صفحة جزء
2326 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ; فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ; فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ; فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي لو أن أولكم ، وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ; ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ; ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . رواه مسلم .


2326 - ( وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي ) أي : بواسطة أو بغيرها ، يقظة أو مناما ، باللفظ أو المعنى ( عن الله تبارك ) أي : تكاثر خيره وظهر في هذا الخير بعض أثره ، ( وتعالى ) أي : عن مشابهة المخلوقين في الرواية وغيرها ( أنه ) : ضبط بفتح الهمزة وكسرها ، فتأمل في الفرق بينهما ( قال : " يا عبادي ) : قال الطيبي : الخطاب للثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم ، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجا في الجن لشمول الاجتنان لهم ، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ، ولا على إمكانه . اهـ . وكذا الجوع والعري ، لكن الأولى الحمل على الإمكان العقلي ، أو يحمل على الخطاب التغليبي ( إني حرمت الظلم على نفسي ) أي : تقدست عنه وتعاليت ، فهو في حقي كالمحرم في حق الناس ، إذ لا يتصور في حقه ظلم ، سواء قلنا : إن الظلم وضع الشيء في غير محله ، أو أنه التعدي في ملك الغير ، وهو المحمود في كل أفعاله من غير فصل ، لأن فعله إما عدل ، وإما فضل . ( وجعلته بينكم محرما ) : قال ابن حجر : أي تحريما غليظا جدا ، فهو آكد من حرمته عليكم ، فلذا عدل إليه . اهـ .

والصحيح أن العدول لئلا يتوهم المشاركة في معنى التحريم السابق ، ( فلا تظالموا ) : بفتح التاء حذفت إحدى التاءين تخفيفا أي : لا يظلم بعضكم بعضا ، فإني أنتقم للمظلوم من ظالمه كما في الحديث : " يقول الله تعالى جل جلاله لأنتصرن للمظلوم ولو بعد حين " . وقال تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار فهو يمهل ولا يهمل ( يا عبادي ) : كرره للتنبيه على فخامته والاعتناء بشأنه . قاله [ ص: 1612 ] ابن حجر . والأظهر أنه إيماء إلى مقتضى العبودية من الافتقار إلى مراعاة حق الربوبية ( كلكم ضال ) أي : عن كل كمال وسعادة دينية ودنيوية ( إلا من هديته ) : قيل : المراد به وصفهم بما كانوا عليه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنهم خلقوا في الضلالة ، والأظهر أن يراد أنهم لو تركوا بما في طباعهم لضلوا ، وهذا معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره " ، وهو لا ينافي قوله - عليه الصلاة والسلام - : " كل مولود يولد على الفطرة " فإن المراد بالفطرة التوحيد ، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام ، ومنه قوله تعالى : ووجدك ضالا وقيل : معناه عاشقا ( فاستهدوني ) أي : اطلبوا الهداية مني أي نوع منها ( أهدكم ) : إذ لا هادي إلا الله ، ولولا الله ما اهتدينا ، ولما فرغ من الامتنان بالأمور الدينية شرع في الأمور الدنيوية تكميلا للمرتبتين ، مقتصرا على الأمرين الأهمين منها ، وهو الأكل واللبس كقوله تعالى في وصف الجنة : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ولعل ترك الظمأ اكتفاء بدلالة المقابلة نحو قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد ، وترك المأوى لشمول الكسوة التي هي السترة له إيماء أو إشارة ( يا عبادي كلكم جائع ) أي : محتاج إلى الطعام ( إلا من أطعمته ) أي : من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته ، فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع ، فكيف يستثني ( فاستطعموني ) أي : اطلبوا الطعام من جنابي وتيسير القوت والقوة من بابي ، ( أطعمكم . يا عبادي كلكم عار ) أي : محتاج إلى ستر عورته وإلى التنعم بأنواع لباسه وزينته ( إلا من كسوته ، فاستكسوني ) أي : اطلبوا مني الكسوة ( أكسكم ) : بضم السين أي : أيسر لكم حالاتكم ، وأزيل عنكم مساوئ كشف سوآتكم .

