صفحة جزء
[ ص: 1835 ] ( 10 ) باب : خطبة يوم النحر ، ورمي أيام التشريق ، والتوديع

الفصل الأول

2659 - عن أبي بكرة - رضي الله عنه ، قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ، قال : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ) . وقال : أي شهر هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس ذا الحجة ؟ " قلنا : بلى . قال " أي بلد هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : أليس البلدة ؟ " . قلنا بلى . قال : " فأي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . قال : " أليس يوم النحر ؟ " قلنا : بلى . قال : " فإن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم . عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ " قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد ، فليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع " . متفق عليه .


[ 10 ] باب خطبة يوم النحر

الخطبة : المراجعة في الكلام ، ومنه : الخطبة والخطبة ؛ لأن الخطبة بالضم مختصة بالموعظة ، والخطبة بالكسر بطلب المرأة ، ذكره الطيبي . ( ورمي أيام التشريق ) : عطف على خطبة ( والتوديع ) : قال الطيبي - رحمه الله : عطف على " التشريق " أي : الأيام التي تستتبع طواف الوداع اهـ . والصواب أنه : عطف على " رمي " أو " خطبة " فإنه ما وقع طواف وداعه - عليه الصلاة والسلام - إلا في الليلة التي بعد أيام ، وللاتفاق على جوازه في أيام ، وما بعدها ، بل الأولى عند الكل تأخيره إلى حين خروجه من مكة ، فلا وجه لتقييده بأيام ، مع أنه تكرار محض لا إفادة في إعادته .

الفصل الأول

2659 - ( عن أبي بكرة ) : أي : الثقفي ( قال : خطبنا ) : أي : وعظنا ( النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ) : يستحب الخطبة عند الشافعي في أول أيام النحر ، وعندنا في الثاني من أيامه ، وتقييده في الأحاديث الصحيحة يؤيد مذهبنا ، وبه استشكل النووي ما اتفق عليه أصحاب الشافعي من قولهم : يسن أن يخطب الإمام ، أو نائبه الناس بعد صلاة الظهر يوم النحر بمنى خطبة فردة ، يعلم فيها المناسك إلى أن قال : فقولهم بعد صلاة الظهر مخالف لما في الأحاديث الصحيحة أنها كانت تضحي اهـ .

فالصواب أن هذه الخطبة كانت خطبة موعظة ، وأن الخطبة المعروفة كانت ثاني يوم النحر ، والله أعلم ( قال : إن الزمان ) : هو اسم لقليل الوقت وكثيره ، والمراد هنا السنة . ( قد استدار ) : أي : دار ( كهيئته ) : قال الطيبي - رحمه الله : الهيئة صورة الشيء وشكله وحالته ، والكاف صفة مصدر محذوف أي : استدار استدارة مثل حالته ( يوم خلق السماوات ) : أي : وما فيها من النيرين اللذين بهما تعرف الأيام ، والليالي ، والسنة والأشهر ، وفي نسخة : " كهيئة يوم " بالإضافة ، وهو خلاف الرواية والدراية ( والأرض ) : أي : عاد ورجع إلى الموضع الذي ابتدأ منه ، يعني : الزمان في انقسامه إلى الأعوام ، والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب ، والوضع الذي اختاره الله - تعالى - ووضعه يوم خلق السماوات والأرض .

وقال بعض المحققين من علمائنا : أي : دار على الترتيب الذي اختاره الله ، ووضعه يوم خلق السماوات والأرض ، وهو أن يكون كل عام اثنى عشر شهرا ، وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوما ، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك ; فجعلوا عاما اثنى عشر شهرا ، وعاما ثلاثة عشر ، فإنهم كانوا ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ، ويجعلون الشهر الذي أنسئوه ملغى ، فتصير تلك السنة ثلاثة عشر ، وتتبدل أشهرها ، فيحلون الأشهر الحرم ، ويحرمون غيرها ، كما قال - تعالى : إنما النسيء زيادة في الكفر الآية . فأبطل الله - تعالى - ذلك ، وقرره على مداره الأصلي ، فالسنة التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الزمان قد استدار كهيئته ) يعني أمر الله أنه يكون ذو الحجة في هذا الوقت ، فاحفظوه ، واجعلوا الحج في هذا الوقت ، ولا تبدلوا شهرا بشهر كعادة أهل الجاهلية اهـ .

وقال البيضاوي : كانوا إذا جاء شهر حرام ، وهم محاربون أحلوه ، وحرموا مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا خصوص الأشهر ، واعتبروا مجرد العدد اهـ . فكأن العرب كانوا مختلفين في النسيء ، والله - تعالى - أعلم . ( السنة اثنا عشر شهرا ) : جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، قاله الطيبي - رحمه الله - ( منها أربعة حرم ) : قال - تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) . [ ص: 1836 ] قال البيضاوي - رحمه الله : أي : بهتك حرمتها ، وارتكاب حرامها ، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة ، وأولوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن ، فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم ، وحال الإحرام . وعن عطاء : لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا ، ويؤيد الأول ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف ، وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة ( ثلاث ) : أي : ليالي ( متواليات ) : أي : متتابعات .

قال الطيبي - رحمه الله : اعتبر ابتداء الشهور من الليالي ، فحذف التاء ، والأظهر أنه تغليب لليالي هنا كما في " أربعة " تغليب للأيام . ( ذو القعدة ) : بفتح القاف ، ويكسر ( وذو الحجة ) : بكسر الحاء ، وقد يحذف منها ذو ( والمحرم ) : عطف على " ذو القعدة " كان العرب يؤخرون المحرم إلى صفر مثلا ، ليقاتلوا فيه ، وهو النسيء المذكور في القرآن ، وهكذا كانوا يفعلون في كل سنة ، فيدور المحرم في جميع الشهور ، ففي سنة حجة الوداع عاد المحرم إلى أصله قبل ، فلذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج إلى تلك السنة اهـ .

لكن يشكل حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، وأمره بالحج قبل حجة الوداع ، مع أن الحج لا يصبح في غير الحجة بالإجماع ، وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة ، ثم رأيت ابن حجر - رحمه الله - وافقني في هذه القضية حيث قال : ومما يتعين اعتقاده أن الحج سنة ثمان التي كان عليها عتاب بن أسيد أمير مكة ، وسنة تسع التي كان عليها أبو بكر ، إنما كانت في الحجة ، كان الزمان استدار فيهما لاستحالة أمره - صلى الله عليه وسلم - للناس بالحج في غير الحجة ، وهذا الحديث لا ينافي ذلك لأن قوله : " قد استدار " صادق بهذه الحجة وما قبلها ، فتعين حمله على العاملين قبلها أيضا ، كما قطعت به القواعد الشرعية . ( ورجب مضر ) : على وزن عمر غير منصرف . قبيلة عظيمة من العرب أضيف إليهم لأنهم كانوا يعظمونه فوق ما يعظمون غيره من الأشهر ، وكانوا يعظمونه أكثر من سائر العرب ، ولا يوافقون غيرهم من العرب في استحلاله ، وهو عطف على " ثلاث " وأما تعريفه بقوله : ( الذي بين جمادى ) : بضم الجيم وفتح الدال وبعده ألف ، ورسمه بالياء ( وشعبان ) : فلإزاحة الارتياب الحادث فيه من النسيء .

وقال الطيبي - رحمه الله : لزيادة البيان ( وقال : " أي شهر هذا ؟ ) : أراد بهذا الاستفهام أن يقرر في نفوسهم حرمة الشهر ، والبلدة ، واليوم ليبني عليه ما أراده ( قلنا : الله ورسوله أعلم ) : رعاية للأدب ، وتحرزا عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، وتوقفا فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه ( فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس ) : أي : هذا الشهر أو اسمه ( ذا الحجة ) قلنا : بلى ، قال : " أي بلد هذا " قلنا : ( الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال ) : بلا فاء ( أليس ) : أي : البلد ( البلدة ) : قال الطيبي - رحمه الله : غلبت البلدة على مكة كالبيت على الكعبة اهـ . وقال بعضهم : أي : البلدة التي تعلمونها مكة ، وقيل : هي اسم مكة اهـ .

والأظهر : أن المراد بالبلد الأرض بقرينة الإشارة بهذا في منى ، والبلدة وإن كانت اسم مكة لكن قد تطلق ويراد بها أرض الحرم كلها من باب إطلاق الجزء ، وإرادة الكل ، ومنه قوله - تعالى : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها ولا شك أن التحريم يعم مواضع الحرم كلها ( وقلنا : بلى . قال : " فأي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : " أليس ) : أي : هذا اليوم ( يوم النحر ؟ ) قلنا : ( بلى ) : ولعل فائدة السؤال على هذا المنوال مع تكرر الحال ; ليكون أوقع في القلب ، وأحفظ في النفس ( قال : " فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم ) : أي : تعرضكم لبعضكم في دمائكم ، وأموالكم ، وأعراضكم : [ ص: 1837 ] العرض - بالكسرة - موضع المدح ، والذم من الإنسان ، سواء كان في نفسه ، أو سلفه ( عليكم حرام ) : أي : محرم حرمة شديدة ( كحرمة يومكم هذا ) : والمشبه به قد لا يكون أقوى بأن يكون أشهر ، وأظهر ، وكان كذلك سنة أهل الجاهلية ( وفي بلدكم هذا ) : فالمعصية به عظيمة ، كما قال ابن عباس - رحمه الله ، وجمع من أتباعه بمضاعفة السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات بها ، لكن المعتمد أن السيئة بها تضاعف كيفية لا كمية ، لئلا يخالف حصر قوله : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها : وأما قوله - تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم فلا يصلح دليلا للتعدد الذي ادعوه ، بل للعظم الذي ذكرته ( في شهركم هذا ) : إنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء ، لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء ، وانتهاك حرمتها بحال ( وستلقون ربكم ) : أي : يوم القيامة ( فيسألكم عن أعمالكم ) : أي : القليلة والكثيرة ( ألا ) : للتنبيه ( فلا ترجعوا بعدي ) : أي : لا تصيروا بعد وفاتي ( ضلالا ) : بضم الضاد ، وتشديد اللام جمع ضال .

قال الطيبي - رحمه الله : ويروى كفارا أي : مشبهين بهم في الأعمال ( يضرب بعضكم رقاب بعض ) استئناف مبين أو حال ، وفي نسخة بالجزم على جواب النهي ( ألا ) : للتنبيه ( هل بلغت ؟ ) : بتشديد اللام ، أي : أعلمتكم ما أنزل إلي من ربي ؟ ( قالوا ) : نعم قال : " اللهم اشهد ) : أي : لي وعليهم ( فليبلغ ) : بالتشديد ، ويخفف ، أي : ليخبر ( الشاهد ) : أي : الحاضر ( الغائب ) : أي : حقيقة ، أو حكما ( فرب مبلغ ) : بتشديد اللام المفتوحة ، أي : من يبلغه الحديث ( أوعى ) أي : أحفظ لمبناه ، وأفهم لمعناه ( من سامع ) : فيه تسلية للغائبين ، وتقوية للتابعين ، وإيماء إلى أن باب الله مفتوح للسالكين ، ولا يطرد عن بابه إلا الهالكين ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية