صفحة جزء
8 - وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " متفق عليه .


8 - ( وعنه ) أي : عن أنس [ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كن فيه ) ] : مبتدأ ، والشرطية خبر ، وجاز مع أنه نكرة ؛ لأن التقدير : خصال ثلاث . قال ابن مالك : مثال الابتداء بنكرة هي وصف قول العرب : ضعيف عاذ بحرملة . أي : إنسان ضعيف التجأ إلى ضعيف ، والحرملة : شجرة ضعيفة . أو ثلاث خصال ، والتنوين عوض عن المضاف إليه على ما قاله ابن حجر ، وفيه أنه لم يعرف هذا في غير كل وبعض ، أو تنوينه للتعظيم ، فساغ الابتداء به ، ويجور أن تكون الشرطية صفة لثلاث ، ويكون الخبر من كان ، والمعنى : ثلاث من وجدن أو اجتمعن فيه . [ ( وجد ) ] ، أي : أدرك وصادف وذاق [ ( بهن ) ] أي بسبب وجودهن في نفسه [ ( حلاوة الإيمان ) ] أي لذته ورغبته . زاد النسائي : وطعمه . وأوثرت الحلاوة لأنها أظهر اللذات الحسية ، وقد ورد أن حلاوة الإيمان إذا دخلت قلبا لا تخرج منه أبدا ، ففيه إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة له ، وقيل : معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وإيثارها على جميع الشهوات والمستلذات وتحمل المشاق في مرضاة الله ورسوله ، وتجرع المرارات في المصيبات ، والرضا بالقضاء في جميع الحالات ، وفيه تلميح إلى الصحيح الذي يدرك الطعوم على ما هي عليه والمريض الصفراوي الذي بضده إذ يجد طعم العسل من نقص ذوقه بقدر نقص صحته ، فالقلب السليم من أمراض الغفلة ، والهوى يذوق طعمه ويتلذذ منه ويتنعم به كما يذوق الفم طعم العسل وغيره من لذيذ الأطعمة ويتنعم بها ، بل تلك اللذة الإيمانية أعلى ، فإن في جنبها يترك لذات الدنيا بل جميع نعيم الأخرى ، [ ( من كان ) ] : لا بد من تقدير مضاف قبله ؛ لأنه - على الوجه الأول - إما بدل ، أو بيان ، أو خبر لمبتدأ محذوف هو : هي أو هن أو إحداها ، وعلى الثاني خبر أي : محبة من كان [ ( الله ورسوله أحب إليه ) ] : بالنصب على أنه خبر وإفراده لأنه وصل بمن ، والمراد الحب الاختياري المذكور ( مما سواهما ) ] : يعم ذوي العقول وغيرهم من المال ، والجاه ، وسائر الشهوات والمرادات ، وقد [ ص: 75 ] جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الله ونفسه بلفظ الضمير في ما سواهما ، مع نهيه عنه قائلا ومن عصاهما فقد غوى ؛ لأنه قد يجوز له ما لا يجوز لغيره ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام في خطبة النكاح : ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه ) . ووجه التخصيص أنه لا يتطرق إليه إيهام التسوية بخلاف غيره لو جمع ، وإليه مال ابن عبد السلام ، ولذا قيل : العمل بخبر المنع أولى ؛ لأن الخبر الآخر يحتمل الخصوص ؛ ولأنه قول والثاني فعل ، وقيل : تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة ، فإنها وحدها ضائعة لاغية ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) والأمر بالإفراد هنالك للإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية ، فإن العطف يفيد تكرير العامل واستقلاله بالحكم ، فهو في قوة التكرار ؛ فكأنه قال : من عصى الله فقد غوى ، ومن عصى رسوله فقد غوى ، ولا يقال : عصيان أحدهما عصيان للآخر ، فلا يتصور الانفراد ؛ لأنا نقول كذلك ، لكن المراد تفظيع المعصية بأنه لو فرض وجودها من رسوله وحده لكانت مستقلة بالإغواء ، فكيف وهي لا توجد إلا منهما ، وهو معنى دقيق في غاية التحقيق ، وفيه إيماء لطيف وإنهاء شريف إلى أن المحبة مادة الاجتماع على وجه الكمال بحيث إنه لا يحتمل المغايرة ، ولذا قيل : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا .

والمخالفة موجبة للافتراق ؛ ولذا قال : ( هذا فراق بيني وبينك ) ، ولتلك المحبة علامات من أظهرها ما أشار إليه يحيى بن معاذ الرازي بقوله : حقيقة المحبة أن لا تزيد بالعطاء ، ولا تنقص بالجفاء ، ولا يتم هذا إلا لصديق جذبته أزمة العناية حتى أوقفته على عتبة الولاية ، وأحلته في رياض الشهود المطلق ، فرأى أن محبوبه هو الحق وما سواه باطل محقق . [ ( ومن أحب ) ] أي : وثانيتهما محبة من أحب [ ( عبدا ) ] أي موسوما بالعبودية لله ، حرا كان أو مملوكا [ ( لا يحبه ) ] أي : لشيء [ ( إلا لله ) ] ، والاستثناء مفرغ أي : لا يحبه لغرض وعرض وعوض ، ولا يشوب محبته حظ دنيوي ولا أمر بشري ، بل محبته تكون خالصة لله تعالى فيكون متصفا بالحب في الله ، وداخلا في المتحابين لله ، والجملة حال من الفاعل ، أو المفعول ، أو منهما [ ( ومن يكره ) ] أي : وثالثتهما كراهة من يكره [ ( أن يعود ) ] أي : يرجع ، أو يتحول [ ( في الكفر ) ] ، وقيل : أن يصير بدليل تعديته بفي على حد ( أو لتعودن في ملتنا ) فيشمل من لم يسبق له كفر أيضا ، ولا ينافيه قوله : [ ( بعد أن أنقذه الله منه ) ] أي : أخلصه ونجاه من الكفر ؛ لأن أنقذ بمعنى حفظ بالعصمة ابتداء بأن يولد على الإسلام ، ويستمر بهذا الوصف على الدوام ، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، أو لا يشمله ولكنه مفهوم من طريق المساواة بل الأولى ، وفيه إيماء إلى قوله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) أي : بهدايته وتوفيقه ، فهو يعم الابتداء والانتهاء . [ ( كما يكره أن يلقى في النار ) ] أي : وكراهة من يكره الصيرورة في الكفر مثل كراهة الرمي والطرح في النار . وفي رواية البخاري حتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، وفي أخرى لهما من كان يكره أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إليه يهوديا أو نصرانيا . وفي رواية النسائي : وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا ، يعني أن الوقوع في نار الدنيا أولى بالإيثار من العود في الكفر ، وفيه إيماء إلى قول السادة الصوفية : الحجاب أشد العذاب ، ثم اعلم أن الخصلتين الأوليين من أبواب التحلي بالفواضل والفضائل ، والخصلة الأخيرة من أنواع التخلي من الرذائل ففيها تحثيث وتحريض وترغيب وتحريص على تحصيل بقية الشمائل ، وإيماء إلى أن المذكورات أمهات لغير المسطورات . ( متفق عليه ) ورواه أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه بلفظ : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) كذا في الجامع الصغير للسيوطي .

التالي السابق


الخدمات العلمية