قال الطيبي ، فإن قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : إلا من أطعمته وكسوته ، إذ ليس أحد من الناس محروما منهما قلت : الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق ، كما قال الله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء سهل التخيل عن الجواب ، فظهر من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه نفي الشبع والكسوة بالكلية ، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا ، بل المراد بسطهما وتكثيرهما ، ويوضحه الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني ، أنه وضع قوله : كلكم فقراء إلا من أغنيته في موضعه . اهـ . وهو في غاية من البهاء ، وهو عين ما أخذه ابن حجر عنه ، ثم أغرب وقال : وهذا الذي قررته أولى مما سلكه شارح فتأمله .

( يا عبادي إنكم تخطئون ) : بضم التاء وكسر الطاء وفتحهما ، وقيل يجوز ضمهما تخفيفا بحذف الهمزة . في القاموس : خطأ في ذنبه وأخطأ : سلك سبيل الخطأ عامدا أو غيره ، أو الخاطئ متعمده ، وأخطيت لغة أو لثغة ، هي تحول اللسان من حرف إلى حرف ، والمعنى تذنبون بالفعل ، باعتبار أكثرهم ، وبالقوة باعتبار أقلهم ، وأما قول ابن حجر : غير المعصومين إذ ليسوا مرادين بهذا فهو خطأ ظاهر لعموم عبادي الشامل لهم ولغيرهم في السابق واللاحق ، نعم حسنات الأبرار سيئات المقربين ، واستغفارهم غير استغفار المذنبين . ( بالليل والنهار ) أي : في هذين الزمانين ، وأما تخصيص النهار في قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار لغلبة الذنب فيه . ( وأنا أغفر الذنوب جميعا ) أي : بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء جمعا بين آيتي الزمر والنساء ، أو بالاستغفار والأذكار ونحوهما . ( فاستغفروني ) أي : اطلبوا المغفرة مني ( أغفر لكم . يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري ) : بفتح الضاد وضمه ( فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) : حذف نون الإعراب منهما في نصبهما على جواب النفي ، أي : لا يصح منكم ضري ولا نفعي ، فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي ، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني ، بل إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن [ ص: 1613 ] أسأتم فلها ، وهذا معنى قوله : ( يا عبادي لو أن أولكم ) أي : من الموجودين ( وآخركم ) : ممن سيوجد ، وقال ابن الملك : أي : من الأموات والأحياء ، والمراد جميعكم ( وإنسكم ، وجنكم ) : تعميم بعد تعميم للتأكيد ، أو تفصيل وتبيين ( كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ) أي : لو كنتم على غاية التقوى بأن تكونوا جميعا على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم .

وقال القاضي : أي : على تقوى أتقى أحوال قلب رجل ، أي : كان كل واحد منكم على هذه الصفة . وقال الطيبي : لا بد من أحد التقديرين ليستقيم أن يقع أتقى خبرا لكان ، ثم أنه لم يرد أن كلهم بمنزلة رجل واحد هو أتقى الناس ، بل كل واحد من الجمع بمنزلته لأن هذا أبلغ كقولك : ركبوا فرسهم ، وعليه قوله تعالى :ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم في وجه إضافة أفعل إلى نكرة مفردة تدل أنك لو تقصيت قلب رجل من كل الخلائق لم تجد أتقى قلبا من هذا الرجل . اهـ .

ولهذا فسر بقلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقلب الأشقى بقلب إبليس . ( ما زاد ذلك ) أي : ما ذكر ( في ملكي شيئا ) : إما مفعول به أو مصدر ، وهذا راجع إلى ( لن يبلغوا ) ففي ( فتنفعوني ) نشر مشوش اعتمادا على فهم السامع ، ولمقاربة المناسبة بين المتوسطين ويسمى ترقيا وتدليا ونظيره قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت الآية . ( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر ) أي : فجور أفجر ، أو على أفجر أحوالهم ( قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ) : بالتخفيف ( ذلك ) أي : ما ذكر ( من ملكي شيئا ) : قال الطيبي : يجوز أن يكون مفعولا به . إن قلنا : إن ( نقص ) متعد ، ومفعولا مطلقا إن قلنا : إنه لازم أي نقص نقصانا قليلا ، والتنكير فيه للتحقير ، بدليل قوله في الحديث الآتي بدله : ( جناح بعوضة ) وهذا راجع إلى قوله : لن يبلغوا ضري فيضروني ، وأغرب ابن حجر بقوله : ( نقص ) متعد إلى مفعولين في الأفصح ، و ( شيئا ) مفعوله الثاني نحو : لم ينقصوكم شيئا . اهـ . ووجه غرابته أنه ليس في الحديث مفعول آخر حتى يكون ( شيئا ) مفعوله الثاني ، ولعله توهم أن ذلك هو المفعول الأول وهو خطأ لفساد المعنى ، والصواب أنه فاعل نقص ، فإذا كان كذلك فتعين ما قاله الطيبي ، مع أن استدلاله بالآية غير صحيح ، لأن ( شيئا ) فيها يحتمل أن يكون منصوبا على المصدرية أي : شيئا من النقص ، ويحتمل أن نصبه على المفعولية أي : شيئا من شروط العهد ، وحينئذ يحتمل كون ( ينقصوكم ) من باب الحذف والإيصال ، أي : لم ينقصوا منكم أي من عهودكم شيئا . قال أبو البقاء : الجمهور بالصاد ، وقرئ بالضاد أي : عهودكم فحذف المضاف و ( شيئا ) في موضع المصدر ( يا عبادي لو أن أولكم ، وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا ) أي : وقفوا أو استمروا ( في صعيد ) أي : مقام ( واحد ) : قال ابن حجر : الصعيد يطلق على التراب وعلى وجه الأرض ، وهو المراد هنا . قلت : فهو المراد في الآية أيضا مطابقة لما بينهما ، لأن بعضهما يفسر بعضا ( فسألوني ) أي : كلهم أجمعون . قال الطيبي - رحمه الله - : قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد ، لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويهم ويعسر عليه إنجاح مآربهم وإسعاف مطالبهم ، ( فأعطيت كل إنسان مسألته ) أي : في آن واحد ، وفي مكان واحد ( ما نقص ذلك ) أي : الإعطاء ( مما عندي ) : قال تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ( إلا كما ينقص ) أي : كالنقص أو الشيء الذي ينقصه ( المخيط ) : بكسر الميم وسكون الخاء أي : الإبرة ( إذا أدخل البحر ) : بالنصب على أنه مفعول ثان للإدخال . قال الطيبي : لما لم يكن ما ينقصه المخيط محسوسا ولا معتدا به عند العقل ، بل كان في حكم العدم كان أقرب المحسوسات وأشبهها بإعطاء حوائج الخلق كافة ، فإنه لا ينقص مما عنده شيئا . وقال ابن الملك : أو يقال أنه من باب الفرض والتقدير ، يعني لو فرض النقص في ملك الله لكان بهذا المقدار ( يا عبادي ، إنما هي ) أي : القصة ( أعمالكم أحصيها ) أي : أحفظها وأكتبها ( عليكم ) : كذا في الأصول المعتمدة بلفظ : عليكم ، وهو المناسب للمقام ، ووقع في أصل [ ص: 1614 ] ابن حجر : لكم . وقال وفي نسخة : عليكم . وقال الطيبي : أي جزاء أعمالكم ، تفسير للضمير المبهم ، وقيل : هو راجع إلى ما يفهم من قوله : على أتقى قلب رجل ، وعلى أفجر قلب رجل ، وهو الأعمال الصالحة والطالحة ، أي : ليس نفع أعمالكم راجعا إلي بل إليكم ( ثم أوفيكم إياها ) : التوفية إعطاء حق واحد على التمام أي : أعطيكم جزاء أعمالكم وافيا تاما ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر . ( فمن وجد خيرا ) أي : توفيق خير من ربه وعمل خير من نفسه ( فليحمد الله ) أي : على توفيقه إياه للخير لأنه الهادي ( ومن وجد غير ذلك ) أي : شرا أو أعم منه ( فلا يلومن إلا نفسه ) : لأنه صدر من نفسه ، أو لأنه باق على ضلاله الذي أشير إليه بقوله : كلكم ضال . قال ابن الملك : هذا صريح في أن الخير من الله ، والشر من النفس . وهذا غريب وعجيب منه إذ تقرر في المعتقد ، وتحرر في المعتمد ، أن الخير والشر كله من الله خلقا ، ومن العبد كسبا ، خلافا للخوارج والمعتزلة من أهل البدعة ، نعم ينسب الشر إلى النفس أدبا مع الله تعالى ، كما قيل في قوله : وإذا مرضت فهو يشفين وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الخير بيديك والشر ليس إليك " . وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث هذا الحديث جثا على ركبتيه تعظيما . ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية