاب أهل البغي ، وكان حجة في اللغة ، والنحو ، وأذن له مسلم بن خالد مفتي مكة في الإفتاء بها ، وعمره خمس عشرة سنة ، وربما أوقد له المصباح في الليلة ثلاثين مرة ، ولم يبقه دائم الوقود . قال ابن أخته من أمه : لأن الظلمة أجلى للقلوب . وكان يقول : إذا صح الحديث ، فهو مذهبي ، واضربوا بقولي الحائط ، وانفرد بالإعراض عن التمسك بالحديث الضعيف في غير الفضائل ، ومن كلامه الدال على إخلاصه : وددت أن كل ما تعلمه الناس أوجر عليه ، ولا يحمدوني قط ، ووددت إذا ما ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه .

ومن حكمه البالغة : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، ومن أراد الدنيا ، والآخرة فعليه بالعلم أي : مع العمل ، وما أفلح في العلم إلا من طلبه في الذلة ، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعز علي ، لا يتعلم أحد هذا العلم بالملكة ، وعزة النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذلة النفس ، وضيق العيش أفلح ، تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه . زينة العلم الورع ، والحلم ، لا عيب في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه ، وزهدهم فيما رغبهم الله فيه . فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار ، الناس في غفلة من سورة ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) من لم تعزه التقوى فلا تقوى له ، ما فرغت من العلم قط ، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد . من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع ، لا يعرف الرياء إلا المخلصون ، لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك لله ، لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف للزهاد ، سياسة الناس أشد من سياسة الدواب ، العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ، ومن نم لك نم بك ، من وعظ أخاه سرا فقد نصحه ومن وعظه علانية فقد فضحه ، التواضع من أخلاق الكرام ، والتكبر من شيم اللئام . أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره . الشفاعات زكاة المروءات . من ولي القضاء فلم يفتقر فهو لص . لا بأس للفقيه أن يكون معه سفيه يسافه به . مداراة الأحمق غاية لا تدرك . الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء ، والانفراد عنهم مكسبة للعداوة فكن بين المنقبض والمنبسط ، لأن يبتلى المرء بكل ذنب ما عدا الشرك خير من أن ينظر في الكلام فإني والله اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط . وكان يكتب ثلث الليل ، ثم يصلي ثلثه ، ثم ينام ثلثه ، ويختم كل يوم ختمة . أقول : لعله في أيام رمضان . وقال : ما كذبت قط ، ولا حلفت بالله صادقا ، ولا كاذبا ، وما تركت غسل الجمعة قط ، وما شبعت منذ ستة عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي قال الكرابيسي : سمعته يقول : يكره للرجل أن يقول : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن يقول : قال رسول الله . وكان له اليد الطولى في السخاء ، قدم من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فما برح من مجلس سلام الناس عليه حتى فرقها كلها ، وسقط سوطه فناوله إنسان فأمر غلامه بإعطائه ما معه من الدنانير فكانت سبعة ، أو تسعة ، وانقطع [ ص: 23 ] شسع نعله فأصلحه له رجل فقال : يا ربيع ، أمعك من نفقتنا شيء ، قلت : سبعة دنانير . قال : ادفعها إليه . وقال المزني : ما رأيت أكرم منه . خرجت معه ليلة العيد من المسجد ، وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس ، وقال : مولاي يقرئك السلام ، ويقول لك : خذ هذا الكيس فإنه لك هدية ، وعلينا المنة ، فأخذه منه فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، ولدت امرأتي الساعة ، وليس عندي شيء فدفع إليه الكيس ، وصعد ، وليس معه شيء ، وكان يأكل شهوة أصحابه ، وركب حماره ، وأحمد يمشي بجانبه ، ويذاكره فبلغ ذلك يحيى بن معين فعتب أحمد فأرسل له : لو كنت بالجانب الآخر من حماره لكان خيرا لك ! ، وكانت له المعرفة التامة بالرمي حتى يصيب عشرة من عشرة ، وبالفروسية حتى يأخذ بأذنه ، وأذن الفرس في شدة عدوه . روي أنه سمع قارئا يقرأ : ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) ; فتغير الشافعي ، وارتعد ، وخر مغشيا عليه ، فلما أفاق قال : اللهم إني أعوذ بك من مقام الكذابين ، ومن إعراض الجاهلين هب لي من رحمتك ، وجللني بسترك ، واعف عني بكرمك ، ولا تكلني إلى غيرك ، ولا تقنطني من خيرك . ومن كلامه : لو لم يكن العلماء أولياء فليس لله ولي ، ما اتخذ الله وليا جاهلا . قال المزني : دخلت عليه في مرض موته فقلت له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلا ، ولإخواني مفارقا ، ولكأس المنية شاربا ، ولسوء أعمالي ملاقيا ، وعلى الله واردا ، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها ! ، ثم بكى ، وأنشد يقول :


ولما قسا قلبي ، وضاقت مذاهبي     جعلت رجائي نحو عفوك سلما


تعاظمني ذنبي فلما قرنته     بعفوك ربي كان عفوك أعظما



توفي آخر يوم من رجب ليلة الخميس ، أو ليلة الجمعة ، وكان قد صلى المغرب سنة أربع ومائتين ، وقبره بقرافة مصر ، وعاش أربعا وخمسين سنة .

( وأبي عبد الله أحمد بن حنبل ) : وفي نسخة صحيحة : أحمد بن محمد بن حنبل فالنسبة الأولى مجازية ( الشيباني ) : نسبة إلى قبيلة وهو المروزي ، ثم البغدادي ، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة ، ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وله سبع وسبعون سنة ، كان إماما في الفقه ، والحديث ، والزهد ، والورع ، والعبادة ، وبه عرف الصحيح ، والسقيم ، والمجروح من المعدل ، نشأ ببغداد ، وطلب العلم ، وسمع الحديث من شيوخها ، ثم رحل إلى مكة ، والكوفة ، والبصرة ، والمدينة ، واليمن ، والشام ، والجزيرة ، وسمع من يزيد بن هارون ، ويحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وعبد الرزاق بن همام وغيرهم ، وروى عنه ابناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري ، وأبو زرعة ، وأبو داود السجستاني ، وخلق كثير ، إلا أن البخاري لم يذكر في صحيحه عنه إلا حديثا واحدا في آخر ( كتاب الصدقات ) تعليقا ، وروي عن أحمد بن الحسن عنه : فضائله كثيرة ، ومناقبه شهيرة ، وهو أحد المجتهدين المعمول بقوله ورأيه ومذهبه في كثير من البلاد . قال أبو زرعة : كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : ما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب قال أيضا : حرزت كتبه اثني عشر حملا أو عدلا كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه . وقال أبو داود السجستاني : كأن مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، وقال محمد بن موسى : حمل إلى الحسن بن عبد العزيز ميراثه عن مصر مائة ألف دينار ، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار ، فقال : يا أبا عبد الله ، هذا ميراث حلال فخذها ، واستعن بها على عائلتك . قال : لا حاجة لي فيها ، أنا في كفاية ; فردها ، ولم يقبل منها شيئا ، وقال عبد الله بن أحمد : كنت أسمع أبي كثيرا في دبر صلاته : اللهم كما صنت وجهي عن [ ص: 24 ] السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك ! ، وقال ميمون بن الأصبغ : كنت ببغداد فسمعت ضجة فقلت : ما هذا ؟ ! فقالوا : أحمد بن حنبل يمتحن ، فدخلت فلما ضرب سوطا قال : بسم الله ، فلما ضرب الثاني قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلما ضرب الرابع قال : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ! فضرب تسعة وعشرين سوطا ، وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السروال إلى عانته فرمى أحمد طرفه إلى السماء فحرك شفتيه فما كان بأسرع من ارتقاء السروال ، ولم ينزل ، فدخلت عليه بعد سبعة أيام فقلت : يا أبا عبد الله رأيتك تحرك شفتيك فأي شيء قلت ؟ قال : قلت اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا . وقال أحمد بن محمد الكندي : رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت : ما صنع الله بك ؟ قال : غفر لي . ثم قال : يا أحمد ضربت في . قال : قلت نعم يا رب قال : يا أحمد هذا وجهي فانظر إليه فقد أبحتك النظر إليه . روي أنه أرسل الشافعي إلى بغداد يطلب قميصه الذي ضرب فيه ، فأرسله إليه فغسله الشافعي ، وشرب ماءه ، وهذا من أجل مناقبه . قال ولده صالح : إنه حج خمس حجج ثلاثا منها راجلا ، وكثيرا ما كان يأتدم بالخل . قال أبو زرعة : بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة عليه ، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف ، وأسلم يوم وفاته عشرون ألفا ، وقبره ظاهر ببغداد يزار ، ويتبرك به .

وكشف لما دفن بجنبه بعض الأشراف بعد موته بمائتين وثلاثين سنة فوجد كفنه صحيحا لم يبل ، وجثته لم تتغير .

[ تنبيه ] : اعترض على ابن الصلاح تفضيل كتب السنن على مسند أحمد فإنه أكبر المسانيد ، وأحسنها ، فإنه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به مع كونه اختصره من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا . وقال : ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا فيه إلى المسند ، فإن وجدتموه فحسن ، وإلا فليس بحجة . ومن ثم بالغ بعضهم فأطلق الصحة على كل ما فيه ، والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة ، وبعضها أشد في الضعف من بعض حتى إن ابن الجوزي قد أدخل كثيرا منها في موضوعاته ، لكن تعقبه في بعضها بعضهم ، وفي سائرها شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني ، وحقق نفي الوضع عن جميع أحاديثه ، وأنه أحسن انتقاء ، وتحريرا من الكتب التي لم يلتزم مؤلفوها الصحة في جميعها كالسنن الأربعة .

قال : وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود ، والترمذي عليهما . وبالجملة ، فالسبيل واحد لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن ، لا سيما سنن ابن ماجه ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، مما الأمر فيه أشد ، أو بحديث من المسانيد ؛ لأن هذه كلها لم يشترط جامعوها الصحة ، والحسن ، وتلك السبيل أن المحتج إن كان أهلا للنقل ، والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحيط به ، وإن لم يكن أهلا لذلك ، فإن وجد أهلا لتصحيح أو تحسين قلده ، وإلا فلا يقدم على الاحتجاج فيكون كحاطب ليل ، فلعله يحتج بالباطل ، وهو لا يشعر .

