صفحة جزء
2369 - وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله ، وفي رواية أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، فغفر له . متفق عليه .


2369 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل ) أي ممن كان قبلنا ( لم يعمل ) صفة رجل ( خيرا قط ) أي عملا صالحا ، كما يدل عليه قوله لم يعمل ، وخوفه من عذابه وغفرانه تعالى ، ولهذا قال ابن حجر : أي بعد الإسلام ( لأهله ) قال ابن الملك : يعلم منه أن عمل الخير يتعدى منه لأهله وذوي قرابته ، وأنه يعمل خيرا لنفسه أيضا ; لأنه لو عمل لنفسه لتعدى منه إليهم اهـ ، والصواب أن قوله لأهله متعلق بقال كما صرح به الطيبي فيما سيأتي لا بلم يعمل كما فهم هذا القائل ، تأمل ( وفي رواية أسرف رجل على نفسه ) أي : بالغ في فعل المعاصي فمؤدى الروايتين واحد ( فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه ) قال الطيبي : مقول قال [ ص: 1641 ] على الرواية الأولى ، ومعمول أوصى على الرواية الأخرى فقد تنازعا فيه في عبارة الكتاب . اهـ ، وهو الصواب لأن قوله : ( وفي رواية ) إلى قوله : ( أوصى ) بنية جملة معترضة ، خلافا لما قاله زين العرب من أن تقدير الكلام على الرواية الأولى هكذا : رجل لم يعمل قط خيرا لأهله فلما حضره الموت إلخ ، وعلى الرواية الأخرى يكون ابتداء قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - من : أسرف رجل على نفسه والمراد أنه أكثر من الذنوب . اهـ ، ثم الأصل : إذا أنا مت فحرقوني . وعدل عنه إلى الغيبة إعلاما بعدم الاعتناء به ، وأنه قدم ما غاب به عن مراتب السعداء كذا قاله ابن حجر - رحمه الله تعالى - وحاصله أنه من باب الالتفات في مذهب بعض ، كما قال الطيبي : لو حكي ما تلفظ به الرجل لكان ينبغي أن يقال : إذا مت فحرقوني ثم ليذروا نصفي ، ولو نقل معنى ما تلفظ به الرجل لقال : إذا مات فليحرقه قومه ثم ليذروا ، فعدل عن ضمير المتكلم إلى الغائب تحاشيا عن وصمة نسبة التحريف وتوهم الشك في قدرة الله إلى نفسه . اهـ ، وأما قول ابن حجر : وكلامي أولى مما قيل عدل إلخ ، لأن هذا العدول لا يمنع إيهام الشك في قدرة الله تعالى ، فغفلة وذهول عن أن العدول وقع عن قوله لئن قدر الله علي إلى قوله قدر الله عليه ، وإن لم يذكره الطيبي تحاميا أيضا ( ثم اذروا ) همزة وصل من الذري : بمعنى التذرية ، ويجوز قطعها يقال ذرته الريح وأذرته : إذا أطارته ، أي : فرقوا ( نصفه ) أي نصف رماده إلى البر ( ونصفه في البحر فوالله لئن ) اللام موطئة للقسم ( قدر ) بتخفيف الدال ويشدد أي : ضيق ( الله عليه ) قال ابن حجر : وفي نسخة علي ، واعتمدها النووي ، والظاهر أنه سهو قلم من بعض الكتاب لأنه يحصل له تحريف الكتاب ويدل على ضعفه قوله ( ليعذبنه ) إذ لم يعهد الالتفاف بين أجزاء جملتي الشرطية والقسمية وعلى تقدير ثبوته يحمل على أن الرجل كان دهشا ( عذابا ) أي تعذيبا ( لا يعذبه ) أي ذلك العذاب ( أحدا من العالمين ) قيل معناه لئن ضيق الله عليه وناقشه في الحساب من القدر بمعنى التضييق لا من القدرة ; لأن الشك في القدر كفر ، وقد قال في آخر الحديث ( خشيتك ) وغفر له ، والكافر لا يخشاه ولا يغفر له فله تأويلان أحدهما : أن ( قدر ) بالتخفيف بمعنى ضيق ، ومنه قوله تعالى : قدر عليه رزقه بالتخفيف والتشديد وقوله : فظن أن لن نقدر عليه والثاني لئن قدر عليه العذاب أي : قضاه من قدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد ; ولكن روي في بعض طرق الحديث فلعلي أضل الله أي : أفوته ، وهذا ينبئ أنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله تعالى ، ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه ، فلا بد من وجه يمكن القول معه بإيمانه ، فقيل : إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك ، فلم ينشر ولم يعذب ، وأما تلفظه بقوله : لئن قدر الله ، وبقوله فلعلي أضل الله ; فلأنه كان جاهلا بذلك وقد اختلف في مثله هل يكفر أم لا ؟ بخلاف الجاحد للصفة ، وقيل هذا ورد مورد التشكك فيما لا يشك ، ويسمى ذلك في علم البلاغة بتجاهل العارف كقوله فظن أن لن نقدر عليه الآية . وقيل لقي من هول المطلع ما أدهشه وسلب عقله فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره ; فبادر بسقط من القول ، وأخرج كلامه مخرجا لم يعتقد حقيقته ، وهذا أسلم الوجوه والله أعلم ، وقال الطيبي - رحمه الله - هو كلام صدر عن غلبة حيرة ودهشة من غير تدبر في كلامه كالغافل والناسي فلا يؤاخذ فيما قال ، أقول : هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي ، حيث قال تعالى : لم فعلت ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، والله أعلم ، وقيل ذلك لا يؤاخذ عليه ، ونحوه ما تقدم من قول واجد الضالة ( أنت عبدي وأنا ربك ) واختارهابن حجر تبعا لما ذكره الطيبي ، وفيه نص إذ قول الواجد وقع سهوا وخطأ بخلاف هذا فكيف يكون مقيسا ، وقيل إنكار وصف واحد مع الاعتراف بما عداه لا يوجب كفرا ، قلت : جهل وصف واحد عذر عند بعض لا إنكاره ، وبون بين الإنكار للشيء والجهل به ، ثم رأيت الطيبي قال : قيل إنه جهل صفة من صفات الله ، وقد اختلفوا في تكفير جاهل صفة من صفات الله تعالى ، قال القاضي عياض ، وممن كفره ابن جرير الطبري ، وقال به أبو الحسن الأشعري أولا ، وقال آخرون لا يكفر به بخلاف جحدها ، وإليه رجع أبو الحسن وعليه استقر مذهبه ، قال : لأنه يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا شرعا ، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق ، وقالوا لو سئل الناس عن [ ص: 1642 ] الصفات لوجد العارف بها قليلا ، وقيل : هذا من بديع استعمالات العرب ، ويسمى مزج الشك باليقين ، والمراد اليقين كقوله تعالى : فإن كنت في شك قال الطيبي : وتحريره أن الله أراد أن يحقق ما أنزل عليه من أمر أهل الكتاب ويقرره عنده ، وعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشك فيه قطعا ، وإنما قال تهييجا وإلهابا له ليحصل له مزيد ثبات ورسوخ قدم فيه ، كذلك هذا الرجل علم أن الله قادر أن ينشره ويبعثه ويعذبه بعد ذلك ، ويؤيده ما ورد في رواية أخرى ( وإن الله يقدر على أن يعذبني ) فأراد أن يحرض القوم على إنفاذ وصيته ; فأخرج الكلام في معرض التشكيك لهم لئلا يتهاونوا في وصيته فيقوموا بها حق القيام . اهـ ، ولا يخفى عدم المناسبة بين الحديث والآية ; لأن الآية من كلامه تعالى خطابا لنبيه مبنيا على فرضه وتقديره ، فلا يتصور شك في وقوعه ، ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا أشك ولا أسأل " ، والحديث من كلام غير معصوم خطابا لمن يتصور منه الشك ابتداء أو انتهاء ، ولا تأييد لمعنى الرواية الأخرى فإنها معنى صحيح لا غبار عليه مباين لهذه الرواية فإنها موهمة ، نعم تلك الرواية تدل على أنه مؤمن ويحتاج كلامه إلى تأويل ، وإن أحسن التأويل ما قيل في قوله تعالى : فظن أن لن نقدر عليه ورواية ( أضل الله ) تحمل على معنى : أضيع طاعته ، و ( لعل ) للإشفاق الدال عليه قوله : " من خشيتك يا رب " لا أنه للترجي كما حملوا عليه وأشكلوا على أنفسهم ونسبوا الكفر إليه ، وغايته أنه أتى بالمضارع لاستحضار الحال الماضية ولا محظور لديه ، وقيل : كان هذا الرجل في زمان فترة حين ينفع مجرد التوحيد ، قال الطيبي : ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفيه أنه إذا لم يكن هناك تكليف ، والتوحيد متحقق فلا معنى للخوف ، مع أن كلام الطيبي ليس على مقتضى مذهبه ، فإن عند الشافعية لا تكليف فيه بتوحيد وغيره ، كما هو مقرر في محله ( فلما مات فعلوا ) أي أهله أو بنوه ( ما أمرهم ) من التحريق والتذرية ( فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ) أي : من أجزاء الرجل ; إظهارا للقدرة الكاملة والقوة الشاملة ( ثم قال له لم فعلت هذا ) أي : ما ذكر من الوصية ( قال من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ) قيل : إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها بعصيانها رجاء أن يرحمه الله فيغفر له ، وهذا يؤيد أن قوله : ( لئن قدر ) بمعنى ضيق ; فاندفع قول ابن حجر : أن تحقير النفس لا يبيح مثل ذلك ( فغفر له ) قال الطيبي : ويحتمل أن يكون قوله : لئن قدر الله عليه من قوله - عليه الصلاة والسلام - فيكون معناه أنه تعالى لو وجده على ما كان عليه ولم يفعل به ما فعل ; فترحم عليه بسببه ، ورفع عنه أعباء ذنبه ; لعذبه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، أو لئن ضيق عليه وناقشه في الحساب لعذبه أشد العذاب ، وفيه مع بعده عن السباق واللحاق ، وعلى تسليم أنه جملة معترضة بين كلام الرجل يأباه الفاء في قوله فوالله المترتب على ما تقدم ، والله أعلم ، وأما قول ابن حجر : المراد لئن بعثني ، وإن هنا بمعنى إذا ، أو إن على حد ( وخافون إن كنتم مؤمنين ) فمردود بأن اللام الموطئة لا تدخل إلا على الشرط والجواب للقسم ، ويسد مسد الشرط مع عدم ملاءمة المعنى بينه وبين ما قبله من الكلام المترتب عليه فتدبر يظهر ، ثم أغرب بقوله وهذا أظهر الأجوبة عندي ، لكن في رواية غير مسلم " فلعلي أضل الله " أي : أغيب عنه ، قيل : وهذا يدل على تعمده لحقيقة مدلول قوله لئن قدر عليه . اهـ ، ويرد بمنع دلالته على ذلك لأن الدهش يتخيل غير الواقع كثيرا . اهـ . وفيه أن هذا ليس سندا للمنع ; بل دليل على تحققه ، ودلالته وغايته أنه قد يعتبر عذرا فيصلح أن يكون جوابا لا منعا ، فإن قلت تعارض رواية " لئن قدر عليه " رواية " وأن الله يقدر على أن يعذبني " قلت : هذه لا تقاوم تلك وبفرض صحتها فيجمع على قضيتين ، ويحتمل أنه أوصى مرتين مرة كان فيها ثابت العقل ، وأخرى مدهوش العقل مذهوب القلب ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية