صفحة جزء
2333 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن عبدا أذنب ذنبا ، فقال : رب أذنبت فاغفره ; فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي . ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا ، فقال رب أذنبت فاغفره ; فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي . ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا ، قال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي ; فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ، فليفعل ما شاء " . متفق عليه .


2333 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن عبدا ) أي : من هذه الأمة أو من غيرهم ( أذنب ذنبا فقال ) : ظاهره أنه عطف على أذنب . وقال الطيبي : خبر إن إذا كان اسمها نكرة موصوفة ( رب ) أي : يا رب ( أذنبت ) أي : ذنبا ( فاغفره ) أي : الذنب . الفاء سببية جعل اعترافه بالذنب سببا للمغفرة حيث أوجب الله المغفرة للتائبين المعترفين بالسيئات على سبيل الوعد ، ويصح الأخذ بظاهره أنه سأل المغفرة من غير توبة ، وهذا أبلغ في سعة رحمته ( فقال ربه ) أي : للملائكة ( أعلم عبدي ) : بهمزة الاستفهام وفعل ماض ، قال الطيبي - رحمه الله - : قيل : إما استخبار من الملائكة ، وهو أعلم به للمباهاة ، وإما استفهام للتقرير والتعجيب ، وإنما عدل عن الخطاب وهو قوله : أعلمت عبدي إلى الغيبة شكرا لصنيعه إلى غيره وإحمادا له على فعله ( أن له ربا يغفر الذنب ) أي : إذا شاء لمن شاء ( ويأخذ به ؟ ) أي : يؤاخذ ويعاقب فاعله إذا شاء لمن شاء ( غفرت لعبدي ) أي : ذنبه ( ثم مكث ) : بفتح الكاف وضمها ( ما شاء الله ) أي : لبث مطيعا مدة مشيئة الله ( ثم أذنب ذنبا فقال : رب ، أذنبت ذنبا ) أي : آخر فاغفره ، وهو يحتمل أن يكون مع التوبة وبدونها ( فقال : أعلم عبدي أن له ربا ) أي : عظيما ( يغفر الذنب ) أي : العظيم أو جنس الذنب تارة ( ويأخذ به ؟ ) أي : أخرى ( غفرت لعبدي ) أي : لتوبته ، أو لعلمه بذلك وهو الأقرب ( ثم مكث ما شاء الله ) أي : من الزمان ( ثم أذنب ذنبا ) : تفيد ( ثم ) تراخي الذنوب ، والثانية يؤكدها ، هذا يدل على عظمة المذنب وأن طاعته تغلب معصيته وأنه سريع الرجوع إلى طلب مغفرته ( فقال : رب أذنبت ذنبا آخر ) أي : من جنسه أو من غير جنسه ( فاغفره لي فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ) أي : بالاستغفار . [ ص: 1618 ] ( ويأخذ به ؟ ) أي : على الإصرار ( غفرت لعبدي ) أي : لأنه عبدي بقوله في كل ذنب : ربي ( فليفعل ) : وفي نسخة ، وهي كما في المصابيح : فليعمل ( ما شاء ) أي : إذا كان على هذا الحال بهذا المنوال .

وقال ابن الملك : أي ما شاء من الذنب التي بيني وبينه مما لا يتعلق بفعل العباد ، ثم ليتب وهو تقييد بلا دليل ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ثم هذه الصيغة للتلطف وإظهار العناية والشفقة أي : إن فعلت أضعاف ما كنت تفعل ، واستغفرت منه غفرت لك ، فإني أغفر الذنوب ، وهذا معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة " . وأغرب ابن الملك حيث قال هنا : أي ما دمت تتوب وتستغفر عنها ، ولكن ذلك مشروط بأن تكون نيته أن لا يعود إلى الذنب . اهـ . لأن هذا الذي ذكره شرطا هو من أركان التوبة .

قال الطيبي : أي اعمل ما شئت ما دمت تذنب ثم تتوب فسوف أغفر لك ، وهذه العبارة تستعمل في مقام السخط كقوله تعالى :اعملوا ما شئتم مرادا هنا ، وفي مقام الحفاوة يعني مقام التلطف كما في الحديث ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق حاطب بن أبي بلتعة : " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . وكما تقول لمن تحبه ويؤذيك : اصنع ما شئت فلست بتارك لك ، وليس المراد من ذلك الحث على الفعل بل إظهار الحفاوة . وقال القرطبي : فائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه ، لأنه أضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة ، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ، لأنه أضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله ، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه .

وقال النووي : في هذا الحديث أن الذنوب وإن تكررت مائة مرة بل ألفا أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته . ولو تاب من الجميع توبة واحدة صحت توبته . قلت : هذا الأخير بالإجماع وإنما خالف من خالف إذا تاب من بعض الذنوب ، أو إذا نقض التوبة ، والصحيح صحتها . وقال السبكي الكبير : الاستغفار طلب المغفرة باللسان أو بالقلب أو بهما . الأول فيه نفع لأنه خير من السكوت ، ولأنه يعتاد فعل الخير ، والثاني نافع جدا ، والثالث أبلغ منه ، لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه . قلت : قوله لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، مراده أنه لا يمحصانه قطعا وجزما ، لا أنه لا يمحصانه أصلا ، لأن الاستغفار دعاء ، وقد يستجيب الله دعاء عبده فيمحص ذنبه ، ولأن التمحيص قد يكون بفضل الله - تعالى - أو بطاعة من العبد ، أو ببلية فيه ، ثم قال : والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة ، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة ، ثم قال : وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه والمشهور أنه لا يشترط . اهـ .

واعلم أن أكثر الشراح هنا حملوا الاستغفار على التوبة ، وظاهر الحديث يدل على أن اعتراف العبد بذلك سبب للغفران ، ولا موجب للعدول عنه ، بل في الحديث تعريض لمن قال : إنه تعالى لا يغفر إلا بالتوبة ، كما ذهب إليه المعتزلي ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي .

التالي السابق


الخدمات العلمية