( وأبي عيسى ) قيل : يكره هذه التكنية : ( محمد بن عيسى الترمذي ) : بكسر التاء ، والميم ، وبضمهما ، وبفتح التاء ، وكسر الميم مع الذال المعجمة نسبة لمدينة قديمة على طرف جيحون نهر بلخ . الإمام الحجة الأوحد الثقة الحافظ المتقن أخذ عن البخاري ، وقتيبة بن سعيد ، ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن بشار ، وأحمد بن منيع ، ومحمد بن المثنى ، وسفيان بن وكيع ، وغيرهم ، وأخذ عنه خلق كثير ، وله تصانيف كثيرة في علم الحديث منها : الشمائل ، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب ، وأحسنها ترتيبا ، وأقلها تكرارا ، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ، ووجوه الاستدلال ، وتبيين أنواع من الصحيح ، والحسن ، والغريب ، وفيه جرح ، وتعديل ، وفي آخره كتاب العلل . وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها ; ولذا قيل : هو كاف للمجتهد ، ومغن للمقلد . بل قال أبو إسماعيل الهروي : هو عندي أنفع من الصحيحين ; لأن كل أحد يصل للفائدة منه ، وهما لا يصل إليهما منهما إلا العالم المتبحر . وقول [ ص: 25 ] ابن حزم : إنه مجهول كذب منه ، قال : عرضت هذا الكتاب - يعني سننه - على علماء الحجاز ، والعراق ، وخراسان فرضوا به ، ومن كان في بيته فإنما في بيته نبي يتكلم ، نعم ، عنده نوع تساهل في التصحيح ، ولا يضره ، فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث من سننه ، وحسن فيها بعض ما انفرد رواته به كما صرح هو به ، فإنه يورد الحديث ، ثم يقول عقبه : إنه حسن غريب ، أو حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . لكن أجيب عنه : بأن هذا اصطلاح جديد ، ولا مشاحة في الاصطلاح . وقد أطلق الحاكم ، والخطيب الصحة على جميع ما في سنن الترمذي ، توفي بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين ، وأعلى أسانيده ما يكون واسطتان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وله حديث واحد في سننه بهذا الطريق ، وهو : " يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر " ، فإسناده أقرب من إسناد البخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، فإن لهم ثلاثيات ، وذكر في جامعه بسنده هذا الحديث ، وهو : يا علي ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري ، وغيرك . ثم قال : وهذا حديث غريب ، وقد سمعه من البخاري .

( وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ) : بكسر السين الأولى ، ويفتح ، وبكسر الجيم ، وسكون السين الثانية معرب سيستان من نواحي هراة من بلاد خراسان ، ولد سنة ثنتين ومائتين ، وتوفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين ، وهو الإمام الحافظ الحجة ، سكن البصرة ، وقدم بغداد مرارا فروى سننه بها ، ونقله أهلها عنه ، وعرضه على أحمد فاستجاده ، واستحسنه ، سمع أحمد ، ويحيى بن معين ، والقعنبي ، وسليمان بن حرب ، وقتيبة ، وخلائق لا يحصون . وروى عنه النسائي ، وغيره . قال جمع : ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديد لداود . وكان يقول : كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنة ، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ، ذكرت الصحيح ، وما يشبهه ، ويقاربه ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها : قوله - عليه الصلاة والسلام - " إنما الأعمال بالنيات " ، والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ، والثالث : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه " ، والرابع : " إن الحلال بين ، والحرام بين " الحديث . ومن أشعار الشافعي :


عمدة الدين عندنا كلمات     أربع قالهن خير البرية


اتق السيئات ، وازهد ، ودع ما     ليس يعنيك ، واعملن بنية



[ ص: 26 ] فكأنه أراد بقوله : ( ازهد ) حديث الأربعين : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) .

قال الخطابي شارحه : لم يصنف في علم الدين مثله ، وهو أحسن وضعا ، وأكثر فقها من الصحيحين . وقال أبو داود : ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه . وقال ابن الأعرابي : من عنده القرآن ، وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم ألبتة .

وقال الناجي : كتاب الله أصل الإسلام ، وكتاب أبي داود عيد الإسلام ، ومن ثم صرح حجة الإسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث ، وتبعه أئمة الشافعية على ذلك ، وقال النووي : ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء به ; فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله . وكان له كم واسع ، وكم ضيق فقيل له : ما هذا ؟ فقال : أما الواسع فللكتب ، وأما الضيق فللاحتياج إليه ، وفضائله ومناقبه كثيرة ، وكان في أعلى درجة من النسك ، والعفاف ، والصلاح ، والورع . قال المنذري : ما سكت عليه لا ينزل عن درجة الحسن . وقال النووي : ما رواه في سننه ، ولم يذكر ضعفه هو عنده صحيح ، أو حسن . وقال ابن عبد البر : ما سكت عليه صحيح عنده سيما إن لم يكن في الباب غيره . وأطلق ابن منده ، وابن السكن الصحة على جميع ما في سنن أبي داود ، ووافقهما الحاكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية