صفحة جزء
2288 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المميت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور . رواه الترمذي والبيهقي في " الدعوات الكبرى " وقال الترمذي : هذا حديث غريب .


2288 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ) : قال الطيبي : في هذا الحديث دليل على أن أشهر أسمائه تعالى هو : ( الله ) ، لإضافة هذه الأسماء إليه ، وقد روي أن الله هو الاسم الأعظم ، وقال المالكي النحوي : الله اسم علم ليس بصفة ، وقيل : في كل شيء من أسمائه تعالى سواه اسم من أسماء الله تعالى أي إليه ينسب كل اسم له ويقال الكريم من أسماء الله ولا يقال من أسماء الكريم الله . ( من أحصاها ) : أي حفظها كما فسر به الأكثرون ، كما ورد في بعض الروايات الصحيحة . فإن الحفظ يحصل بالإحصاء وتكرار مجموعها فالإحصاء كناية عن الحفظ ، أو ضبطها حصرا وتعدادا ، وعلما ، وإيمانا ، أو أطاقها بالقيام بما هو حقها والعمل بمقتضاها ، وذلك بأن يعتبر معانيها ، فيطالب نفسه بما تتضمنه من صفات الربوبية ، وأحكام العبودية فيتخلق بها ، قال ابن الملك : مثل أن يعلم أنه سميع بصير ، فكف لسانه وسمعه عما لا يجوز ، وكذا في باقي الأسماء اهـ .

وأما التخلق بأسمائه الحسنى ، فبسطه الغزالي في المقصد الأسنى ، وقيل : كل اسم للتخلق إلا اسم الله فإنه للتعلق ( دخل الجنة ) : قال الطيبي رحمه الله : ويدل الحديث على أن من أحصاها دخل الجنة ، ولا يتنافى أن من زاد فيها زاد مرتبة في الجنة ، إذ قد ورد في رواية ابن ماجه أسماء ليست في هذه الرواية ، كالتام ، والقديم ، والوتر ، والشديد ، والكافي والأبد ، إلى غير ذلك ، وأيضا ورد في الكتاب : المجيد ، الرب ، الأكرم ، الأعلى ، أحكم الحاكمين ، أرحم الراحمين ، أحسن الخالقين ، ذو الطول ، ذو القوة ، ذو المعارج ، ذو العرش ، رفيع الدرجات إلى غير ذلك اهـ . ومنها : رب العالمين ، ومالك يوم الدين .

قال الطيبي رحمه الله : وذكر الجزاء بلفظ الماضي تحقيقا ( هو الله الذي لا إله إلا هو ) : الاسم المعدود في هذه الجملة من أسمائه هو الله لا غيره من هو وإله ، والجملة تفيد الحصر والتحقيق لإلهيته ونفي ما عداه عنها . قال الطيبي : الجملة مستأنفة إما بيان لكمية تلك الأعداد أنها ما هي في قولة : إن لله تسعة وتسعين اسما ، وذكر الضمير نظرا إلى الخبر ، وإما بيان لكيفية الإحصاء في قوله : من أحصاها دخل الجنة ، فإنه كيف يحصى فالضمير راجع إلى المسمى الدال عليه ، وقوله : " لله " كأنه لما قيل : ولله الأسماء الحسنى سئل : وما تلك الأسماء ؟ فأجيب : هو الله ، أما [ ص: 1563 ] لما قيل : من أحصاها دخل الجنة سئل : كيف أحصاها ؟ فأجاب : قل هو الله ، فعلى هذا الضمير ضمير الشأن مبتدأ ، أو الله مبتدأ ثان ، وقوله : الذي لا إله إلا هو خبره ، والجملة خبر الأول ، والموصول مع الصلة صفة الله ، ولهذه الكلمة مراتب الأولى : أن يتكلم بها المنافق مجردا عن التصديق ، وذلك ينفعه في الدنيا بحقن دمه وحرز ماله وأهله ، الثانية : أن ينضم إليها عقد قلب بمحض التقليد ، وفي صحتها خلاف ، والصحيح أنه صحيح . الثالثة : أن يكون معها اعتقاد مستفاد من الأمارات والأكثر على اعتبارها . الرابعة : أن يكون معها اعتقاد حازم من جهة قاطعة وهي مقبولة اتفاقا . والخامسة : أن يكون المتكلم مكاشفا بمعناها معاينا ببصيرته ، وهذه هي الرتبة العليا . قال ابن حجر : وما نقل عن الأشعري من عدم صحة إيمان العوام كذب عليه ، على أن أكثرهم غير مقلد في الحقيقة ، ولكنه عاجز عن ترتيب البرهان بذلك على قواعد المتكلمين ، وأولى من هذا من له اعتقاد نشأ من ظني ، ثم من نشأ اعتقاده عن قطعي واعترف به ، فلا خلاف في كمال إيمانه ونفعه له في الدنيا والآخرة ، وأما إذا كان بالقلب فقط ، فإن كان ذلك لتعذر اللسان بنحو خرس نفعت فيهما اتفاقا أيضا ، أو لا لعذر لم ينفعه في الآخرة على ما نقله النووي عن إجماع أهل السنة ، لكن ذهب الغزالي ، وتبعه جمع محققون إلى نفعها فيهما . قلت : لكن بشرط عدم طلب الإقرار منه ، إنه إن أبى بعد ذلك فكافر إجماعا لقضية أبي طالب .

قال أهل الإشارة : إذا كان مخلصا في مقالته كان داخلا في الجنة في حالته . قال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان قيل : جنة معجلة وهي حلاوة الطاعة ولذة المناجاة ، وجنة مؤجلة وهي قبول المثوبة وعلو الدرجة اهـ . قال القشيري : هو للإشارة وهو عند هذه الطائفة إخبار عن نهاية التحقيق ، فإذا قيل هو لا يسبق إلى قلوبهم غير الحق ، فيكتفون عن كل بيان يتلوه لاستهلاكهم في حقائق القرب ، واستيلاء ذكر الحق على أسرارهم ، وانمحائهم عن شهودهم ، فضلا عن إحساسهم بمن سواه . قيل : الله أصله لاها بالسريانية فعرب ، وقيل عربي وضع في أصله ، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر ، فلا يمكنه وضع اللفظ ولا الإشارة إليه بإطلاق اللفظ عليه ، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره ، وصار كالعلم أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه ، وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ومعناه المستحق للعبادة ، ثم قيل : مشتق من أله كعبد وزنا ومعنى وتصرفا ، فالإله بمعنى المألوه ، وقيل : من لاه يليه ليها ولاها أي : احتجب وارتفع لأنه محجوب عن إدراك الأبصار مرتفع عما لا يليق به ، وقيل : من أله أي : تحير ووله وزنا ومعنى لتحير العقول في معرفة صفاته ، فضلا عن معرفة ذاته ، وقيل : من أله أي فزع إذ يفزع الناس منه وإليه وقيل : من ألهت إلى كذا أي : سكنت إليه ؛ لأن القلوب تطمئن بذكره ، والأرواح تسكن إلى معرفته . وهذا الاسم عند أكثر العلماء أعظم التسعة والتسعين ؛ لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها ، وقد قال القطب الرباني السيد الشيخ عبد القادر الجيلاني : الاسم الأعظم هو الله ، لكن بشرط أن تقول : ( الله ) وليس في قلبك سوى الله . قيل : هذا الاسم للعوام إجراؤه على اللسان والذكر به على موجود فائض الجود ، جامع للصفات الألوهية ، ومنعوت بنعوت الربوبية ، ولخواص الخواص أن يستغرق قلبهم بالله ، فلا يلتفت إلى أحد سواه ، ولا يرجو ويخاف فيما يأتي ويذر إلا إياه ؛ لأنه هو الحق الثابت وما سواه باطل ، ومن ثمة قال - صلى الله عليه وسلم - كما رواه البخاري : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل

.

ثم قيل : إن أريد بالإله الأعم كان التقدير ، لا إله معبود بحق إلا هو أو الأخص وهو المعبود بحق ، فالتقدير لا إله موجود إلا هو ، وعلى كل فمحمل هو الرفع ويجوز النصب .

قال القشيري : مفاد هذا النفي وما بعده غاية الإثبات ، ألا ترى أن : لا أخ لي سواك آكد من : أنت أخي ، فمفادها نفي ما استحال وجوده من أصله وهو الشريك ، وإثبات ما استحال عدمه وهو الذات العلي ، والمراد [ ص: 1564 ] إظهار اعتقاد ذلك النفي والإثبات المشترط لصحة الإيمان المطلوب لظهور المعرفة والإتقان . ( الرحمن الرحيم ) : قال الطيبي : هما اسمان بنيا للمبالغة من الرحمة ، وهي لغة رقة القلب ، وانعطاف ورأفة تقتضي التفضيل والإحسان على من رق له ، وأسماء الله تعالى وصفاته إنما توجد باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي تكون انفعالات ، وحظ العارف منهما أن يتوجه بكليته إلى جناب قدسه ، ويتوكل عليه ، ويلتجئ فيما يعن له إليه ويشغل سره بذكره ، والاستمداد به عن غيره لما فهم منهما أنه المنعم الحقيقي والمولي للنعم كلها عاجلها وآجلها ، ويرحم عباد الله فيعاون المظلوم ويصرف الظالم عن ظلمه بالطريق الأحسن ، وينبه الغافل وينظر إلى العاصي بعين الرحمة دون الازدراء ويجتهد في إزالة المنكر وإزاحته على أحسن ما يستطيعه ، ويسعى في سد خلة المحتاجين بقدر وسعه وطاقته ، فرحمة الله على العباد . إما إرادة الإنعام عليهم ودفع الضر عنهم فيكون الاسمان من صفات الذات ، أو نفس الإنعام والدفع ، فيعودان إلى صفات الأفعال ، والفرق أن صفة الذات عدمها يوجب نقصا ، ولا كذلك صفة الأفعال . والرحمن : أبلغ من الرحيم لأن زيادة المبنى تدل على مزيد المعنى ، وذلك تارة توجد باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، وعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا ، لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة ، لأن النعم الأخروية بأسرها تامة ، والنعم الدنيوية تنقسم إلى جليل وحقير ، وقليل وكثير ، وتام وغير تام ، وكان معنى الرحمن هو المنعم الحقيقي تام الرحمة عميم الإحسان ، ولذلك لا يطلق على غيره تعالى ، ويقال له خاص اللفظ عام المعنى ، بخلاف الرحيم فإنه عام اللفظ خاص المعنى . ( الملك ) : أي : ذو الملك التام ، والمراد به القدرة على الإيجاد والاختراع من قولهم : فلان يملك الانتفاع بكذا إذا تمكن منه ، فيكون من أسماء الصفات كالقادر ، وقيل : المتصرف في الأشياء بالإيجاد والإفناء والإماته والإحياء ، فيكون من أسماء الأفعال كالخالق ، وقيل : وموقع الملك في الحديث كموقع ملك يوم الدين في التنزيل على أسلوب التكميل ؛ لأنه تعالى لما ذكر ما دل على النعم والألطاف أردفه بما يدل على الغلبة والقوة ، وأنه الملك الحقيقي ، وأنه لا مالك سواه ، فإن العبد محتاج في الوجود إليه تعالى ، والاحتياج مما ينافي الملك ، فلا يمكن أن يكون له ملك مطلق ، بل يضاف إليه مجازا . ثم لما وصفه بما قد يوصف به المخلوق ، وكان مظنة للتشبيه أتبعه بقوله : ( القدوس ) : وهلم جرا بتتابع سائر الأسماء في الثناء ، وهو من أبنية المبالغة أي : الطاهر المنزه في نفسه عن سمات النقصان ، ثم وظيفة العارف من اسم الملك أن يعلم أنه هو المستغني على الإطلاق عن كل شيء ، وما عداه مفتقر إليه وجوده وبقاؤه ومسخر لحكمه وقضائه ، فيستغني عن الناس رأسا ويستبد بالتصرف في مملكته الخاصة التي هي قلبه وقالبه ، والتسلط على جنوده ورعاياه من القوى والجوارح واستعمالها فيما فيه خير الدارين ، وفي معناه قيل : من ملك نفسه فهو حر والعبد من يملكه هواه .

وقال القشيري : من عرف أنه تعالى هو القدوس تسمو همته إلى أن يطهره الحق من عيوبه وآفاته ، ويقدسه عن دنس آثامه في جميع حالاته ، فيحتال في تصفية وقته عن الكدورات ، ويرجع إلى الله بحسن استعانته في جميع الأوقات ، فإن من طهر الله لسانه عن الغيبة طهر الله قلبه عن الغيبة ، ومن طهر الله سره عن الحجبة من القربة [ ص: 1565 ] القريبة . حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه مر بسكران مطروح على قارعة الطريق ، وقد تقيأ فنظر إليه وقال : بأي لسان أصابته هذه الآفة ، وقد ذكر الله وغسل فمه ؟ فلما أن أفاق السكران أخبر بما فعله فخجل وتاب ، فرأى إبراهيم في المنام كأن قائلا يقول له :

غسلت لأجلنا فمه غسلنا لأجلك قلبه

.

( السلام ) : مصدر نعت به للمبالغة أي : ذو السلامة عن عروض الآفات مطلقا ذاتا وصفة وفعلا ، فهو الذي سلم ذاته عن العيب والحدوث ، وصفاته عن النقص ، وأفعاله عن الشر المحض ، فهو من أسماء التنزيه ، وقيل : معناه مالك تسليم العابد من المخاوف والمهالك ، فيرجع إلى القدرة وهي من صفات الذات ، وقيل : ذو السلام على المؤمنين في الجنان ، كما قال تعالى : سلام قولا من رب رحيم فيكون مرجعه إلى الكلام القديم ، قيل : الفرق بينه وبين القدوس أن القدوس يدل على براءة الشيء من نقص يقتضيه ذاته ويقوم به ، فإن القدوس طهارة الشيء عن نفسه ، ولذلك جاء الفعل منه على فعل بالضم ، والسلام يدل على نزاهته عن نقص يعتريه لعروض آفة ، أو صدور فعل ، ويقرب منه ما قيل : القدوس فيما لم يزل ، والسلام فيما لا يزال ، ووظيفة العارف أن يتحقق به بحيث يسلم قلبه من الحقد والحسد والخيانة وإرادة الشر من غير قصد الخير في ضمنه وجوارحه عن ارتكاب المحظورات والآثام ، ويكون مسلما لأهل الإسلام ، ومسلما على كل من يراه عرفه أو لم يعرفه ، وعن بعض العارفين : السليم من العباد من سلم عن المخالفات سرا وعلنا ، وبرئ من العيوب ظاهرا وباطنا .

وقال القشيري : ومن آداب من تخلق بهذا الاسم أن يعود إلى مولاه بقلب سليم ، وقال بعضهم : لما كان السلام من السلامة كان العارف بهذا الاسم طالبا للسلامة ، ومتلبسا بالاستسلام ، ليجمع له كمال التنزيه في كل الأحوال ، والتخلق به أن يسلم المسلمون من لسانه ويده ، بل يكون بزيادة الشفقة عليهم ، فإذا رأى من هو أكبر منه سنا قال : هو خير مني ؛ لأنه أكثر مني طاعة وأسبق مني إيمانا ومعرفة ، وإن رأى أصغر منه ، قال : إنه خير مني ؛ لأنه أقل مني معصية ، وإذا ظهر من أخيه معصية طلب له سبعين معذرة ، فإن اتضح له عذره وإلا عاد على نفسه باللوم ، ويقول : بئس الرجل أنت حيث لم تقبل سبعين عذرا من أخيك .

( المؤمن ) : أي : من أمن خلقه بإفادة آلات دفع المضار ، أو أمن الأبرار من الفزع الأكبر يوم العرض ، أو أمن عباده من الظلم ، بل ما يفعل بهم إما فضل وإما عدل ، فهو من الأمان ومرجعه إلى أسماء الأفعال ، أو صدق أنبياءه بالمعجزات ، فيرجع إلى الكلام . قال القشيري : اعلم أن الموافقة في الأسماء لا تقتضي المشابهة في الذوات ، فيصبح أن يكون الحق سبحانه مؤمنا ، ولا تقضي المشابهة مشابهة العبد الرب اهـ . ولا تقتضي المشابهة في الصفات فإن بين الإيمانين بونا بينا ، قيل : ووظيفة العارف منه أن يصدق الحق ويسعى في تقريره ، ويكف عن الإضرار والحيف ، ويكون بحيث يأمن الناس بوائقه ، ويعتضدون به في دفع المخاوف ودفع المفاسد في أمور الدين والدنيا . وقال بعضهم : من عرف أنه الصادق في وعده المصدق لمن يشاء من عباده لم يسكن في تصديقه لغيره ، وعطف على السلام لمزيد معنى التأمين على السلام ، لما فيه من القبول والإقبال والله أعلم .

( المهيمن ) : أي : الرقيب المبالغ في المراقبة والحفظ ، ومنه هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فراخه صيانة له ، فهو من أسماء الأفعال ، وقيل : الشاهد أي : العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة ، فيرجع إلى العلم ، وقيل : الذي يشهد على كل نفس بما كسبت فيرجع إلى القول ، ومنه قوله تعالى : ( ومهيمنا عليه أي : شاهدا ، وقيل : القائم بأمور الخلق من أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وأخلاقهم ، فيرجع إلى القدرة ، وقيل : أصله مؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة ، فهو مفيعل من الأمانة بمعنى الأمين الصادق الوعد ، فهو من الكلام . وقيل : هو من أسمائه تعالى في الكتب القديمة .

قال الغزالي - رحمه الله - : المهيمن اسم لمن استجمع ثلاث صفات : العلم مجال الشيء ، والقدرة العامة على مراعاة مصالحه ، والقيام عليها ، وحظ العارف منه أن يراقب قلبه ، ويقوم أحواله ، ويحفظ القوى [ ص: 1566 ] والجوارح عن الاشتغال بما يشغل قلبه عن جناب القدس ، ويحول بينه وبين الحق ، وما أحسن قول من قال : من عرف أنه المهيمن خضع تحت جلاله في كل أحواله .

( العزيز ) : ومنه قوله تعالى : والله غالب على أمره وقيل : عديم المثال فمرجعه إلى التنزيه ، وقيل : هو الذي تتعذر الإحاطة بوصفه ، وحظ العارف منه أن يعز نفسه ، ولا يستهينها بالمطالب الدنية ، ولا يدنسها بالسؤال من الناس ، والافتقار إليهم ، ويجعلها بحيث يشتد إليها احتياج العباد في الإرفاق والإرشاد ، قال أبو العباس المرسي : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن المخلوقين ، وقيل : إنما يعرف الله عزيزا من أعز أمره وطاعته ، فأما من استهان بأوامره ، فمن المحال أن يكون متحققا بعزته . قال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .

( الجبار ) : بناء مبالغة من الجبر ، وهو إصلاح الشيء بضرب من القهر ، ويطلق على الإصلاح المجرد نحو ما نقل عن علي : يا جابر كل كسير ، وعلى القهر المجرد نحو ما ورد : لا جبر ولا تفويض ، ثم تجوز به للعلو المسبب عن القهر فقيل لمكة جبارة فقيل الجبار هو المصلح لأمور العباد يغني المؤمن من فقره ، ويصلح عظمه من كسره فهو من أسماء الأفعال ، وقيل : المتعالي عن أن يلحقه كيد الكائدين ، وأن يناله قصد القاصدين ، فمرجعه إلى التنزيه ، وقيل معناه حامل العباد على ما أراد قهرا من أمر أو نهي ، أو على ما أراد صدوره عنهم على سبيل الإجبار ، فصاروا حيث أراد طوعا أو كرها من الأخلاق والأعمال والأرزاق والآجال ، فهو من صفات الذات . قيل : وحظ العارف من هذا الاسم أن يقبل على النفس فيجبر نقائصها باستكمال الفضائل ، ويحملها على ملازمة التقوى من الرذائل ، ويكسر فيها الهوى والشهوات بأنواع الرياضات ، ويرتفع عما سوى الحق غير ملتفت إلى الخلق فيتخلق بالسكينة والوقار بحيث لا يزلزله تعاور الحوادث ، ولا يؤثر فيه تعاقب النوازل ، بل يقوى على التأثير في الأنفس والآفاق بالإرشاد والإصلاح .

قال القشيري : الاسم إذا احتمل معاني مما يصح في وصفه تعالى ، فمن دعاه بهذا الاسم ، فقد أثنى عليه بتلك المعاني فهو الجبار على معنى أنه عزيز متكبر محسن إلى عباده ، لا يجري في سلطانه شيء بخلاف مراده ، من آداب من عرف أنه لا تناله الأيدي لعلو قدرته أن يتحقق بأنه لا سبيل إليه ، فلا يصيب العبد منه إلا لطفه وإحسانه اليوم عرفانه وغدا غفرانه ، وإذا علم أنه يجبر الخلق على مراده ، وعلم أنه لا يجري في سلطانه ما يأباه ويكرهه ترك ما يهواه وانقاد لما يحكم به مولاه ، فيستريح عن كد الفكر وتعب التدبير ، وفي بعض الكتب : عبدي تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد ، فإن رضيت بما أريد كفيتك فيما تريد ، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد اهـ .

ولذا قيل لأبي يزيد : ما تريد ؟ قال : أريد ألا أريد . قال عبد الله الأنصاري : هذه إرادة أيضا ، وقال الغزالي ، ما حاصله : الجبار من العباد من ارتفع عن الاتباع ، ونال درجة الاستتباع ، وتفرد بعلو رتبته بحيث يجبر الخلق هيئته وصورته على الاقتداء به ، ومتابعته في سمته وسيرته ، فيفيد الخلق ولا يستفيد ، ويؤثر ولا يتأثر ، ولم يكمل هذا المقام إلا لنبينا - عليه الصلاة والسلام - حيث قال : " لو أن موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر " .

( المتكبر ) : أي ذو الكبرياء وهو الرب الملك ، أو هو المتعالي عن صفات الخلق ، وقيل : هو عبارة عن كمال الذات فلا يوصف به غيره ، وقيل : هو الذي يرى غيره حقيرا بالإضافة إلى ذاته ، فينظر إلى غيره نظر المالك إلى عبده وهو عند الإطلاق لا يتصور إلا له تعالى ، فإنه المتفرد بالعظمة والكبرياء بالنسبة إلى كل شيء من كل وجه ولذلك لا يطلق على غيره إلا في معرض الذم .

قال الطيبي : فإن قيل . هذا اللفظ من باب التفعل ، ووضعه للتكلف في إظهار ما لا يكون ، فينبغي أن لا يطلق على الله تعالى . قلت : لما تضمن التكلف بالفعل مبالغة فيه أطلق اللفظ ، وأريد به مجرد المبالغة ، ونظير ذلك شائع في كلامهم ، مع أن التفعل جاء لغير التكلف كثيرا كالتعمم والتقمص .

[ ص: 1567 ] قال القشيري : من عرف علوه تعالى وكبرياءه لازم طريق التواضع ، وسلك سبيل التذلل ، وقد قيل : هتك ستره من جاوز قدره ، وقد قيل : الفقير في خلقه أحسن منه في جديد غيره ، ولا شيء أحسن على الخدم من التواضع بحضرة السادة ، وقيل : كل من أخلص في وده وصدق في حبه كان استلذاذه بمنعه أكثر من استلذاذه بعطائه . وقال الطيبي : وحظك منه أنك إذا شاهدت كبرياءه تعالى تكبرت على الركون إلى الشهوات والسكون إلى المألوفات ، فإن البهائم تساهمك فيها ، بل عن كل ما يشغل سرك عن الحق ، واستحقرت كل شيء سوى الوصول إلى جناب القدس من مستلذات الدنيا والآخرة ، وزالت عنك جميع دعاوى الكبر ومهاويه ، لصفاء نفسك وانطباعها للحق ، حتى سكن وهجها ، وانمحت رسومها ، فلم يبق لها اختيار ، ولا مع غير الله قرار .

( الخالق ) : من الخلق ، وأصله التقدير المستقيم ، ومنه قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين أي المقدرين . وتخلقون إفكا أي تقدرون كذبا ، ويستعمل بمعنى الإبداع ، وإيجاد شيء من غير أصل ، كقوله تعالى : خلق السماوات والأرض فالله خالق كل شيء بمعنى أنه مقدره أو موجده من أصل ، أو من غير أصل .

( البارئ ) : بالهمز في آخره ، أي : الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت .

( المصور ) : بكسر الواو المشددة أي : مبدع صور المخترعات ومزينها ومرتبها ، وقيل : هو الذي يصور الشيء على هيئة يتم بها خواصه وأفعاله . قال الطيبي : فالله سبحانه خالق كل شيء . بمعنى أنه مقدره ، أو موجده من أصل أو من غيره ، وبارئه بحسب ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته من غير تفاوت واختلال ، ومصوره بصورة يترتب عليه خواصه ، ويتم به كماله ، وثلاثتها من أسماء الأفعال اهـ . وبه يندفع قول من قال : إن هذه الثلاثة مترادفة وحظ العارف منها أن لا يرى شيئا ، ولا يتصور أمرا إلا ويتأمل فيما فيه من باهر القدرة وعجائب الصنع ، وليترقى من المخلوق إلى الخالق ، وينتقل من ملاحظة المصنوع إلى الصانع ، حتى يصير بحيث كلما نظر إلى شيء وجد الله عنده .

وقال القشيري : وإذا علم العبد أنه لم يكن شيئا ولا عينا ، فحوله الله شيئا وجعله عينا ، فبالحري أن لا يعجب بحاله ، ولا يدل بأفعاله ، وقد أشكل عليه حكم مآله ، وكيف لا يتواضع من يعلم أنه في الابتداء نطفة ، وفي الانتهاء جيفة ، وفي الحال صريع جوعه وأسير شبعه ، ففيه من النقائص ما إن تأمله عرف به جلال ربه ، ثم اعلم أن الأسماء المتقدمة ثلاثة عشر ، سوى الجلالة ، وكلها دائرة على معانيها مع إفادة كل منها زيادة على معنى ما قبلها .

وقد جاء كذلك في خاتمة سورة الحشر ، مع زيادة عالم الغيب والعزيز الحكيم ، وقد قالوا : آخر سورة الحشر مشتمل على اسم الله الأعظم ، والله أعلم .

( الغفار ) : أي الذي يستر العيوب والذنوب في الدنيا بإسبال الستر عليها ، وفي العقبى بترك المعاتبة لها ، وهو لزيادة بنائه أبلغ من الغفور ، وقيل : المبالغة في الغفار باعتبار الكمية ، وفي الغفور باعتبار الكيفية ، وأصل الغفر الستر فهو من أسماء الأفعال ، وحظك منه أن تعرف أنه لا يغفر الذنوب إلا هو ، وأن تستر على عباده ، وتعفو عنهم ، وتلازم على الاستغفار خصوصا في الأسحار .

قال القشيري في قوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ثم " تقتضي التراخي كأنه قال : من رخى عمره في الزلات ، وأفنى حياته في المخالفات ، وأبلى شبابه في البطالات ، ثم ندم قبل الموت ، وجد من الله العفو من السيئات ، و " من يعمل سوءا " إخبار عن الفعل ، و " يستغفر الله " إخبار عن القول كأنه قيل : الذين زلاتهم حالة ، وتوبتهم قالة ، ولقد سهل عليك الأمر من رضي عنك بقالة ، وقد عملت ما عملت ، فالاستغفار يستدعي مجرد الغفران ، فقوبل بقوله : " يجد الله " نظرا إلى حال المذنب كيف طلب المغفرة فوجد الله .

[ ص: 1568 ] ( القهار ) : أي : الذي لا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته مسخر لقضائه ، وقدره قال تعالى : وهو القاهر فوق عباده ومرجعه إلى القدرة ، وقيل : هو الذي أذل الجبابرة وقصم ظهورهم بالإهلاك نحوه ، فهو من أسماء الأفعال ، وما أحسن قول من قال : هو من اضمحلت عند صولته صولة كل متمرد أو جبار ، وبادت عند سطوته قوى الملوك وأرباب التفاخر والاستكبار ، لاسيما عند قوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فأين الجبابرة الأكاسرة عند ظهور هذا الخطاب ؟ وأين الأنبياء والمرسلون والملائكة المقربون في هذا العتاب ؟ وأين أهل الضلال والإلحاد والتوحيد والإرشاد ؟ وأين آدم وذريته وإبليس وشيعته ، وكأنهم بادوا وانقرضوا ، وكأنهم لم يغنوا ، زهقت النفوس ، وبلغت الأرواح ، وتبددت الأجسام والأشباح ، وبقي الموجود الذي لم يزل ولا يزال ، وما عداه بادوا عن آخرهم ، وتفرقت منهم الأعضاء والأوصال ، واعلم أن الله تعالى قهر نفوس العابدين بحقوق عبوديته ، وقلوب العارفين بسطوة قربته ، وأرواح الواجدين بكشف حقيقته ، فالعابد بلا نفس لاستيلاء سلطان أفعاله عليه ، والعارف بلا قلب ، لاستيلاء سلطان إقباله عليه ، والواحد بلا روح لاستيلاء كشف جماله وجلاله ، فمتى أراد العابد خروجه عن قيد مجاهدته ، قهرته سطوة العتاب فردته إلى بذل المهجة ، ومتى أراد العارف خروجه عن مطلبات القربة ، قهرته بوادي الهيبة فردته إلى توديع المهجة ، فشتان بين عبد مقهور أفعاله ، وعبد هو مقهور جلاله وجماله .

( الوهاب ) : أي : كثير النعمة دائم العطية : قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها والهبة الحقيقية ، هي الخالية عن غرض الأعراض والأغراض ، فإن المعطي لغرض مستعيض ، وليس بواهب فهو من أسماء الأفعال .

تنبيه : الفتاح متأخر عن الرزاق .

( الفتاح ) : أي : الحاكم بين الخلائق ، من الفتح ، بمعنى الحكم ، ومنه قوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين لأن الحكم يفتح الأمر المغلق بين الخصمين ، والله سبحانه بين الحق وأوضحه ، وبين الباطل وأدحضه ببعث الرسل وإنزال الكتب ونصب الحجج النقلية والعقلية ومرجعه إلى العلم . وقيل : الذي يفتح خزائن الرحمة على أصناف البرية ، ومنه قوله عز وجل : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وقيل المفتاح من الفتح وهو الإفراج من الضيق الحسي والمعنوي ، كالذي يفرج تضايق الخصمين في الحق بحكمه ، وعن بعض الصالحين : الفتاح هو الذي لا يغلق وجوه النعمة بالعصيان ، ولا يترك إيصال الرحمة إليهم بالنسيان ، وقيل : هو الذي يفتح قلوب المؤمنين بمعرفته ، وفتح على العاصين أبواب مغفرته . وقيل : هو الذي فتح على النفوس باب توفيقه ، وعلى الأسرار باب تحقيقه ، وحظك منه أن تسعى في الفصل بين الناس ، وأن تنصر المظلومين ، وأن تهتم بتيسير ما تعسر على الخلق من أمور الدنيا والدين ، حتى يكون لك حظ من هذا الاسم .

قال القشيري : من علم أنه الفتاح للأبواب ، الميسر للأسباب ، الكافي للحضور ، المصلح للأمور ، فإنه لا يتعلق بغيره قلبه ، ولا يشتغل بدونه فكره لا يزيد بلاء إلا ويزيد بربه ثقة ورجاء ، واعلم أنه تعالى يفتح للنفوس بركات التوفيق ، وللقلوب درجات التحقيق ، فبتوفيقه تزين النفوس بالمجاهدات ، وبتحقيقه تزين القلوب بالمشاهدات ، ومن آداب من علم أنه الفتاح أن يكون حسن الانتظار لنيل كرمه ، مستديم التطلع لوجود لطفه ، ساكنا تحت جريان حكمه ، عالما بأنه لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخر لما قدم ، قال رجل وهو مؤذن على الجارية لعلي - كرم الله وجهه - : إني أحبك ، فذكرته لعلي ، فقال ، قولي له : وأنا أيضا أحبك فما بعد ذلك ؟ فقالت له ذلك . فقالت ذلك . فقال : إذا نصبر حتى يحكم الله بيننا ، فذكرت ذلك لعلي ، فدعاه فسأله عن القصة فأخبره بالصدق ، فقال : خذها فهي لك قد حكم الله بينكما ، فهو من أسماء الأفعال ، وقيل : مبدع الفتح والنصرة ، ومنه قوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ ص: 1569 ] ( الرزاق ) : أي : خالق الأرزاق والأسباب التي يتمتع بها . والرزق هو المنتفع به ، سواء كان مباحا أو محظورا ، وقالت المعتزلة : الرزق هو الملك وفساده ظاهر طردا وعكسا ، أما الأول : فلأن كل ما سوى الله ملكه ، وليس رزقا له وأما الثاني : فلأن يدر على البهائم رزقها لقوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وليس ملكا لها ، وهو نوعان : ظاهر للأبدان كالأقوات والأمتعة ، وباطن للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم ، ولذلك قال بعض المحققين : الرزاق من رزق الأشباح فوائد لطفه ، والأرواح عوائد كشفه ، وقال الآخر : الرزاق من غذى نفوس الأبرار بتوفيقه ، وجلا قلوب الأخيار بتصديقه ، وحظ العارف منه أن يتحقق معناه ليتيقن أنه لا يستحقه إلا الله ، فلا ينظر الرزق ولا يتوقعه إلا منه ، فيكل أمره إليه ، ولا يتوكل فيه إلا عليه ، ويجعل يده خزانة ربه ، ولسانه وصلة بين الله وخلقه في وصول الأرزاق الروحانية والجسمانية إليهم بالإرفاد والتعليم ، وصرف المال ودعاء الخير ، وغير ذلك لينال حظا وافرا من هذه الصفة .

قال القشيري : من عرف أن الله هو الرزاق أفرده بالقصد إليه وتقرب إليه بدوام التوكل عليه ، وقيل لبعضهم : من أين تأكل ؟ فقال : منذ عرفت خالقي ما شككت في رزقي ، وقيل لعارف : إيش القوت ؟ فقال : ذكر الحي الذي لا يموت ، وقد يقع لبعض العارفين أن يسأل الحقير من الحقير ليعطيه الخطير . قال تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا كما وقع للشبلي أنه أرسل لغني أن ابعث إلينا شيئا من دنياك ، فكتب إليه : سل دنياك من مولاك ؟ فأجابه : بأن الدنيا حقيرة وأنت حقير ، وإنما أسأل الحقير من الحقير ، ولا أطلب من مولاي غير مولاي ، ولا ينافي هذا ما ورد : يا موسى سلني حتى ملح عجينك ، لأن سؤال الخلق فيما أجرى على أيديهم لا ينافي سؤاله تعالى في تيسير أسباب وصول ذلك .

( العليم ) : أي : العالم البالغ في العلم المحيط علمه ، السابق بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها ، دقيقها وجليلها ، كلياتها وجزئياتها ، وهو من صفات الذات ، فهو تعالى يعلم ذاته وصفاته وأسماءه ، ويعلم ما كان وما لا يكون من الجائزات وأنه لو كان كيف يكون ، ويعلم المستحيل من حيث استحالته وانتفاء كونه ، وما يترتب عليه لو كان ، من ثمة قال عز قائلا : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وبالجملة فهو تعالى لا يخفى عليه شيء ولذا قيل ما من عام إلا وخص كقوله تعالى : وهو على كل شيء قدير وأمثاله قيل : هذا أيضا عام ثم خص لعموم قوله تعالى : وهو بكل شيء عليم وما أحسن ما قيل : من عرف أنه تعالى عليم بحالته صبر على بليته وشكر على عطيته واستغفر من خطيئته .

وقال القشيري : من علم أنه تعالى عليم بالخفيات خبير بما في الضمائر من الخطرات ، لا يخفى عليه شيء من الحوادث في جميع الحالات ، فبالحري أن يستحيي من مواضع اطلاعه ، ويرعوي عن الاغترار بجميل ستره ، وفي بعض الكتب إن لم تعلموا أني أراكم ، فالخلل في إيمانكم ، وإن علمتم أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ؟ .

( القابض ، الباسط ) : أي : مضيق الرزق وغيره على من شاء ما شاء كيف شاء وموسعه . وقيل : قابض الأرواح عن الأجساد عند الموت ، وناشرها فيها عند الحياة ، وهما من صفات الأفعال . قال بعض العارفين : معناهما أنه يقبض القلوب ، ويبسطها تارة بالضلالة والهدى ، وأخرى بالخوف والرجاء ، وقيل : القابض الذي يكاشفك بجلاله فيفنيك ، ويكاشفك بجماله فيغنيك . قال تعالى : والله يقبض ويبسط أي : في كل شيء من الأخلاق والأرزاق والأشباح والأرواح ، إذا قبض فلا طاقة ، وإذا بسط فلا فاقة ، وإنما يحسن إطلاقهما معا ليدلا على كمال القدرة وإتقان الحكمة ، وحظك منهما أن تراقب الحالين ، فلا تعيب أحدا من الخلق ولا تسكن إليه فيه إقبال ولا إدبار ، ولا تيأس منه في بلاء ، ولا تأمن على عطاء وترى القبض عدلا منه فتصبر ، والبسط فضلا فتشكر ، فتكون راضيا بقضائه حالا ومآلا .

[ ص: 1570 ] قال القشيري : هما صفتان يتعاقبان على قلوب أهل العرفان ، فإذا غلب الخوف انقبض ، وإذا غلب الرجاء انبسط . ويحكى عن الجنيد أنه قال : الخوف يقبضني ، والرجاء يبسطني ، والحق يجمعني ، والحقيقة تفرقني ، وهو في ذلك كله موحشني غير مؤنسني ، ثم قال : والقبض يوجب إيحاشه والبسط يوجب إيناسه اهـ . وينبغي للعبد أن يجتنب الضجر حال قبضه ، ويترك الانبساط وترك الأدب وقت بسطه ، ومن هذا خشي الأكابر .

" الخافض ، الرافع " : أي : يخفض القسط ويرفعه ، أو يخفض الكفار بالخزي والصغار ، ويرفع المؤمنين بالنصرة والاعتبار ، أو يخفض أعداءه بالإبعاد ، ويرفع أولياءه بالإسعاد ، وحظك منهما أن لا تثق بحال من أحوالك ، ولا تعتمد على شيء من علومك وأعمالك ، والتخلق بهما أن تخفض ما أمرك الله بخفضه كالنفس والهوى ، وترفع ما أمرك الله برفعه كالقلب والروح ، رؤي رجل في الهواء فقيل له : بم هذا ؟ فقال : جعلت هواي تحت قدمي فسخر الله لي الهواء .

( المعز ، المذل ) : الإعزاز جعل الشيء ذا كمال يصير بسببه مرغوبا إليه قليل المثال ، والإذلال ضده ، والإعزاز الحقيقي تخليص المرء عن ذل الحاجة ، واتباع الشهوة ، وجعله غالبا على مراده قاهرا لنفسه . قال بعض العارفين : المعز الذي أعز أولياءه بعصمته ، ثم غفر لهم برحمته ، ثم نقلهم إلى دار كرامته ، ثم أكرمهم برؤيته ومشاهدته ، والمذل الذي أذل أعداءه بحرمان معرفته ، وارتكاب مخالفته ، ثم نقلهم إلى دار عقوبته ، وأهانهم بطرده ولعنته ، وحظك منهما أنك لم تتعزز بغيره ، ولم تتذلل لسواه ، وأن تعز الحق وأهله ، وتذل الباطل وحزبه ، وتسأل الله التوفيق لموجبات عزه ، وتستعيذ به من قطيعة ذله .

وقال المشايخ : ما أعز الله عبدا بمثل ما يرشده إلى ذل نفسه ، وما أذل الله عبدا بمثل ما يرد إلى توهم عز . قيل ، في قوله تعالى : وتعز من تشاء وتذل من تشاء تعز كل قوم من الزهاد ، والعباد ، والمريدين ، والعارفين ، والمحبين ، والموحدين ، بما يليق بمقامهم ، فالله يعز الزاهد بعزوف نفسه عن الدنيا ، ويعز العابد بخدمة المولى وترك الهوى ، ويعز المريدين بزهادتهم عن صحبة الورى ، ويعز العارف بتأهيله لمقام النجوى ، ويعز المحب بالكشف واللقاء وبالغنى عن كل ما سوى ، ويعز الموحد بشهود جلالة من له البقاء والعظمة والبهاء .

( السميع البصير ) : السمع والبصر ، إدراك المسموعات والمبصرات انكشافا تاما ، فهما صفتان من صفات ذاته الثمانية ، وهما غير صفة العلم ؛ لأنهما مختصتان بإدراك المسموعات والمبصرات والعلم يعمهما وغيرها كما سبق . وأما قول ابن حجر : إن الانكشاف بهما أتم فنقصان منه ؛ لأنهما يرجعان إلى صفة العلم وليستا زائدتين عليه ، لما قرروا أن الرؤية نوع علم ، والسمع كذلك . غايته أنهما وإن رجعا إلى صفة العلم بمعنى الإدراك ، فإثبات صفة العلم إجمالا لا يغني في العقيدة عن إثباتهما تفصيلا بلفظهما الواردين في الكتاب والسنة ، لأنا متعبدون بما ورد فيهما ، وعلى هذا الحمل ما في شرح المواقف من أنهما صفتان زائدتان على العلم ، فيقال : لما ورد النقل بهما آمنا بذلك ، وعرفنا أنهما لا يكونان بالآلتين المعروفتين ، واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما .

وأما قول ابن حجر : فمن جعلهما مرادفين للعلم ، فقد وهم ، فمسلم إذ العلم أعم ، وما أظن أن أحدا من أهل العلم يتوهم ترادفهما له ، لا في حق الله ولا في حق المخلوقين ، نعم أتميتها مقصورة في حق المخلوقين دون الخالق ، بل لا يتحقق العلم اليقين في حقنا إلا بالانتهاء إلى الحس ، فمن لم يذق لم يعرف ، وأما علمه تعالى فمحيط بالمرئيات والمسموعات ، والمريات والحلويات ، والجزئيات والكليات ، من غير تفاوت في الصفات ، ثم حظك من الاسمين المعظمين ، والوصفين المكرمين أن تتحقق أنك بمسمع ومرأى منه تعالى ، وأنه مطلع عليك ، وناظر إليك ، رقيب لجميع أحوالك من أقوالك وأفعالك ، فاحذر أن يراك حيث نهاك .

قال الغزالي : من أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله ، فقد استهان بنظر الله ، فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله يراه ، فما أجرأه وما أجسره ، وما ظن أن الله لا يراه ، فما أكفره وما أكفره ، ولذا قيل : إذا عصيت مولاك فاعص في موضع لا يراك ، والمراد من هذا المقال تعليق بالمحال ، ومن ألطاف الله بعباده أن الله يحفظ سمعهم وبصرهم ، وإليه الإشارة بقوله : كنت له سمعا وبصرا فبي يسمع وبي يبصر .

[ ص: 1571 ] ومن الآداب أيضا : أن تكتفي بسمعه وبصره تعالى عن انتقامك وانتصارك لنفسك .

قال الله تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك ثم انظر كيف سلاه وخفف عليه بحمل أثقال بلواه حيث أثقال بلواه حيث أشغله عنهم بقوله فسبح بحمد ربك . . إلخ .

أي : فاتصف أنت بمدحنا وثنائنا ، وسجودنا وشهودنا ، والمعنى أنك إذا تأذيت بسماع السوء منهم ، فاستروح بروح ثنائك علينا .

( الحكم ) : أي : الحاكم الذي لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، فمرجعه إما إلى القول الفاصل بين الحق والباطل ، والمبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير وشر ، وإما إلى المميز بين الشقي والسعيد بالعقاب والإثابة ، وإما إلى الفعل الدال على ذلك بنصب الدلائل والآيات ، وحظك منه أنك إذا عرفت أنه الحكم استسلمت لحكمه ، وانقدت لأمره ، فإنك إن لم ترض بقضائه اختيارا أمضاه فيك إجبارا ، وإن رضيت به طوعا قلبيا لطف بك لطفا خفيا ، وتعيش راضيا مرضيا ، ولا تحتاج أن تحاكم إلى غيره حيث حصل لك الرضا بحكمه ، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وإليك حاكمت ، وبك خاصمت ) فالتقرب به تعلقا بالشكوى في كل شيء إليه ، وبالاعتماد في كل أمر عليه .

وتخلقا أن يكون حكما بين قلبك ونفسك .

قال القشيري : واعلم أنه تعالى حكم في الأزل لعباده بما شاء ، فمنهم شقي وسعيد ، وقريب وبعيد ، فمن حكم له بالسعادة لا يشقى أبدا ، ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدا ، ولذا قالوا : من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل . وقالوا : من قعد به جده لم ينهض به جده .

واعلم أن الناس على أربعة أقسام : الأول : أصحاب سوابق ، فتكون فكرتهم أبدا فيما سبق لهم من الرب في الأزل يعلمون أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد . والثاني : أصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم ، فإن الأمور بخواتيمها ، والعاقبة مستورة ، ولهذا قيل : لا يغرنك صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، فكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة ، وظهرت عليه آثار السعادة ، وانتشر صيته في الآفاق ، وظنوا أنه من جملة أوليائه بالإطلاق ، بدل بالوحشة صفاؤه وبالغيبة ضياؤه وأنشدوا :


أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

    ولم تخف سوء ما يأتي به القدر


وسالمتك الليالي فاغتررت بها

    وعند صفو الليالي يحدث الكدر


والثالث : أصحاب الوقت وهم لا يشتغلون بالتفكر في السوابق واللواحق ، بل بمراعاة وقته ، وأداء ما كلفوا له من حكمه ، وقيل : العارف ابن وقته . والرابع : أصحاب الشهود ، وهم الذين غلب عليهم ذكر الحق ، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات لا يتفرغون إلى مراعاة وقت وزمان ، ولا يتطلعون لشهود حين : وأوان ، وقيل : أصله المنع ، وسمى العلوم حكما لأنها تمنع صاحبها عن شيم الجهال .

( العدل ) : أي : البالغ في العدالة ، وهو الذي لا يفعل إلا ما له فعله ، وقيل : العدل خلاف الجور ، وهو في الأصل مصدر أقيم مقام الصفة ، وهو العادل ، وهو أبلغ منه ؛ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا ، فهو من صفات الأفعال . وقال بعضهم : هو البرئ من الظلم في أحكامه ، المنزه عن الجور في أفعاله ، وحظك منه أن تشهد أنه عدل في أقضيته ، فلا تجد في نفسك جزعا من أحكامه ، ولا حرجا من نقضه وإبرامه ، فتستريح بالاستسلام إليه ، وبالتوكل والاعتماد عليه ، وترى الكل منه حقا وعدلا ، وتستعمل كل ما وصل إليك منه فيما ينبغي أن يستعمل فيه شرعا وعقلا ، وتخاف سطوة عدله ، وترجو رأفة فضله ، ولا تأمن من مكره ، ولا تيأس من فضله ، وتجتنب في مجامع أمورك طرفي الإفراط والتفريط ، كالفجور والخمود في الأفعال الشهوية ، والتهور والجبن في الأفعال الغضبية ، وتلازم أوساطها التي هي العفة والشجاعة ، والحكمة المعبر عن مجموعها بالعدالة لتندرج تحت قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا .

[ ص: 1572 ] ( اللطيف ) : أي : البر بعباده الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين ، ويهيئ لهم ما يسعون به إلى المصالح من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون ، فهو من أسماء الأفعال ، وقيل : هو كالجميل بمعنى : المجمل ، وقيل : العالم بخفيات الأمور وما لطف منها ، وقيل : هو الخفي عن الإدراك . قال ابن عطاء في حكمه : من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره ، ومن التخلق بهذا الاسم أن يتلطف بالخلق بإرشادهم إلى الحق . قال تعالى : الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز قيل : من لطفه تعالى لعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة ، ومن لطفه تعالى توفيق الطاعات ، وتيسير العبادات ، وحفظ التوحيد في القلوب وصيانته من العيوب .

( الخبير ) : أي : العالم ببواطن الأشياء من الخبرة ، وهي العلم بالخفايا الباطنة ، وقيل : هو المتمكن من الإخبار عما علمه ، وحظك منه أنك إذا شهدت أنه المطلع على سرك العليم ببواطن أمرك اكتفيت بعلمه ، ونسيت غيره في جنب ذكره ، وكنت بزمام التقوى مشدودا ، وعن طريق الغي مصدودا ، وتعين عليك ترك الرياء ولزوم الإخلاص ، لتصل إلى مقام أهل الاختصاص ، وأن لا تتغافل عن بواطن أحوالك ، وتشتغل بإصلاحها ، وتلافي ما يظهر لك منها من القبائح بصرفها إلى فلاحها ، وأن تكون في أمر دينك ودنياك خبيرا ، وبما يجب عليك أو يندب لك بصيرا .

( الحليم ) : أي : الذي لا يعجل عقوبة المؤمنين ، بل يؤخرهم لعلهم يتوبون ، وقيل : هو الذي لا يستفزه غضب ، ولا يحمله غيظ على تعجيل العقوبة ، فالتقرب به تعلقا أن تشكر منته في حلمه ، لكن من غير اغترار بكرمه ، وتخلقا أن تكظم الغيظ وتطفئ نار الغضب بالحلم ، وكماله أن تحسن إلى من أساء إليك . قال القشيري : فإذا ستر الله تعالى في الحال بفضله ، فالمأمول منه أن يعفو في المآل بلطفه ، وهو راجع إلى التنزيه .

( العظيم ) : أصله من عظم الشيء إذا كبر عظمه ، ثم استعير لكل جسم كبير المقدار كبرا يملأ العين كالجمل والفيل ، أو كبرا يمنع إحاطة البصر بجميع أقطاره كالسماء والأرض ، ومنه قوله تعالى : رب العرش العظيم ثم لكل شيء كبير القدر على المرتبة ، فالعظيم المطلق البالغ إلى أقصى مراتب العظمة ، هو الذي لا يتصوره عقل ولا يحيط بكنهه بصيرة ، وهو الله تعالى ومرجعه إلى التنزيه .

قال القشيري : ويجب أن يحمل العظيم في صفة الله تعالى على استحقاق علو الوصف من استحقاق القدم ، ووجود الوحدانية والانفراد بالقدرة على الإيجاد ، وشمول العلم بجميع المعلومات ، ونفوذ الإرادة في المتناولات ، وإدراك السمع والبصر بجميع المسموعات والمرئيات ، وتنزه ذاته عن قبول المحدثات ، وحظك منه أنك إذا شهدت عظمته صغر في عينك كل شيء إلا ما له نسبة من تعظيمه تعالى ، واستحقرت نفسك وذللتها للإقبال عليه تعالى بكليتها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، والاجتهاد في كل ما يحبه ويرضيه ، وحينئذ فتقربك به تعلقا ؛ لأن تلازم التذليل والافتقار على الدوام ، وتخلقا أن تتعاظم عن الأوصاف الذميمة وارتكاب الآثام .

( الغفور ) : أي : كثير المغفرة وهي صيانة العبد عما يستحقه من العقاب بالتجاوز عن ذنوبه من الغفر والستر وإلباس الشيء ما يصونه عن الدنس . قال الطيبي : ولعل الغفار أبلغ منه لزيادة بنائه ، والأحسن ما قيل من الفرق بينه وبين الغفار أن المبالغة فيه من جهة الكيفية ، وفي الغفار باعتبار الكمية ، ولعل إيراد كل من أبنية المبالغة من الرحمة والمغفرة في الأسماء التسعة والتسعين لتأكيد أمرها ، والدلالة على أنه تعالى عظيم الرحمة عميمها ، كبير المغفرة كثيرها ، والإشعار بأن رحمته أغلب من غضبه ، وغفرانه أكثر من عقابه . أقول : ويمكن أن يقال وصف الكامل لا يكون إلا على وجه الكمال ، فلا يوجد فيه صفة على وصف النقصان . ولذا قال بعضهم في جواب الإشكال : المشهور في قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد من أنه لا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل ، مع أنه منفي عنه تعالى ، لما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، أو التصرف في ملك غيره ، وهو المحال على الملك المتعال بأنه إنما أورد بصيغة المبالغة إشارة إلى أنه تعالى لو كان موصوفا به لكان موصوفا على وجه الأبلغية ، فلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل لعدم انفكاك وصفه تعالى عن المبالغة ، ولذا لا يجوز إطلاق السامع عليه تعالى بمعنى السميع لفوات المبالغة وأما قول الجزري : [ ص: 1573 ] يقول راجي عفو رب سامع ، محمول على أنه أراد أنه مجيب لمن دعاه ، وغير مخيب لمن رجاه ، ثم التقرب به تعالى تعلقا بلزوم الاستغفار في آناء الليل وأطراف النهار ، خصوصا أوقات الأسحار وتخلقا بالمغفرة لمن آذاك .

( الشكور ) : أي الذي يعطي الأجر الجزيل على الأمر القليل ، فيرجع إلى صفات الفعل . حكي أن رجلا رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : حاسبني فخفت كفة حسناتي ، فوضع فيها صرة فثقلت فقلت : ما هذا ؟ قال : كف تراب ألقيته في قبر مسلم . قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقيل : هو المثني على المطيعين ، فيرجع إلى القول ، المجازي عباده على شكرهم ، فيكون من باب المقابلة والتنزيل منزلة المعاملة نحو قوله تعالى : ومكروا ومكر الله وجزاء سيئة سيئة مثلها وحظ العبد منه أن يعرف نعم الله ، ويقوم بمواجب شكره ، ويواظب على وظائف أمره ، وأن يكون شاكرا للناس معروفهم ، ففي الحديث ( لم يشكر الله من لا يشكر الناس ) بنصبهما ، كما هو ظاهر . وقال ابن حجر برفعهما ونصبهما ، ورفع أحدهما ونصب الآخر ، وكلها ترجع إلى تعظيم الواسطة ، مع أن المنعم الحقيقي هو الله تعالى وحده . والمشهور في حد الشكر بأنه : صرف العبد جميع نعمه إلى ما خلق لأجله من عبادة ربه ، وقال بعضهم في قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور ) أي : قليل من عبادي من يشهد أن النعمة مني ، لأن حقيقة الشكر الغيبة عن شهود النعمة بشهود المنعم ، ولا دخل في هذا المعنى لمبحث تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر عند كثيرين ، كما ذكره ابن حجر على خلاف ما أجمع عليه الأولياء وجمهور العلماء .

( العلي ) : بتشديد ، فعيل من العلو ، وهو البالغ في علو الرتبة بحيث لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته . وقال بعضهم : هو الذي علا عن الإدراك ذاته وكبر عن التصور صفاته . وقال آخر : هو الذي تاهت القلوب في جلاله ، وعجزت العقول عن وصف كماله ، وحظك منه أنك إذا شاهدت علوه سمت همتك إليه ، فجعلتها في كل أحوالك واقفة عليه ، وذللت نفسك في طاعته الظاهرة والباطنة ، وبذلت روحك في العلم والعمل ، حتى تبلغ الغاية في الكمالات الأنسية ، والحالات القدسية ، والمراتب العلية ، من العلمية والعملية ، ففي الحديث : ( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها ) . ومن ثم قال علي - كرم الله وجهه - : علو الهمة من الإيمان ، واختلف المشايخ في أفضلية الهمة والخدمة ، وعندي أن الخدمة إنما تنشأ من الهمة ، فلا خلاف في الحقيقة .

قال القشيري : من علوه تعالى أنه لا يصير بتكبير العباد له كبيرا ولا جليلا بإجلالهم وتعظيمهم له كثيرا ، بل من وفقه لإجلاله فبتوفيقه أجله ، ومن أيده بتكبيره وتعظيمه فقد رفع محله ، ومن حق من عرف عظمته أن لا يذل لخلقه ، بل يتواضع لهم لأجله ، فإن من تذلل لله في نفسه رفع الله قدره على أبناء جنسه ، وقيل : المؤمن ليس له الكبر وله العزة وله التواضع لا المذلة .

( الكبير ) : وضده الصغير ، يستعملان باعتبار مقادير الأجسام ، ولاعتبار الرتب ، وهو المراد هنا إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها من حيث إنه قديم أزلي غني على الإطلاق ، وما سواه حادث مفتقر إليه في الإيجاد والإمداد بالاتفاق ، وإما باعتبار أنه كبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول ، وعلى الوجهين ، فهو من أسماء التنزيه ، قيل في معنى ( الله أكبر ) أي : أكبر من أن يقال له أكبر ، أو أكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه ، وحظك منه أن تشهد كبرياءه دائما حتى تنسى كبرياء غيره ، وتجتهد في تكميل نفسك علما وعملا بحيث يتعدى كمالك إلى غيرك ، فيقتدي بآثارك ، ويقتبس من أنوارك ، وتقربك بهذا الاسم تعلقا أن تبالغ في التواضع ، وتخلقا أن تحترز من سوء الأدب بلزوم الخدمة وحفظ الحرمة ، ففي الصحيح : ( الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما قصمته ) . أي : أهلكته وكسرت عنقه ، واختصت العظمة بالإزار ، والكبرياء بالرداء ، لأن في الكبير من الفخامة فوق العظيم ، وإن كان كل منهما مختصا له تعالى لا شريك له فيه بوجه ما ، ومن ثم قصم المنازع في واحد منهما .

[ ص: 1574 ] ( الحفيظ ) : أي : البالغ في الحفظ يحفظ الموجودات من الزوال والاختلال مدة ما شاء من الأوقات ، ومنه قوله تعالى : ولا يئوده حفظهما أي : السماوات والأرض وما بينهما ، أو يحفظ على العباد أعمالهم وأقوالهم ، ومنه قوله تعالى : وما جعلناك عليهم حفيظا وحظك منه أن تحفظ جوارحك عن الأوزار ، وباطنك عن ملاحظة الأغيار ، وتكتفي في جميع أمورك بتدبيره ، وترضى بحسن قضائه وتقديره . قيل : من حفظ لله جوارحه حفظ الله عليه قلبه ، ومن حفظ لله قلبه حفظ عليه حظه . وحكي أنه وقع من بعض الصالحين بصره يوما على محظور فقال : إلهي إنما أريد بصري لأجلك ، فإذا صار سببا لمخالفة أمرك ، فاسلبنيه . فعمي ، وكان يصلي بالليل فاحتاج الماء للطهارة ولم يتمكن منه فقال : إلهي إنما قلت خذ بصري لأجلك ، ففي الليل أحتاجه لأجلك . فعاد إليه بصره .

( المقيت ) : بضم الميم وكسر القاف وسكون التحتية . أي : خالق الأقوات البدنية ، والأرزاق المعنوية ، وموصلها إلى الأشباح ومعطيها للأرواح ، من أقاته يقيته : إذا أعطاه قوته .

ومنه الحديث : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت ) . فهو من صفات الأفعال . وقيل : هو المقتدر بلغة قريش ، وقيل هو الشاهد المطلع على الشيء من أقات الشيء : إذا اطلع عليه ، فهو على الوجهين من صفات الذات ، وهما أنسب لقوله تعالى : وكان الله على كل شيء مقيتا وقال بعضهم : المقيت اسم جامع لمعنى الاقتدار على حكم الموازنة من حيث إحاطة العلم وإقامة الكفاف بالقوت المقدر للحاجة من غير نقص وزيادة ، وهو في غاية من الحسن ، وقول ابن حجر فيه ما فيه ولم يظهر ما فيه ، وحظك منه أنك إذا عرفت أنه المقيت نسيت ذكر القوت بذكره ، كما اتفق لسهل - رضي الله عنه - أنه سئل عن القوت ، فقال : هو الحي الذي لا يموت ، ولعله انتقل من السبب إلى المسبب ، فقيل له : إنما سألناك عن القوام فقال : القوام العلم ، فكأنه انتقل من قوام الأشباح إلى قوام الأرواح ، فإن كل إناء يترشح بما فيه ، فقيل له : إنما سألناك عن طعمة الجسد ، فقال : ما لك والجسد دع من تولاه أولا يتولاه آخرا ، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردت لصانعها لأنه العالم بإصلاحها ، فكأنه أشار إلى أننا نحن مأمورون بإصلاح الباطن مكفيون عن إصلاح الظاهر ، وإن كان الله هو المصلح على الإطلاق في الحقيقة ، وفيه إشارة إلى ما ورد : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) . وحينئذ فتقربك به تعلقا أن لا تطلب القوت والقوة إلا من مولاك . قال تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وتخلقا أن تعطي كل من تعلق بك ما يستحقه من القوت ، ففي الحديث " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " فيكون دأبك النفع والهداية ، وإطعام الجائع ، وإرشاد الغاوي .

قال القشيري : اختلفت الأقوات فمن عباده من يجعل قوت نفسه توفيق العبادات ، وقوت قلبه تحقيق المكاشفات ، وقوت روحه مداومة المشاهدات ، وملازمة المؤنسات ، خص كلا بما يليق به من الحالات والمقامات ، وإذا شغل الله عبدا بطاعته أقام له من يقوم بشغله وخدمته ، وإذا رجع إلى متابعة شهوته ، وكله إلى حوله وقوته ورفع عنه ظل عنايته وحمايته .

( الحسيب ) : أي : الكافي من الحسب بسكون السين ، وهو الاكتفاء أو الكفاية ، من أحسبني : إذا كفاني . قال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه وهو فعيل بمعنى مفعل بكسر العين كأليم بمعنى مؤلم وبديع بمعنى مبدع ، أي : المعطي لعباده كفايتهم ، أو الكافي لهم في أمورهم من قولهم : حسبي : يكفيني ، وهذا أتم مبنى وأعم معنى ، وقيل : إنه مأخوذ من الحسب بفتحتين بمعنى السؤدد والشرف ، والحسيب المطلق هو الله تعالى ، إذ لا يمكن أن تحصل الكفاية في جميع ما يحتاج الشيء في وجوده وبقائه ، وكماله الجسماني والروحاني بأحد سواه [ ص: 1575 ] فمرجعه إلى الفعل ولا أن يصل أحد إلى شرف وسؤدد بغير إرادة مولاه ، أو معناه أنه الشريف فمرجعه إلى الصفة ، وقيل : مأخوذ من الحسنات أي : هو المحاسب للخلائق يوم القيامة ، فعيل بمعنى : مفاعل كالجليس بمعنى : المجالس ، فمرجعه إلى الفعل أيضا إن جعلت المحاسبة عبارة عن المكافأة ، وإلى القول إن أريد بها السؤال والمعاتبة وتعداد ما عملوا من الحساب والسيئات ، وقيل : هو الذي يعد أنفاس الخلائق ، وبعضهم جمع بين المعنيين ، وقال : الحسيب من يعد عليك أنفاسك ويصرف عنك بفضله بأسك . وقيل : في معنى الحسيب ، إن كان الله معك فمن تخاف ، وإن كان عليك فمن ترجو ، ولذا قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . وقال : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .

قال القشيري : كفاية الله للعبد أن يكفيه جميع أحواله وأشغاله ، وأجل الكفايات أن يعطيه إرادة الشيء ، فإن سلامته عن إرادة الأشياء حتى لا يريد شيئا أتم من قضاء الحاجة وتحقيق المأمول ، ومن علم أن الله تعالى كافيه لا يستوحش من إعراض الخلق عنه ثقة بأن الذي قسم له لا يفوته وإن أعرضوا عنه ، والذي لم يقسم له لا يصل إليه وإن أقبلوا عليه ، ومن اكتفى بحسن تولية الله تعالى لأحواله ، فعن قريب يرضيه مولاه مما يختار له ، فعند ذلك يؤثر العدم على الوجود ، والفقر على الغنى ، ويستروح إلى عدم الأسباب . بمشاهدة تصرف المولى .

قيل : رجع فتح الموصلي ليلة إلى بيته فلم يجد فيه عشاء ولا سراجا فبالغ في الحمد والتضرع وقال : إلهي بأي سبب وبأي وسيلة واستحقاق عاملتني بما تعامل به أولياءك ؟ .

( الجليل ) : أي : المنعوت بنعوت الجلال ، والحاوي لجميعها على وجه الكمال ، بحيث لا يمكن أن يدانيه فضلا عن أن يساويه ، قالوا ومنهم الفخر الرازي : أنه راجع إلى كمال الصفات ، كما أن الكبير راجع إلى عظم الذات ، والعظيم إليهما ، لكن الأظهر أن الجليل هو الموصوف بصفات الجلال خاصة ، كالمنتقم والقهار وشديد العقاب ، ويدل عليه قوله تعالى : ذو الجلال والإكرام حيث قوبل بينهما ، فالكريم والعفو والغفور ، ونحوهما من صفات الجمال . والكمال لله تعالى هو الجمع بين صفتي الجمال والجلال . والكمال والكون كلها مظاهر للصفتين العظيمتين ، ومجال لمشاهدة النعتين الكريمين ، وبسط هذا المبحث يطول ، فيتعين عنه العدول ، ولذا نقول : وحظك منه أنك إذا تبين لك جلاله ظهر لك في العوالم كلها إجلاله ، فعظمت هيبتك منه ومحبتك له وأنسك به واحترامك لكتابه وأحبائه ، وحينئذ فتقربك به تعلقا أن لا تحب سواه ، ولا ترضي إلا إياه ، وتخلقا أن تخلي نفسك عن سفاسف الأمور والمحقرات ، لأنك أجل المخلوقات . قال ابن عطاء الله : جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته ، وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكنوناته .

قال القشيري : إن الله تعالى جعل تقلب قلوب العابدين بين شهود ثوابه وإفضاله ، وشهود عذابه وإنكاله ، فإذا فكروا في إفضاله ازدادوا رغبتهم ، وإذا فكروا في عذابه ونكاله ازدادوا رهبتهم ، وجعل تنزه أسرار العارفين في شهود جلاله وجماله إذا كوشفوا بنعت الجلال ، فأحوالهم طمس في طمس ، وإذا كوشفوا بوصف الجمال فأحوالهم أنس في أنس ، فكشف الجلال يوجب صحوا ، وكشف الجمال يوجب قربة ، فالعارفون كاشفهم بجلاله فغابوا ، والمحبوبون كاشفهم بجماله فتابوا ، والحقائق إذا اصطلمت القلوب لا تبقي ولا تذر ، والمعاني إذا استولت على الأسرار فلا عين ولا أثر .

( الكريم ) : أي : كثير الجود والعطاء الذي لا ينفد عطاؤه ولا تفنى خزائنه ، وهو الكريم المطلق .

وقيل : المتفضل بلا مسألة ولا وسيلة . وقيل : المتجاوز الذي لا يستقصي في العقاب ، ولا يستقصي في العتاب . وقيل : هو الذي إذا قدر عفا وإذا وعد وفى ، وإذا أعطى زاد على المتمنى ، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى ، وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى ، ويقول : وإن لنا للآخرة والأولى . وقيل : المقدس عن النقائص ، الموصوف [ ص: 1576 ] بالنفائس من قولهم : كرائم الأموال لنفائسها . وفي الحديث : ( إياكم وكرائم أموالكم ) وبهذا الاعتبار سمي شجر العنب كرما ، لأنه أطيب الثمرة ، قريب التناول سهل المأخذ بخلاف النخل . وحظ العبد منه أن يتخلق به ، فيعطي من غير موعدة ، ويعفو عن مقدرة ، ويتجنب عن الأخلاق المردية والأفعال المؤذية .

( الرقيب ) : أي : الحفيظ الذي يراقب الأشياء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، هو الذي يعلم أحوال العباد وأفعالهم ، ويحصي عدد أنفاسهم ، ويعلم آجالهم ، فمرجعه إلى صفة الذات ، وقد قال تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا ، وكان الله على كل شيء رقيبا وحظك منه أن تراقبه في كل حال ، ولا تلتفت إلى غيره في سؤال ، وتكون رقيبا خصوصا على من جعلك راعيا عليه ، فتكون مراعيا ومتوجها في أحواله إليه .

وفي الحديث ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) .

قال القشيري : المراقبة عند هذه الطائفة أن يصير الغالب على العبد ذكره لربه بقلبه ، مع علمه بأنه تعالى مطلع عليه ، فيرجع إليه تعالى في كل حال ، ويخاف سطوات عقوبته في كل نفس ، ويهابه في كل وقت ، فصاحب المراقبة يدع من المخالفات استحياء منه وهيبة له أكثر مما يترك من بدع المعاصي لخوف عقوبته ، وإن من راعى قلبه عد مع الله أنفاسه فلا يضيع مع الله نفسا ، ولا يخلو عن طاعته لحظة ، كيف وقد علم أن الله يحاسبه على كل ما قل وجل .

وحكي عن بعضهم أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي وأحسن إلي إلا أنه حاسبني حتى طالبني بيوم كنت صائما ، فلما كان وقت الإفطار أخذت حنطة من حانوت صديق لي ، فكسرتها فذكرتها أنها ليست لي ، فألقيتها على حنطته ، فأخذ من حسناتي مقدار أرش كسرها . ومن تحقق ذلك لم يزج في البطالات عمره ولم يمحق في الغفلات وقته . اهـ . وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون وفي الخبر : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ) .

( المجيب ) : هو الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويسعف المضطر إلى ما استدعاه وتمناه ، وحظ العبد منه أنه يجيب مولاه فيما أمره ونهاه لقوله تعالى : فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ثم يتلقى عباده بإسعاف سؤالهم وإلطاف جوابهم .

قال القشيري : في الخبر : ( إن الله يستحي أن يرد يدي عبده صفرا ) وأنه تعالى إذا علم من أحضر من أوليائه حاجتهم ببالهم يحقق لهم مرادهم قبل أن يذكروه بلسانهم ، وربما يضيق عليهم الحال ، حتى إذا يئسوا وظنوا أنه لا يجيبهم يتداركهم بحسن إيجاده وجميل إمداده . اهـ . ومنه قوله تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وفي هذا الاسم إيماء إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( سمع الله لمن حمده ) أي : أجابه ، وأحسن خطابه ، لكنه كما قال بعض العارفين : ضمن سبحانه لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك ، وفي الوقت الذي يريده لا في الوقت الذي تريده ، فحظك منه أن لا تسأل سواه ، وأن تطلب منه حتى ملح عجينك ، ومن دعاء الإمام أحمد : اللهم كما صنت وجهي عن سجود غيرك فصن وجهي عن مسألة غيرك .

وفي الحديث الصحيح : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ) لأنها حاصلة في كل حال إما في المعجل وإما في المآل ، ومن باب التخلق به قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو دعيت إلى كراع لأجبت ) وهو موضع بينه وبين المدينة نحو ثمانية أيام ، أو كراع الغنم لأجبت .

وقوله : ( من لم يجب الداعي فقد عصى أبا القاسم ) .

( الواسع ) : هو الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ، فهو وسيع الملك والملك ، ووسعت رحمته كل شيء فهو كثير الرحمة والعطاء ، لا يستغني أحد عن عطائه لا في مبدئه ولا في منتهاه ، وأحاط بكل شيء علما ، فهو العالم بالموجودات والمعلومات والكليات والجزئيات ، لا نهاية لبرهانه ، ولا غاية لسلطانه ، ولا حد لإحسانه ، وحظ العبد منه أن يسعى في سعة معارفه وأخلاقه ، ويكون جوادا بالطبع غني النفس لا يضيق قلبه بفقد الفائت ، ولا يهتم بتحصيل المآرب .

[ ص: 1577 ] قال القشيري : من الواجب على العبد أن يعلم أنه ليس كل إنعامه انتظام أسباب الدنيا ، والتمكن من تحصيل المنى ، والوصول إلى الهوى ، بل ألطاف الله فيمن يزوي عنهم الدنيا أكبر ، وإحسانه إليهم أوفر وإن قرب العبد من الرب على حسب تباعده من الدنيا .

وفي بعض الكتب : إن أهون ما أصنع بالعالم إذا مال في الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتي ولذة طاعاتي .

( الحكيم ) : أي : ذو الحكمة ، وهي كمال العلم وإتقان العمل ، أو فعيل بمعنى الفاعل فهو مبالغة الحاكم ، فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، أو بمعنى المفعل أي الذي يحكم الأشياء ويتقنها ومنه قوله تعالى : صنع الله الذي أتقن كل شيء ، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، فعليك أن تجتهد في التخلق به والتعلق بكتابه بأن تسعى في تكميل قواك النظرية بتحصيل المعارف الإلهية ، واستكمال القوة العملية بتخلية النفس عن الرذائل ، وتحليتها بالفضائل ، وتجليتها بتحسين الشمائل بما يوجب الزلفى إلى الدرجات العلى ، والقرب إلى المولى ، فإنه تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، والحكمة هي علم الكتاب والسنة ، لا علوم الفلاسفة .

قال القشيري : من حكمه تعالى على عباده تخصيصه قوما بحكم السعادة من غير استحقاق وسبب ، ولا جهد ولا طلب ، بل تعلق العلم القديم بإسعاده ، وسبق الحكم الأزلي بإيجاده ، وخص قوما بطرده وإبعاده ، ووضع قدره من بين عباده من غير جرم سلف ، ولا ذنب اقترف ، بل حقت الكلمة عليه بشقاوته ونفذت المشيئة بجحد قلبه وقساوته ، فالذي كان شقيا في حكمه أبرزه في نطاق أوليائه ، ثم بالغ في ذمه حيث قال : فمثله كمثل الكلب والذي كان سعيدا في حكمه خلقه في غير صورة الكلب ، ثم حشره في زمرة أوليائه ، وذكره في جملة أصفيائه فقال : رابعهم كلبهم . اهـ . وهو معنى قوله تعالى : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وورد أنه تعالى يدخل النار بلعم بن باعورا على صورة كلب أصحاب الكهف ، ويدخل الجنة كلبهم على صورة بلعم ، فلا تغتر بالظواهر ، فإن العبرة بالسرائر .

( الودود ) : مبالغة الواد من الود ، وهو الحب أي الذي يحب الخير لكل الخلائق ، وقيل المحب لأوليائه وهو الأظهر لقوله تعالى : والله يحب المحسنين ، إنه لا يحب الظالمين وحاصله يرجع إلى إرادة مخصوصة ، وقيل : فعول بمعنى مفعول ، فالله محبوب في قلوب مخلوقاته ، مطلوب لجميع مصنوعاته ، وفي الحقيقة كما في نظر أرباب الشهود ، أنه ليس في الكون لغيره وجود ، فهو الواد وهو الودود ، كما أنه الحامد والمحمود ، والشاهد والمشهود ، ليس في الدار غيره ديار ، وحظ العبد منه أن يريد للخلق ما يريد في حقه ويحسن إليهم حسب قدرته ووسعه ، ومنه قوله : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

قال القشيري : معنى الودود في وصفه أنه يود المؤمنين ويودونه قال تعالى : يحبهم ويحبونه ومعنى المحبة في صفة الحق لعباده : رحمته عليهم وإرادته للجميل لهم ومدحه لهم ، ومحبة العباد لله تعالى تكون بمعنى طاعتهم له وموافقتهم لأمره ، وتكون بمعنى تعظيمهم له وهيبتهم منه . اهـ . وقال تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي : فيما بينه وبينهم ، أو فيما بينهم وبين خلقه ، ولا مانع من الجمع ، وفي الأثر القدسي أنه تعالى يقول : إن أود الأود إلي من يعبدني لغير نوال ، لكن ليعطي الربوبية حقها .

( المجيد ) : هو مبالغة الماجد من المجد ، وهو سعة الكرم ، فهو الذي لا تدرك سعة كرمه ، ولا يتناهى توالي إحسانه ونعمه . قال القشيري : ومن أعظم ما أنعم الله على عباده حفظه عليهم توحيدهم ودينهم ، حتى لا [ ص: 1578 ] يزيغوا ولا يزولوا ، إذ لولا لطفه وإحسانه لغووا وضلوا ، ومن وجوه إحسانه إليهم الذي لا يخفى على أكثر الخلق حفظه عليهم قلوبهم ، وتصفيته لهم أوقاتهم ، فإن النعمة العظمى نعم القلوب ، كما أن المحنة الكبرى محن القلوب ، أو من المجد وهو نهاية الشرف ، فهو الذي له شرف الذات وحسن الصفات . وقيل : هو العظيم الرفيع القدير فهو فعيل بمعنى مفعل ، وحظ العبد منه أن يعامل الناس بالكرم وحسن الخلق ، فيكون فيما بينهم ماجدا ولخير ما عنده تعالى واجدا .

( الباعث ) : أي : باعث الرسل إلى الأمم بالأحكام والحكم ، أو الذي يبعث من في القبور للحشر والنشور ، وقيل : هو الذي يبعث الأرزاق إلى عبده ، ولو لم يكتسب من حيث لا يحتسب ، وقيل : هو باعث الهمم إلى الترقي في ساحات التوحيد والتنقي من ظلم صفات العبيد ، وحظ العبد منه أن يؤمن أولا بمعانيه ، ويكون مقبلا بشراشره لاستصلاح المعاد والاستعداد ليوم التناد ، والتخلق به إحياء النفوس الجاهلة بالتعليم والتذكير والتزهيد في الأمور العاجلة ، والترغيب في النعم الآجلة ، فيبدأ بنفسه ، ثم بمن هو أقرب منه منزلة ورتبة .

( الشهيد ) : مبالغة الشاهد من الشهود ، وهو الحضور ، ومعناه العليم بظاهر الأشياء ، وما يمكن مشاهدتها ، كما أن الخبير هو العالم ببواطن الأشياء ، وما لا يمكن الإحساس بها ، ومنه قوله تعالى : عالم الغيب والشهادة أو مبالغة الشاهد من الشهادة ، والمعنى يشهد على الخلائق يوم القيامة . مما علم وشاهد منهم ، ومنه قوله تعالى : وكفى بالله شهيدا .

قال القشيري : إن أهل المعرفة لم يطلبوا مع الله مؤنسا سواه ، بل رضوا به شهيدا لأحوالهم عليما بأمورهم وأفعالهم ، وكيف لا ، وهو يعلم السر وأخفى ويسمع النجوى ، ويكشف الضر والبلوى ويجزل الحسنى ، ويصرف الردى ( ولله الآخرة والأولى ) . قلت : ومنه قوله تعالى : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وحظك منه أن تراقبه حتى لا يراك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك ، وأن تكتفي بعلمه ومشاهدته عن أن ترفع حوائجك إلى غيره ، أو أن تميل إلى طلب الغير من بره وخيره ، وتخلقك أن تكون شاهدا بالحق مراعيا للصدق مقبول الشهادة من جملة ما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .

( الحق ) : هو الثابت الذي تحقق بتيقن وجوده ، ولا تحقق لغيره إلا من كرمه وجوده ، وضده الباطل الذي هو المعدوم أو الموجود الذي في مقابله بمنزلة الموهوم ، إذ الثابت مطلقا هو الله ، وسائر الموجودات من حيث إنها ممكنة في حد ذاتها ولا ثبوت لها من قبل نفسها ، بل الكل منه وإليه ، فكل شيء دونه باطل من حيث إنه لا حقيقة له من ذاته ، ولا في ذاته فضلا عن ثباته وصفاته ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه ، كل من عليها فان بتغليب ذوي العقول إيماء إلى أن غيرهم أولى بالأفول ، وهذا المعنى هو المراد بقول الشاعر فيما شهد له - صلى الله عليه وسلم - بأن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

.

أي : قابل للفناء والزوال ، بل في نظر أرباب الشهود دائما في مرتبة الاضمحلال ، وهذا المعنى هو المراد من قول شيخ مشايخنا أبي الحسن البكري : أستغفر الله مما سوى الله ، كما حررته وبسطته في شرح حزب الفتح ، ويدل على جلالة لبيد - رضي الله تعالى عنه - أنه لما أسلم لم يقل شعرا وقال : يكفيني القرآن ، فهو بهذا المعنى من صفات الذات ، وقيل : معناه المحق أي : المظهر للحق ، أو الموجد للشيء حسب ما تقتضيه الحكمة ، فهو من صفات الأفعال ، وحظك منه أنك إذا عرفت أنه الحق نسيت في حبه ذكر الخلق وتخلقك به أن تلزم الحق في سائر أقوالك وأفعالك وأحوالك .

[ ص: 1579 ] ( الوكيل ) : القائم بأمور عباده المتكفل بمصالح عباده ، وقيل : الموكول إليه تدبيرهم إقامة وكفاية ، فهو سبحانه الوكيل على كل شيء بحكم إقامته له ، وهو ينبئ عن أمرين ، أحدهما : عجز الخلق عن القيام بمجامع أمورهم كما ينبغي إذ الغالب أن العاقل لا يكل أمره إلى غيره إذا تعسر أو تعذر عليه مباشرته بنفسه ، وثانيهما : أنه تعالى عالم بحالهم قادر على ما يحتاجون إليه رحيم بهم ، فإن من لم يستجمع هذه الصفات لا يحسن توكيله ، وقد قال تعالى : وكفى بالله وكيلا ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، وتوكل على الحي الذي لا يموت وتوكل على العزيز الرحيم والتخلق به أن تقوم بأمور عباده ومطالبهم وتسعى في إسعاف مآربهم .

( القوي ) : القوة تطلق على معان مرتبة أقصاها القدرة التامة البالغة السابغة الواصلة إلى الكمال ، والله تعالى قوي بهذا المعنى ، ولا قوة لغيره إلا به ، وتوضيحه أن الإنسان أول ما يوجد في باطنه من إحساس العمل يسمى حولا ، ثم ما يحس به في الأعضاء من إطاقتها له يسمى قوة ، ثم ما يظهر عليه من العمل بصورة البطش والتناول يسمى قدرة ، ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله كنزا من كنوز الجنة ، لأنها تدل على رجوع الأمور كلها إليه تعالى . قال ابن حجر : لأنك إذا نفيت عن غيره المرتبتين الأوليين فأولى أن تنفي عنه الثالثة ، وفيه نظر لأن الثالثة وهي القدرة لما كانت ظاهرة النفي عن غيره ما احتاج في النفي إلى ذكره ، لأن أحدا من السفهاء ، فضلا عن العلماء لم يتوهم أن لنفسه قدرة بخلاف الحول والقوة حيث قد ينشأ عن الجهل والغفلة نسبتهما إلى أنفسهم ، كما زعمت المعتزلة فدفع وهمهم وأبطل فهمهم ، ولما كانت المرجئة وقعوا في التعطيل ، وبمطلق التنزيه ضد وقوع المعتزلة في التشبيه أثبت لهم بقوله ( إلا بالله ) لتكون الحجة لله ، وهو مرتبة الجمع المستفاد من قوله تعالى : وما رميت إذ رميت كما يومئ إليه قوله عز وجل : إياك نعبد وإياك نستعين فتقربك منه تعلقا أن تسقط التدبير وتترك منازعة التقدير ، فإنه لا يقبل التغيير ، ولا تحوم حول الدعوى ، ولا تبالي من هموم الدنيا ، وتخلقا أن تكون قويا في ذات الله تعالى حتى لا تخاف في سبيل الله لومة لائم .

( المتين ) : من المتانة والشدة ، ومرجع هذين إلى الوصف بكمال القدرة وشدة القوة ، فالله تعالى من حيث إنه بالغ القدرة ودائمها قوي ، ومن حيث إنه شديد القوة متين ، وقيل : المتين من المتانة ، وهي استحكام الشيء بحيث لا يتأثر أي : هو الذي يؤثر ولا يتأثر ، والغالب الذي لا يغالب ولا يغلب ولا يحتاج في قوته إلى مادة وسبب ، كما قال تعالى : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وهو تعالى إن أراد إهلاك عبد أهلكه بيده إما ذبحا وخنقا ، وإما حرقا وغرقا ، ولهذا قال الأستاذ أبو علي الدقاق : خف من لا يحتاج إلى عون عليك ، بل لو شاء إتلافك أخرجك عن نفسك حتى يكون هلاكك على يديك وأنشد :

إلى حتفي أرى قدمي أراق دمي .

    وحظك منه أن تكون معتمدا عليه ومستندا إليه .



( الولي ) : أي : المحب لأوليائه الناصر لهم على أعدائهم من أنفسهم وأهويتهم وما يدعوهم إلى غير لقائه . قال تعالى : والله ولي المتقين ، وهو الولي الحميد . وقيل : معناه المتولي لأمور جميع خليقته يفعل فيهم ما يشاء بحكمته ويحكم ما يريد بعزته ، أو لأمور عباده من عباده المختصين باجتبائه وإسعاده ، لقوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . وحظك منه أنك إذا عرفت أنه ولي المؤمنين لم تتول غيره وغير من يحبه لقوله تعالى : ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [ ص: 1580 ] فتحقق بدرجة الولاية الخاصة المشار إليها بقوله عز وجل : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ومن كلام القشيري : من أمارات ولايته تعالى لعبده أن يديم توفيقه ، حتى لو أراد سوءا أو قصد محظورا عصمه عن ارتكابه ، ولو جنح إلى تقصير في طاعته أبى إلا توفيقا له وتأييدا . وهذا من أمارات السعادة ، وعكس هذا من أمارات الشقاوة ، ومن أمارات ولايته أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه ، فإن الله ينظر إلى قلوب أوليائه في كل وقت ، فإذا رأى في قلوبهم لعبد محلا ينظر إليه باللطف ، وإذا رأى همة ولي من أوليائه لشأن عبد ، أو سمع دعاء ولي في شأن شخص يأبى إلا الفضل والإحسان إليه أجرى بذلك سنته الكريمة .

وسمعت الشيخ أبا علي الدقاق - رحمه الله - يقول : لو أن وليا من أولياء الله مر ببلدة لنال بركة مروره أهل تلك البلدة ، حتى يغفر الله لهم ، ومن خصوصيات الولاية أن أهلها منزهون عن الذل . قال تعالى : ولم يكن له ولي من الذل فأولياء الله تعالى دائما مستغرقون في عز مولاهم في دنياهم وأخراهم ، رضي الله عنهم وجعلنا منهم بمنه وكرمه .

( الحميد ) : أي : المحمود المستحق للثناء ، فإنه الموصوف بكل كمال والمولي لكل نوال ، المشكور بكل فعال فهو المحمود المطلق . قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ببيان المقال أو بلسان الحال ، وقيل : حمد الله عز وجل نفسه بالثناء الذي يليق به أزلا ، ويحمده عباده بما ألهمهم به أبدا ، فهو المستحق للحمد سرمدا ، بل في الحقيقة هو الحامد وهو المحمود ، كما يدل عليه صيغة الفعيل المحتمل أن يكون بمعنى الفاعل والمفعول ، ولذا قال أحمد الحامدين : ( سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) . وحظك منه ما قال صاحب الحكم : المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا ، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحقوقه ذاكرا ، فتقربك به تعلقا كثرة حمدك له في جميع الأحوال ، وتخلقا بأن تجتهد في التحلي بمحامد الصفات والأفعال .

قال القشيري : حمد العبد لله تعالى الذي هو شكره ينبغي أن يكون على شهود المنعم ، لأن حقيقة الشكر هي الغيبة بشهود المنعم عن شهود النعمة . وقيل : إن داود - عليه الصلاة والسلام - قال في مناجاته : إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ، فأوحى الله إليه إنك الآن قد شكرتني ، ومن هنا قيل : العجز عن الشكر شكر ، كما قيل : العجز عن درك الإدراك إدراك ، ثم كم من عبد يتوهم أنه في نعمة يجب عليه شكرها ، وهو على الحقيقة في محنة يجب عليه الصبر عنها ، فإن حقيقة النعمة ما يوصلك إلى المنعم لا ما يشغلك عنه ، فالنعم لا تكون إلا دينية ، نعم إذا كان معها راحات دنيوية فهو نور على نور وسرور على سرور ، ومنه دعاء السيد الشاذلي : اللهم يسر أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا ، ثم إن وجد التوفيق للشكر بصرف النعمة فيما خلقت له فيها ونعمت ، وإلا انقلبت المنحة محنة ، ولذا فسر البلاء بالنعمة والنقمة في قوله تعالى : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وقال عز وجل : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا فهو كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين .

( المحصي ) : أي : العالم الذي يحصي المعلومات ويحيط بالموجودات إحاطة العاد بما يعده ، والضابط بما يضبطه إجمالا وتفصيلا ، والعبد وإن أمكنه إحصاء بعض الممكنات والوصول إلى بعض المعدودات ، لكنه يعجز عن إحصاء أكثرها وضبط غالبها ، فجهله أكثر من علمه ، ولذا قال تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فينبغي له أن يحصي ما قدر عليه من أعمال نفسه قبل أن يحصى ، ويتلافى مقابح أعماله قبل أن يستقصى ، وقيل : معناه القادر الذي لا يشذ عنه شيء من المقدورات ، فمرجعه إلى صفة العلم أو القدرة وحظك منه أن لا يقع منك غفلة في سكون وحركة ولحظة ولمحة . وتقربك منه تعلقا أن تحاسب نفسك في جميع أنفاسك بأن لا يوجد فيها [ ص: 1581 ] نفس إلا في طاعة ، لما ورد : إنه ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها ، ولما قيل : الدنيا ساعة فاجعلها طاعة . وتخلقا أن تتكلف عد النعم التي أوصلها إليك لتعرف عجزك عن شكر ما عليك . قال تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي : لا تطيقوا عدها فضلا عن شكرها . روى بعضهم أنه يعد تسبيحا له فقيل له : أتعد عليه ؟ قال : لا ، ولكن أعد له ، فيجب أن يراعي أيامه ، ويعد آثامه ، فيشكر جميل ما يوليه ، ويتعذر عن قبح ما يأتيه ، ويذكر الأيام الخالية عن الطاعات ، ويتأسف على الأزمنة الماضية في الغفلات . وقد قيل : لا أنفس من الوقت إذ ما من نفيس غيره إلا ويمكن تعويضه بخلافه ، ومن المشهور قولهم : الوقت سيف قاطع ، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، إن لم تقطعه بالعبادة قطعك بالبطالة ، وقولهم : الصوفي ابن الوقت وأبو الوقت ، والفرق بينهما دقيق ، وبغير هذا المحل حقيق .

( المبدئ ) : بالهمز ويجوز إبداله وقفا ، وهو المظهر للكائنات من العدم إلى الوجود من باب الكرم والجود ، فهو بمعنى الخالق ، أو هو المنشئ للأشياء ومخترعها من غير مثال سبق ، وهو الأنسب بمقابلة قوله : ( المعيد ) : أي الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا ، وبعد الممات إلى الحياة في الأخرى . وقال الطيبي : هو المعيد للمحدثات بعد انعدام جواهرها وأعراضها ، خلافا لمن قال : الإعادة خلق مثله لا إعادة عينه ، وذلك إذا كان مقدورا قبل أن خلقه ، فإذا عدم بعد وجوده أعاده إلى ما كان قبله عليه ، ويجوز أن تكون الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة من المكلفين ، فإذا بعث الخلق وحشرهم فقد أعادهم . اهـ .

واختلف في كيفية الإعادة فذهبت طائفة من الكرامية إلى أن الجواهر لا تنعدم بل تتفرق ، ثم يجمعها الله سبحانه ويؤلفها على المنهاج الأول ، والحق أنها تنعدم إلا بعضا منصوصا عليه ، ثم تعاد بعينها لظاهر قوله - عليه الصلاة والسلام - : " كل ابن آدم يفنى إلا عجب الذنب " . والمسألة ظنية كما صرح به الغزالي . قال ابن الهمام : والحق إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق . اهـ .

والظاهر أن هذا في حق غير الأنبياء ، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، وكذا الشهداء فإنهم أحياء فالإعادة بالنسبة إليهم إعادة أرواحهم إلى أشباحهم ، ثم قيل : إنهما اسم واحد لأن معنى الأول يتم بالثاني ومرجعهما إلى صفات الأفعال . اهـ . والمعنى أن بينهما تعليقا لا يقبل الانفكاك نظير ما تقدم من الأسماء ، كالخافض والرافع ، وكذا المعز والمذل ، والقابض والباسط ، وشبيه ما سيأتي من الصفات المتقابلة كالمحيي والمميت ، والمقدم والمؤخر ، فلا يرد أن قوله : هما اسم واحد ينافي النص ، وحظك منهما أنك إذا شهدت أنه المبدئ المعيد رجعت في كل شيء إليه أولا وثانيا ، لأن كل شيء منه بدأ وإليه يعود ، وهو المقصود من ظهور كل موجود :

ففي كل شيء له شاهد يدل على أنه واحد .

وتقربك بهما تعلقا بالتوجه إليه في كل مرمى ، والتعوذ به من كل مهوى ، وتخلقا أن تعود بالنظر إلى البداية ، وترد النفس منها إلى الهداية ولذا قيل : النهاية هي الرجوع إلى البداية .

( المحيي المميت ) : هما يرجعان إلى صفة الأفعال . قال تعالى : خلق الموت والحياة ومنه قوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها ، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وقرأ عليه - الصلاة والسلام - هذه الآية عند رؤية عكرمة بن أبي جهل عند تشرفه بالإسلام إشارة إلى أنه تعالى هو الذي يحيي القلوب بالإيمان والإسلام ، والعلوم والمعارف ، كما أنه يميتها بالجهالة والضلالة ، واللهو والمعازف ، ومنه قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت " ومن كلامهم : هو من أحيا قلوب العارفين بأنوار معرفته ، وأرواحهم بألطاف مشاهدته ، وأمات القلوب بالغفلة ، والنفوس بالشهوة فهو تعالى خالق الحياة ومديمها ، ومقدر الموت الذي هو عديمها ، ومن المجاز في هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه البعث والنشور " .

[ ص: 1582 ] قال الطيبي : الإحياء خلق الحياة في الجسم ، والإماتة إزالتها عنه . فإن قلت : الموت عدم الحياة ، والعدم لا يكون بالفاعل . قلت : العدم الأصلي كذلك فأما العدم المتجدد فهو بالفاعل ، ولكن الفاعل لا يفعل الهدم ، وإنما يفعل ما يستلزمه . قال تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم أسند الموت الثاني إلى فعله دون الموت الأول المراد به العدم الأصلي ، وحظك منهما أن لا تهتم بحياة ولا موت ، بل تكون مفوضا مستسلما لأمره وقضائه وقدره قائلا ما ورد من قوله - عليه الصلاة والسلام - : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر " قال القشيري رحمه الله : من أقبل عليه الحق أحياه ، ومن أعرض عنه أماته وأفناه ، ومن قربه أحياه ومن غيبه أماته وأفناه ، ثم أنشد :


أموت إذا ذكرتك ثم أحيا     فكم أحيا عليك وكم أموت

.

( " الحي ) : أي ذو الحياة الأزلية والأبدية ، وهو الفعال الدراك . قال الطيبي : ذهب أكثر أصحابنا والمعتزلة إلى أنها صفة حقيقية قائمة بذاتها لأجلها صح لذاته أن يعلم ويقدر ، وذهب آخرون إلى أن معناها أنه لا يمتنع منه أن يعلم ويقدر هذا في حقه تعالى ، وأما في حقنا فعبارة عن اعتدال المزاج المخصوص بجنس الحيوان . وقيل : هي القوة التابعة له المعدة لقبول الحس والحركة الإرادية ، وحظ العبد منه أن يصير حيا بالله حتى لا يموت لأن أولياء الله لا يموتون ، ولكن ينتقلون من دار إلى دار ، كما قال تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم الآية .

قال القشيري : وإذا علم العبد أنه تعالى حي لا يموت وعالم وقدير صحح توكله عليه ، ولذا قال تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت لأن من اعتمد على مخلوق واتكل عليه ليوم حاجته احتمل وفاته وقت حاجته إليه ، فيضيع رجاؤه وأمله لديه ، وحينئذ فتقربك به تعلقا أن تكون بين يديه كالميت بين يدي الغاسل ، وتخلقا أن تحيي القلوب بأنوار معرفتك ، والأرواح بأسرار مشاهدتك .

( القيوم ) : أي : القائم بنفسه المقيم لغيره ، فهو على العموم والإطلاق لا يصح إلا لله تعالى ، فإن قوامه بذاته لا يتوقف بوجه ما على غيره ، وقوام كل شيء به إذ لا يتصور للأشياء وجود ودوام إلا بوجوده تعالى ، وللعبد فيه مدخل بقدر استغنائه عما سوى الله وإمداده للناس ، وكان مفهومه مركبا من نعوت الجلال وصفات الأفعال .

قال القشيري : من عرف أنه القيوم استراح عن كد التدبير وتعب الأشغال ، وعاش براحة التفويض ، فلم يضن بشيء بتكريمه ، ولم يجعل في قلبه للدنيا كثرة قيمة ، وهو ( فيعول ) للمبالغة كالديوم . قال السهروردي : قيوم لا يعتريه الزيادة والنقصان والتغير فالزيادة لقصور عن الغاية ، والنقصان لتخلف عن النهاية ، وهو خالق الغايات والنهايات .

( الواجد ) : بالجيم أي : الذي يجد كل ما يريده ويطلبه ولا يفوته شيء ، وقيل : معناه الغني مأخوذ من الوجد . قال تعالي : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم كما ذكره الطيبي ، وظاهره أن المعنى الثاني أعم من الأول ، وأما قول ابن حجر : وهذا مرادف للمعنى الأول لا مغاير له خلافا لما يوهمه كلام الشارح - فوهم منه وسهو عنه . قال القشيري : الوجد عند القوم ما يصادفونه من الأحوال من غير تكلف ولا تطلب . قال الثوري : الوجد لهيب ينشأ في الأسرار وينسلخ عن الشوق فتضطرب الجوارح طربا أو حزنا عند ذلك الوارد ، وقيل : الوجد وجود نسيم الحبيب كقوله تعالى : إني لأجد ريح يوسف قلت : وكما هو المشهور على ألسنة الصوفية ، وإن لم أره في الكتب الحديثية ، وإني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ، والله أعلم .

[ ص: 1583 ] ( الماجد ) : من المجد وهو سعة الكرم ونهاية الشرف ، قال ابن حجر : هو بمعنى المجيد إلا أن في المجيد مبالغة ليست في هذا من المجد . اهـ . وفيه من الإيهام ما لا يخفى ، والتحقيق أن صفاته في غاية من الكمال ، سواء تكون بصيغة المبالغة كمجيد وعليم أو لا ، كماجد وعالم . نعم ما ذكر إنما هو باعتبار المبنى لا من حيثية أصل المعنى ، بقي أن ظاهره التكرار ، والمحققون لا يرضون بذلك ، والذي خطر ببالي أن نكتة إعادته أنه مقابل للاسم الذي قبله ، ولذا ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل متشبثا بأستار الكعبة قائلا : " يا واجد يا ماجد لا تزل عني نعمة أنعمت بها علي " .

( الواحد ) : وفي نسخة بزيادة الأحد بعده . قال الطيبي في جامع الأصول : لفظ الأحد بعد الواحد ، ولم يوجد في جامع الترمذي ، والدعوات للبيهقي ، ولا في شرح السنة ، ومعنى الواحد أنه لا يتجزأ في ذاته ولا نظير له في صفاته ، وليس له شريك في فعاله . اهـ . وقال بعض شراح المصابيح : الواحد المتفرد بالذات لا شريك له ، والأحد المتفرد بالصفات لا يشاركه أحد في صفاته ، وقيل : الوحدة تطلق ويراد بها عدم التجزئة والانقسام ، ويكثر إطلاق الواحد بهذا المعنى ، وقد يطلق بإزاء التعدد والكثرة ، ويكثر إطلاق الأحد بهذا المعنى ، والله سبحانه وتعالى من حيث إنه متعال عن أن يكون له مثل فيتطرق إلى ذاته التعدد والاشتراك أحد ، ومن حيث إنه منزه عن التركيب والمقادير لا يقبل التجزئة والانقسام واحد ، وهذا القول أظهر والله أعلم .

قال الطيبي : الواحد الأحد مأخوذ من الوحدة ، فإن أصل أحد واحد بفتحتين فأبدلت الواو همزة والفرق بينهما من حيث اللفظ من وجوه ، الأول : أن أحدا لا يستعمل في الإثبات على غير الله ، فيقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، كما يقال : زيد واحد ، وكأنه بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، والثاني : أن نفيه يعم ، ونفي الواحد قد لا يعم ، ولذا صح أن يقال : ليس في الدار واحد بل فيها اثنان ، ولا يصح ذلك في أحد . والثالث : أن الواحد يفتح به العدد فيقال : واحد اثنان الخ . ولا كذلك أحد ، فلا يقال أحد اثنين . والرابع : أن الواحد يلحقه التاء بخلاف الأحد .

والفرق بينهما من حيث المعنى أيضا من وجوه ، الأول : أن أحدا من حيث البناء أبلغ من واحد ، لأنه من الصفات المشبهة التي بنيت بمعنى الثبات . الثاني : أن الوحدة تطلق ويراد بها عدم التجزئة تارة ويراد بها عدم التثني والنظير أخرى ، كوحدة الشمس ، والواحد يكثر إطلاقه بالمعنى الأول ، والأحد يغلب استعماله في المعنى الثاني ، ولذا يجمع أحد .

قال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد أنه جمع أحد ؟ فقال : معاذ الله ليس للأحد جمع ، ولا يبعد أن يقال : أنه جمع واحد كالأشهاد في جمع شاهد ، ولا يفتح به العدد ، وإليه أشار من قال : الواحد للوصل ، والأحد للفصل ، فمن الواحد وصل إلى عباده ما وصل من النعم ، ومن الأحد فصل عنهم ما فصل من النقم . قلت : ولعل هذا وجه الاكتفاء به في هذا المقام ، لأن فصل النقم يندرج في وصل النعم . والثالث : ما ذكره بعض المتكلمين ، وهو أن الواحد باعتبار الذات ، والأحد باعتبار الصفات ، يعني باعتبار أنه لا نظير له ، ولا شبيه في صفاته ، ويمكن أن يكون هذا سبب عدم ذكره ، لأنه بظاهره ينافي تعدد الأسماء ، وغلب عليه الواحد باعتبار المعنى للاكتفاء ، وحظ العبد أن يغوص لجة التوحيد ، ويستغرق في بحر التفريد ، حتى لا يرى من الأزل إلى الأبد غير الواحد الأحد .

قال القشيري : التوحيد ثلاثة : توحيد الحق تعالى نفسه ، وهو علمه بأنه واحد وكذا إخباره . قلت : كقوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو وتوحيد الحق للعبد ، وهو إعطاؤه التوحيد له والتوفيق به ، قلت : وإليه الإشارة بقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وتوحيد العبد للحق ، وهو أن لا يشرك به شيئا . قلت : وإليه الإشارة بقوله تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو .

[ ص: 1584 ] وقال الجنيدي : التوحيد إفراد القدم من الحدث ، وقيل : التوحيد إسقاط الإضافات بنور الخلق لظهور الحق ، وحظك منه أن تفرد قلبك له لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله وتر يحب الوتر " . قيل : الوتر هنا القلب المنفرد له تعالى ، قال الشاعر :

إذا كان من تهواه في الحسن واحدا     فكن واحدا في الحب إن كنت تهواه

.

( الصمد ) : أي : السيد الذي انتهى إليه السؤدد ، وقيل : الذي لا جوف له ، فهو الذي يطعم ولا يطعم ، وقيل : هو المنزه عن أن يعرض له حاجة أو يعتريه آفة ، وقيل : الباقي الذي لا يزول ، وقيل : الدائم ، وقيل غير ذلك ، وقيل الذي يصمد إليه في الرغائب ويقصد إليه في النوائب ، وهو المعتمد . ومن كان يقصده الناس فيما يعن لهم من مهام دينهم ودنياهم ، فله حظ من الوصف ، ومن رسخ في التوحيد وصار متصلبا في الدين لا يتزلزل بتقادم الشبهات وتعاقب البليات ، فقد حظي منه .

قال القشيري رحمه الله : من حق من عرفه بهذا الوصف أن يعرف نفسه بالفناء والزوال وشد الارتحال ويلاحظ الكون بعين الفناء والانتقال فيزهد في حطامها ، ولا يرغب في حلالها ، فضلا عن حرامها . ومن حق من يعرف‌‌‌ أنه يطعم ولا يطعم أن يوجه رغباته عند مآربه إليه ، ويصدق توكله في جميع حالاته . فلا يهتم في رزقه ، وكما أنه لم يستعن بأحد من خلقه كذلك لا يشاركه في رزقه ، وإذا عرف أنه يصمد إليه في الحوائج شكا إليه حاجته وفاقته ورفع إليه ، وتعلق بجميل تصرفه وتقرب بصنوف توسله .

( القادر ، المقتدر ) : معناهما ذو القدرة ، إلا أن المقتدر أبلغ لما في البناء من معنى التكلف والاكتساب ، فإن ذلك وإن امتنع في حقه تعالى حقيقة ، لكنه يفيد المعنى مبالغة ، فمن قال باستواء الاسمين في المعنى المراد حق ، لأن المراد بها البالغ في القدرة . وأما قول ابن حجر : زعم استواء الاسمين في المعنى المراد بعيد ، فبعيد لأن الكلام في المعنى ، والاختلاف في المبنى ، مع أنه ذكر بنفسه أن معنى التكلفة والاكتساب مستحيل في حقه تعالى ، فبين كلاميه مناقضة ظاهرة ، وقيل : المراد من وصفه تعالى بهما : نفي العجز عنه فيما يشاء ويريد ، ومحال أن يوصف بالقدرة المطلقة غير الله تعالى وإن أطلق عليه لفظا . قال الطيبي : ومن حقهما أن لا يوصف بهما مطلقا غير الله ، فإنه القادر بالذات ، والمقتدر على جميع الممكنات ، وما عداه فإنما يقدر بإقداره على بعض الأشياء في بعض الأحوال فحقيق به أن لا يقال له أنه قادر إلا مقيدا ، أو على قصد التقييد .

( المقدم ، المؤخر ) : معناهما هو الذي يقرب ويبعد ، ومن قربه فقد قدمه ، ومن أبعده فقد أخره ، وقيل : هو الذي يقدم الأشياء بعضها على بعض ، إما بالذات كتقدم البسائط على المركبات ، وإما بالوجود كتقديم الأسباب على المسببات ، أو بالشرف والقربة كتقدم الأنبياء والصالحين على من عداهم ، أو بالمكان كتقدم الأجسام العلوية على السفلية ، أو بالزمان كتقدم الأطوار والقرون بعضها على بعض . ومن كلام بعض العارفين : المقدم من قدم الأبرار بفنون المبار ، والمؤخر من أخر الفجرة وشغلهم بالأغيار ، وحظ العبد منه أن يهم بأمره فيقدم الأهم فالأهم ، وأن يكون بين الخوف والرجاء .

( الأول ) : أي : الذي لا بداية لأوليته . ( الآخر ) : أي : الباقي بعد فناء خليقته ، ولا نهاية لآخريته ، فمنه الأمر بدأ وإليه يعود ، وهو المقصود في مراتب الوجود .

( الظاهر ، الباطن ) : أي : الذي ظهر ظاهر وجوده بالآيات الباهرة ، واحتجب كنه ذاته عن العقول الماهرة ، وقيل : الظاهر الذي ظهرت شواهد وجوده بخلق السماوات والأرض وما بينهما ، وقيل : هو الذي ظهر فوق كل شيء وعلا عليه ، وقيل : هو الذي عرف بطريق الاستدلال العقلي بما ظهر من آثار أفعاله وأوصافه . والباطن : هو المحتجب عن بصر الخلق ونظر العقل بحجب كبريائه ، فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم ، وقيل : هو العالم بما بطن يقال : بطنت الأمر : إذا عرفت باطنه ، وقيل : الظاهر بنعمته الباطن برحمته ، وقيل : الظاهر لقوم فلذلك وحدوه ، والباطن عن قوم فلذلك جحدوه ، وقيل : الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء ، والظاهر بالقدرة والباطن عن الفكرة وقيل الأول بلا مطلع والآخر بلا مقطع والظاهر بلا اقتراب والباطن بلا احتجاب ، ولعل الإتيان بها في الآية بالواو العاطفة إشارة إلى المرتبة الجمعية ، وإشعار برفع وهم التناقضية ، ولذا قال بعضهم : إنما خفي تعالى مع ظهوره لشدة ظهوره ، فظهوره سبب لبطونه ، ونوره حجاب نوره ، وكل ما جاوز عن حده انعكس على ضده ، وفي الحكم أظهر وجود كل شيء لأنه الباطن ، وطوى وجود كل شيء إلا أنه الظاهر .

[ ص: 1585 ] ( الوالي ) : أي الذي تولى الأمور وحكمها بالأحزان والسرور .

( المتعالي ) : بمعنى العلي بنوع من المبالغة ، وقيل : البالغ في العلو ، والمرتفع عن النقائص .

( البر ) : أي المحسن البالغ في البر والإحسان . قال القشيري ، رحمه الله : من كان الله تعالى بارا به عصم عن المخالفة نفسه ، وأدام بفنون اللطائف أنسه ، وطيب فؤاده ، وحصل مراده وجعل التقوى زاده ، وأغناه عن إشكاله بإفضاله ، وحماه عن مخالفته بيمن إقباله ، فهو ملك لا يستظهر بجيش وعدد ، وغني لا يتمول بمال وعدد ، وفي الحكم : متى أعطاك أشهدك بره ، ومتى منعك أشهدك قهره ، فهو في كل ذلك يتعرف إليك ، ويقبل بوجود لطفه عليك .

( التواب ) : أي : الذي يرجع بالإنعام على كل مذنب رجع إلى التزام الطاعة ، بقبول توبته من التوب وهو الرجوع . وقيل : هو الذي ييسر للمذنبين أساس التوبة ، ويوفقهم لها ، فسمي المسبب للشيء باسم المباشر له . وقيل : الذي يقبل توبة عباده مرة بعد أخرى ، ومن حظ العبد منه أن يكون واثقا بقبول التوبة ، غير آيس من زوال الرحمة ، ويصفح عن المجرمين ، ويقبل عذر المتعذرين . قال القشيري : توبة الله على العبد توفيقه للتوبة ، فإذن ابتداء التوبة وأصلها من الله ، وكذلك إتمامها على الله تعالى ، ونظامها بالله نظامها في الحال ، وتمامها في المآل . ولولا أن الله يتوب على العبد متى كان للعبد توبة . قال تعالى : ثم تاب عليهم ليتوبوا .

( المنتقم ) : أي : المعاقب للعصاة على مكروهات أفعالهم ، افتعال من نقم الشيء : إذا كرهه غاية الكراهة وهو لا يحمد من العبد إلا إذا كان انتقامه لله ، ومن أعداء الله ، وأحق أعداء بالانتقام نفسه ، فينتقم منها مهما قارفت معصية أو تركت طاعة ، بأن يكلفها خلاف ما حملها عليه .

( العفو ) : فعول من العفو ، وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي ، وهو أبلغ من الغفور لأن الغفران ينبئ عن الستر ، والعفو ينبئ ، عن المحو ، وأصل العفو القصد لتناول الشيء ، سمي به المحو لأنه قصد لإزالة الممحو . قال القشيري : من عرف أنه تعالى عفو طلب عفوه ، ومن طلب عفوه تجاوز عن خلقه ، فإن الله تعالى بذلك أدبهم وإليه ندبهم بقوله : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم .

( الرءوف ) : أي : ذو الرأفة ، وهي شدة الرحمة ، وهو أبلغ من الرحيم بمرتبة ، ومن الراحم بمرتبتين ، كذا ذكره الطيبي . وصحف ابن حجر الراحم بالرحمن ، واعترض عليه بقوله : وهو عجيب من الشارح ، لأنه إنما يأتي على أن الرحيم أبلغ من الرحمن ، وهو قول ليس بمشهور . حكي أن إنسانا تجنب عن الصلاة على جار له مات لكونه كان شريرا ، فرئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي وقال : قل لفلان : ( لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ) .

( مالك الملك ) : هو الذي ينفذ مشيئته في ملكه ، ويجري الأمور فيه على ما يشاء إيجادا وإعداما وإبقاء وفناء ، لا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه . قال الشاذلي : قف بباب واحد ليفتح لك الأبواب ، واخضع لملك واحد ليخضع لك الرقاب ، قال تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه .

( ذو الجلال والإكرام ) : قيل : هو الذي لا شرف ولا كمال إلا وهو له ، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي منه ، فالجلال في ذاته ، والإكرام منه فائض على مخلوقاته . وفي الحديث : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " . قيل : لأنه الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .

( المقسط ) : يقال : قسط : إذا جار ، ومنه قوله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأقسط : إذا عدل وأزال الجور ، فهو الذي ينتصف للمظلومين من الظالمين ، ويدفع بأس الظلمة عن المستضعفين ، ومنه قوله تعالى : إن الله يحب المقسطين وأما قوله تعالى : وأقيموا الوزن بالقسط أي : بالعدل ، فهو اسم مصدر لأقسط لا مصدر لقسط لتضاد معنيهما .

[ ص: 1586 ] ( الجامع ) : أي : الذي جمع بين أشتات الحقائق المختلفة والمتضادة متجاورة ومتمازجة في الأنفس والآفاق . وقيل : الجامع لأوصاف الحمد والثناء ، وأقول : هو كما قال : جامع الناس ليوم لا ريب فيه فمن جمع بين العلم والعمل ، ووافق الكمالات النفسانية بالآداب الجسمانية فله حظ من ذلك . وقال القشيري : وقد يجمع اليوم قلوب أوليائه إلى شهود تقديره ، حتى يتخلص من أسباب التفرقة فيطيب عيشه ، إذ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله ، فلا يرى الوسائط ، ولا ينظر إلى الحادثات بعين التقدير فإن كان نعم علم أن الله هو المعطي لها ومنيحها ، وإن كان شدة علم أن الله هو الكاشف لها ومزيحها .

( الغني ) : أي : المستغني بذاته وصفاته عن كل شيء في كل شيء قال تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد .

( المغني ) : أي الذي يغني من يشاء من عباده بما شاء ، وقيل : هو الذي أغنى خواص عباده عما سواه ، بأن لم يبق لهم حاجة إلا إليه . قال القشيري : إن الله يغني عباده بعضهم عن بعض على الحقيقة ، لأن الحوائج لا تكون إلا إلى الله ، فمن أشار إلى الله ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله ابتلاه الله الحاجة إلى الخلق ، ثم ينزع الرحمة من قلوبهم ، ومن شهد محل افتقاره إلى الله ، فرجع إليه بحسن العرفان ، أغناه الله من حيث لا يحتسب ، وأعطاه من حيث لا يرتقب ، وإغناء الله العباد على قسمين : فمنهم من يغنيه بتنمية أمواله ، ومنهم من يغنيه بتصفية أحواله ، وهذا هو الغنى الحقيقي .

( المانع ) : أي الدافع لأسباب الهلاك والنقصان في الأبدان والأديان ، وقيل : هو من المنعة أي يحوط أولياءه وينصر أصفياءه ، وقيل : من المنع أي : يمنع من يستحق المنع ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع " . وقال ابن عطاء : ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك . قال ابن حجر : وفي رواية : المعطي المانع ، قال القشيري : المانع في وصفه تعالى يكون بمعنى منع البلاء عن أوليائه ، ويكون بمعنى منع العطاء عمن شاء من أوليائه وأعدائه ، وقد يمنع المني والشهوات عن نفوس العوام ، ويمنع الإرادات والاختيارات عن قلوب الخواص ، وهو من أجل النعم التي يخص بها عباده المقربين ، ويكرم به أولياءه العارفين .

( الضار ، النافع ) : هما بمنزلة وصف واحد ، وهو القدرة الشاملة للضر والنفع ، أو خالق الضر والنفع ، أو الذي يصدر عنه النفع والضر إما بواسط أو بغير واسط . قال القشيري : وفي معنى الوصفين إشارة إلى التوحيد ، وهو أنه لا يحدث شيء في ملكه إلا بإيجاده وحكمته وقضائه وإرادته ومشيئته ، فمن استسلم لحكمه فهو عائش في الراحة ، ومن آثر اختيار نفسه وقع في كل آفة ، وقد ورد عن الحق تعالى أنه قال : ( أنا الله لا إله إلا أنا ، من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر على نعمائي كان عبدي حقا ، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليطلب ربا سواي ) .

( النور ) : أي : الظاهر بنفسه المظهر لغيره ، وقيل : هو الذي يبصر بنوره ذو العماية . قال القشيري في قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض ينور الآفاق بالنجوم ، والقلوب بفنون المعارف وصنوف العلوم ، والأبدان بآثار الطاعات ، لأن العبادة زينة النفوس ، والأشباح والمعارف زينة القلوب ، والأرواح والتأييد بالموافقات نور الظواهر ، والتوحيد بالمواصلات نور السرائر ، وأن الله تعالى يزيد قلب العبد نورا على نور . قوله : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) أي : يهدي الله القلوب إلى محاسن الأخلاق بنور الحق ويصطفيه ، ويترك الباطل ويدع ما يستدعيه .

( الهادي ) : هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى خاصة خلقه إلى معرفة ذاته فاطلعوا بها على معرفة مصنوعاته ، فيكون أول معرفتهم بالله ، ثم يعرفون غيره به ، وهدى عامة خلقه إلى مخلوقاته ، فاستشهدوا بها على معرفة ذاته وصفاته ، فيكون أول معرفتهم بالأفعال ثم يرتفعون بها إلى الفاعل ، فالثاني مريد ، والأول مراد ، والله رءوف بالعباد ، وإلى المرتبة الأولى الإشارة بقوله تعالى : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد خطابا منه - عليه الصلاة والسلام - وهو معرفة الأقوياء من خواص عباده الأصفياء ، وإليها الإيماء بقوله : عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي ، ولولا الله ما اهتدينا . وإلى الثانية الإشارة بقوله تعالى : سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وبقوله عز وجل : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء قال القشيري في قوله تعالى : يهديهم ربهم يكرم أقواما . مما يلهمهم من جميل [ ص: 1587 ] الأخلاق ، ويصرف قلوبهم إلى ابتغاء ما فيه رضا الخلاق ، ويدلهم على استصغار قدر الدنيا حتى لا يسترقهم ذل الطمع من الوقوف على غير باب المولى ، والهداية إلى حسن الخلق ثاني الهداية إلى اعتقاد الحق ، لأن الدين صدق مع الحق وخلق مع الخلق .

( البديع ) : أي : المبدع الذي أتى بما لم يسبق إليه ، فعيل بمعنى مفعل ، أو الذي أبدع الأشياء أي أوجدها من العدم ، أو هو الذي لم يعهد مثله ، فالله هو البديع مطلقا ، لأنه لا مثل له في ذاته ، ولا نظير له في صفاته . قيل : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ، وقال القشيري : أصل مذهبنا ثلاثة . الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال ، وصدق المقال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال . وقال أيضا : من داهن مبتدعا سلب الله حلاوة السنن من عمله ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه .

( الباقي ) : أي : الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء . قال القشيري : حقيقة الباقي من له البقاء ولا يجوز أن يكون الباقي باقيا ببقاء غيره ، ومما يجب أن تشتد به العناية أن يتحقق العبد أن المخلوق لا يجوز أن يكون متصفا بصفات ذات الحق تعالى ، فلا يجوز أن يكون العبد عالما بعلم الحق ، ولا قادرا بقدرته ، ولا سميعا بسمعه ، ولا بصيرا ببصره ، ولا باقيا ببقائه ، لأن الصفة القديمة لا يجوز قيامها بالذات الحادثة ، كما لا يجوز قيام الصفة الحادثة بالذات القديمة ، وحفظ هذا الباب أصل التوحيد ، وإن كثيرا ممن لا تحصيل له ولا تحقيق زعموا أن العبد يصير باقيا ببقاء الحق ، سميعا بسمعه ، وبصيرا ببصره ، وهذا خروج عن الدين ، وانسلاخ عن الإسلام بالكلية ، وربما تعلقوا في نصرة هذه المقالة الشنيعة بما روي في الخبر : فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، بي يسمع وبي يبصر ، ولا احتجاج لهم في ظاهره ، إذ ليس فيه أنه يسمع بسمعي ويبصر ببصري ، بل قال : بي يسمع وبي يبصر . قال النصر آباذي : الله تعالى باق ببقائه والعبد باق بإبقائه ، ولقد حقق رحمه الله وحصل وأخذ عن كمية المسألة وفصل .

( الوارث ) : الباقي بعد فناء العباد وخراب البلاد حين يقول : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار قال تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ومنه قوله : رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فيرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك ، وهذا بالنظر العامي ، وأما الحقيقة فهو الملك المالك على الإطلاق كما قيل : الوارث الذي يرث بلا توريث أحد والباقي الذي ليس لملكه أمد .

( الرشيد ) : أي الذي تنساق تدابيره إلى غايتها على سنن السداد بلا استشارة وإرشاد ، فهو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم أي : هداهم إليها ، ودلهم عليها فعيل بمعنى مفعل بمعنى الهادي ، فيكون إرشاد الله لعبده هداية نفسه إلى طاعته وقلبه إلى معرفته وروحه إلى محبته وسره إلى قربته ، وأمارة من أرشده الحق لإصلاح نفسه أن يلهمه التوكل عليه والتفويض في سائر أموره إليه .

جاع ابن أدهم يوما فأمر رجلا برهن شيء معه على ما يأكله ، فخرج فإذا بإنسان معه بغلة عليها أربعون ألف دينار فسأله عن إبراهيم وقال : هذا ميراثه عن أبيه ، وأنا غلامه فأتي به إليه فقال : إن كنت صادقا فأنت حر لوجه الله وما معك وهبته لك ، فانصرف عني ، فلما خرج قال : يا رب كلمتك في رغيف فصببت علي الدنيا ، فوحقك لئن أمتني جوعا لم أتعرض لطلب شيء .

( الصبور ) : أي : الذي لا يعجل في مؤاخذة العصاة ، وهذا قريب من معنى الحليم ، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم ، وقيل : هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة في الفعل قبل أوانه ، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة ، بخلاف الحليم . وأصل الصبر حبس النفس عن المراد ، فاستعير لمطلق التأني في الفعل لأنه غايته . ( رواه الترمذي ، والبيهقي في الدعوات الكبير ) : ورواه ابن ماجه ، والحاكم في مستدركه ، وابن حبان في صحيحه . قال ابن حجر : وروى عدد تلك التسعة والتسعين ابن ماجه أيضا ، لكن بين الروايتين تقديم وتأخير ، وتبديل وتغيير ، واختلف الحفاظ في أن سردها هل هو موقوف على الراوي ، أو مرفوع ورجح الأول بأن تعدادها إنما هو مدرج من كلام الراوي ، لكن الموقوف الذي ليس من قبل الرأي في حكم المرفوع . ( وقال الترمذي : هذا حديث غريب ) : قيل : ما من اسم من الأسماء التي في هذا الباب إلا وقد ورد به الكتاب والسنة الصحيحة غير لفظ الصبور ، فإنه ما وجد إلا في هذا الحديث ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله " .

[ ص: 1588 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية