صفحة جزء
[ 2 ] - كتاب العلم

الفصل الأول

198 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا ، فليتبوأ مقعده من النار " . رواه البخاري .


[ 2 ] كتاب العلم

أي : فضله وفضل تعلمه وتعليمه وبيان ما هو علم شرعا ، وهو أعم من الكتاب والسنة ، فيكون ذكره بعد باب الاعتصام من باب التعميم بعد التخصيص ، والعلم نور في قلب المؤمن مقتبس من مصابيح مشكاة النبوة من الأقوال المحمدية ، والأفعال الأحمدية ، والأحوال المحمودية يهتدى به إلى الله وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فإن حصل بواسطة البشر فهو كسبي ، وإلا فهو العلم اللدني المنقسم إلى الوحي والإلهام والفراسة ، فالوحي لغة إشارة بسرعة واصطلاحا كلام إلهي يصل إلى القلب النبوي . فما أنزل صورته ومعناه ولا يكون إلا بواسطة جبريل فهو الكلام الإلهي . وما نزل معناه على الشارع فعبر عنه بكلامه فهو الحديث النبوي ، وهذا قد يكون بغير واسطة في محل الشهود كما قال تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى وقد يكون بواسطة نزول الملك ، أي : بنزوله من الصورة الملكية إلى الهيئة البشرية ، وتحقيقه أن المتكلم الحقيقي هو الحق ، فكلم أولا محمدا بواسطة جبريل ، وثانيا أصحابه بواسطة محمد ، وثالثا التابعين بواسطة الصحابة وهلم جرا . وقد يكون بنفثه قي قلبه بأن يلقي معناه من غير أن يتمثل بصورة أن روح القدس نفث في روعي ، والإلهام لغة الإبلاغ ، وهو علم حق يقذفه الله من الغيب في قلوب عباده : قل إن ربي يقذف بالحق والفراسة علم ينكشف من الغيب بسبب تفرس آثار الصور ، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فالفرق بين الإلهام والفراسة أنها كشف الأمور الغيبية بواسطة تفرس آثار الصور ، والإلهام كشفها بلا واسطة ، والفرق بين الإلهام والوحي أنه تابع للوحي من غير عكس ، ثم علم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال ، وعين اليقين ما كان بطريق الكشف والنوال ، وحق اليقين ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال لورود رائد الوصال .

الفصل الأول

198 - ( عن عبد الله بن عمرو ) بالواو ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( بلغوا عني ) : أي : انقلوا إلى الناس ، وأفيدوهم ما أمكنكم ، أو ما استطعتم مما سمعتموه مني ، وما أخذتموه عني من قول أو فعل ، أو تقرير بواسطة أو بغير واسطة ( ولو آية ) أي : ولو كان المبلغ آية وهي في اللغة العلامة الظاهرة . قال زين العرب : وإنما قال " آية " لأنها أقل ما يفيد في باب التبليغ ، ولم يقل حديثا لأن ذلك يفهم بطريق الأولى لأن الآيات إذا كانت واجبة التبليغ مع انتشارها ، وكثرة حملتها لتواترها ، وتكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف لقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالحديث مع أنه لا شيء فيه مما ذكر أولى بالتبليغ ، وأما لشدة اهتمامه عليه الصلاة والسلام بنقل الآيات لبقائها من سائر المعجزات ، ولمساس الحاجة إلى ضبطها ونقلها إذ لا بد من تواتر ألفاظها ، والآية ما وزعت السورة عليها ا هـ .

والثاني : أظهر كما لا يخفى ، وقال المظهر : المراد بالآية الكلام المفيد ، نحو : من صمت نجا ، والدين النصيحة ، أي : بلغوا عني أحاديثي ، ولو كانت قليلة . فإن قيل : فلم قال ولو آية ولم يقل ولو حديثا مع أنه المراد ؟ قلنا : لوجهين ، أحدهما : أنه أيضا داخل في هذا الأمر لأنه عليه الصلاة والسلام مبلغهم ، وثانيهما : أن طباع المسلمين مائلة إلى قراءة القرآن وتعلمه وتعليمه ونشره ، ولأنه قد تكفل الله بحفظه ا هـ .

[ ص: 281 ] والأظهر أن المراد الكلام المفيد وهو أعم من الآية والحديث ، وإنما اختير لفظ الآية لشرفها ، أو المراد من الآية الحكم الموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو أعم من المتلوة وغيرها بحكم عموم الوحي الجلي والخفي ، أو لأن كل ما صدر عن صدره فهو آية دالة على رسالته ، فإن ظهور مثل هذه العلوم من الأمي معجزة والله أعلم . قال الطيبي : وفي الحديث فوائد ، منها : التحريض على نشر العلم ، ومنها : جواز تبليغ بعض الحديث كما هو عادة صاحب المصابيح والمشارق ولا بأس به ، إذ المقصود تبليغ لفظ الحديث مفيدا سواء كان تاما أم لا . ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) . الحرج : الضيق والإثم وهذا ليس على معنى إباحة الكذب عليهم ، بل دفع لتوهم الحرج في التحديث عنهم وإن لم يعلم صحته وإسناده لبعد الزمان كذا في شرح السنة ، وتبعه زين العرب ، وأشار إليه المظهر وهو مقيد بما إذا لم نر كذب ما قالوه علما أو ظنا . قال السيد جمال الدين : ووجه التوفيق بين النهي عن الاشتغال بما جاء عنهم ، وبين الترخيص المفهوم من هذا الحديث أن المراد بالتحدث هاهنا التحدث بقصص من الآيات العجيبة ، كحكاية عوج بن عنق ، وقتل بني إسرائيل أنفسهم في توبتهم من عبادة العجل ، وتفصيل القصص المذكورة في القرآن لأن في ذلك عبرة وموعظة لأولي الألباب ، وأن المراد بالنهي هناك النهي عن نقل أحكام كتبهم لأن جميع الشرائع والأديان منسوخة بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم . ا هـ . لكن قال ابن قتيبة : وما روي عن عوج أنه رفع جبلا قدر عسكر موسى عليه السلام وهم كانوا ثلاثمائة ألف ليضعه عليهم ، فنقره هدهد بمنقاره وثقبه ووقع في عنقه ، فكذب لا أصل له كذا نقله الأبهري ، وروى الفقيه أبو الليث السمرقندي بإسناده في تنبيه الغافلين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنه قد كانت فيهم أعاجيب " ثم أنشأ يحدث أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى انتهوا إلى مقبرة فقالوا : لو صلينا ثم دعونا ربنا حتى يخرج الله لنا بعض الموتى فيخبرنا عن الموت ففعلوا ذلك ، ثم دعوا ربهم ، فبينا هم كذلك إذا رجل قد أطلع رأسه من قبره وهو أسود خلا شيبا أي بياض رأسه يخالط سواده وقال : يا هؤلاء ما أردتم ، فوالله لقد مت منذ تسعين سنة ، فما ذهبت مرارة الموت مني حتى كأنه الآن ، فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ، وكان بين عينيه أثر السجود . ( ومن كذب علي ) ، قال الكرماني : معنى كذب عليه نسب الكلام كاذبا إليه سواء كان عليه أو له ا هـ .

وبهذا يندفع زعم من جوز وضع الأحاديث للتحريض على العبادة ، كما وقع لبعض الصوفية الجهلة في وضع أحاديث في فضائل السور ، وفي الصلاة الليلية والنهارية وغيرهما ، والأظهر أن تعديته ب " علي " لتضمين معنى الافتراء ( متعمدا ) : نصب على الحال وليس حالا مؤكدة ، لأن الكذب قد يكون من غير تعمد ، وفيه تنبيه على عدم دخول النار فيه ( فليتبوأ مقعده من النار ) : يقال : تبوأ الدار إذا اتخذها مسكنا وهو أمر معناه الخبر يعني : فإن الله يبوئه وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة ، ولذا قيل : الأمر فيه للتهكم والتهديد ، إذ هو أبلغ في التغليظ والتشديد من أن يقال : كان مقعده في النار ، ومن ثم كان ذلك كبيرة ، بل قال الشيخ أبو محمد الجويني : إنه كفر يعني لأنه يترتب عليه الاستخفاف بالشريعة ، ويؤخذ من الحديث أن من قرأ حديثه وهو يعلم أنه يلحن فيه ، سواء كان في أدائه أو إعرابه يدخل في هذا الوعيد الشديد ، لأنه بلحنه كاذب عليه ، وفيه إشارة إلى أن من نقل حديثا وعلم كذبه يكون مستحقا للنار إلا أن يتوب ، لا من نقل عن راو عنه عليه السلام ، أو رأى في كتاب ولم يعلم كذبه .

[ ص: 282 ] قال الطيبي : فيه إيجاب التحرز عن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يحدث عنه إلا بما يصح بنقل الإسناد . قال ابن حجر : وما أوهمه كلام شارح من حرمة التحديث بالضعيف مطلقا مردود ا هـ . والظاهر أن مراد الطيبي بقوله " إلا بما يصح " - الصحة اللغوية التي بمعنى الثبوت لا الاصطلاحية وإلا لأوهم حرمة التحديث بالحسن أيضا ولا يحسن ذلك ، ولا يظن به هذا ، إذ من المعلوم أن أكثر الأحاديث الدالة على الفروع حسان ، ومن المقرر أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ، فيتعين حمل كلامه على ما ذكرناه ، وكلامه أيضا مشعر بذلك إذ لم يقل بنقل الإسناد الصحيح ، ولكنه موهم أنه لابد من ذكر الإسناد وليس كذلك ، لأن المراد أنه لا يحدث عنه إلا بما ثبت عنه ، وذلك الثبوت إنما يكون بنقل الإسناد ، وفائدته أنه لو روى عنه ما يكون معناه صحيحا لكن ليس له إسناد فلا يجوز أن يحدث به عنه ، واللام في الإسناد للعهد ، أي : الإسناد المعتبر عند المحدثين ، وإلا فقد يكون للحديث الموضوع إسناد أيضا . قال عبد الله بن المبارك : الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .

قال ابن حجر : ولكون الإسناد يعلم به الموضوع من غيره كانت معرفته من فروض الكفاية . قيل : " بلغوا عني " يحتمل وجهين : أحدهما : اتصال السند بنقل الثقة عن مثله إلى منتهاه لأن التبليغ من البلوغ وهو إنهاء الشيء إلى غايته . والثاني : أداء اللفظ كما سمع من غير تغيير ، والمطلوب في الحديث كلا الوجهين لوقوع بلغوا مقابلا لقوله : حدثوا عن بني إسرائيل . ( رواه البخاري ) أي : مجموع الحديث . وكذا رواه أحمد ، والترمذي . وأما قوله : من كذب إلخ . فرواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود والحاكم والطبراني والدارقطني والخطيب وابن عدي وغيرهم ، عن جمع كثير من الصحابة . قال ابن الصلاح : حديث " من كذب علي " من المتواتر ، وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر ، فإن ناقليه من الصحابة جم غفير .

قيل : اثنان وستون من الصحابة فيهم العشرة المبشرة ، وقيل : لا نعرف حديثا اجتمع فيه العشرة إلا هذا ، ثم عدد الرواة كان في التزايد في كل قرن .

التالي السابق


الخدمات العلمية