صفحة جزء
2762 - وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " الحلال بين والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . متفق عليه .


2762 - وعن النعمان : بضم النون ( ابن بشير ) : قال المصنف : لأبويه صحبة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الحلال بين ) : بتشديد الياء المكسورة أي : واضح لا يخفى حده بأن ورد نص على حله أو مهد أصل يمكن استخراج الجزيئات منه كقوله - تعالى : خلق لكم ما في الأرض جميعا فإن اللام للنفع ، فعلم أن الأصل في الأشياء الحل ، إلا أن يكون فيه مضرة ( والحرام بين ) : أي : ظاهر لا تخفى حرمته بأن ورد [ ص: 1892 ] نص على حرمته ، كالفواحش والمحارم وما فيه حد وعقوبة والميتة والدم ولحم الخنزير ونحوها ، أو مهد ما يستخرج منه نحو : " كل مسكر حرام " ( وبينهما مشتبهات ) : بكسر الموحدة أي : أمور ملتبسة غير مبينة لكونها ذات جهة إلى كل من الحلال والحرام ، ( لا يعلمهن ) : أي : حقيقتهن ( كثير من الناس ) : لتعارض الأمارتين ، وقليل منهم وهم المجتهدون والراسخون في العلم يعلمون ذلك بقوة ترجيح إحدى العلامتين . في شرح السنة : جملة الشبهات المعارضة في الأمور قسمان . أحدهما : ما لا يعرف له أصل في تحليل ولا تحريم ، فالورع تركه . الثاني : أن يكون له أصل في التحليل والتحريم ، فعليه التمسك بالأصل ، ولا ينحرف عنه إلا بيقين علم .

قال النووي - رحمه الله : اتفق العلماء على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده ، فإنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام ، قيل : هي ثلاث : حديث الأعمال بالنيات ، وحديث : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وهذا الحديث وسبب عظم موقعه أنه - صلى الله عليه وسلم - نبه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها بأن يكون حلالا ، وأرشد إلى معرفة الحلال بأن أوضح ذلك بضرب المثل بالحمى ، وأتم ذلك بيان منبع الصلاح والفساد ومعدنهما ، فقوله : " الحلال بين " الخ . معناه أن الأشياء ثلاثة أقسام : حلال بين كالخبز والفواكه وغير ذلك من المطعومات ، وكذلك الكلام والنظر والنكاح والمشي وغير ذلك من التصرفات . وحرام بين كالخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح ، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأمرد ، وإلى الأجنبية وأشباه ذلك ، والمتشابه هو الذي يحتمل الأمرين ، فاشتبه على الناظر بأيهما يلحق ، وإليه أشار بقوله : " لا يعلمهن كثير من الناس " ، وفيه أنه يعلمها قليل من العلماء الراسخين بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك ، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص أو إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدها بالدليل الشرعي ، فإذا ألحقه به صار حلالا أو حراما ، فإذا فقد هذه الدلائل فالورع تركه ، لأنه داخل في قوله : ( فمن اتقى الشبهات ) : أي : اجتنبها ( استبرأ ) : أي : بالغ في البراءة أو حصل البراءة بالصيانة ( لدينه ) : من الذم الشرعي ( وعرضه ) : من كلام الطاعن ، وللعلماء فيه ثلاثة مذاهب ، والظاهر أنه مخرج على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع ، والأصح أن لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع ، والثاني أن حكمه التحريم ، والثالث الإباحة . ( ومن وقع في الشبهات ) : أي : هجم عليها وتخطى خططها ولم يتوقف دونها ( وقع في الحرام ) : قال التوربشتي : الوقوع في الشيء السقوط فيه ، وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك . قال النووي - رحمه الله : يحتمل وجهين أحدهما : أن من يكثر تعاطي الشبهات يصادف الحرام وإن لم يعمده ، وقد يأثم بذلك إذا قصر في التحري ، والثاني : أنه يعتاد التساهل ، ويتمرن عليه ، ويجسر على شبهة ثم شبهة أغلظ منها وهلم جرا ، إلى أن يقع في الحرام عمدا ، وهذا معنى قولهم : المعاصي تسوق إلى الكفر ، ( كالراعي ) : ضرب مثل ، وفائدته تجلية المعان المعقولة بصور المحسوسات لزيادة الكشف ، وله شأن عجيب في إبراز الحقائق ، ورفع الأستار عن وجوه الدقائق ، ولذا كثر في القرآن والحديث ، والمعنى : حال من وقع في الشبهات حيث يخاف عليه أنه يقع في المحرمات ، كحال الراعي أي : الراتع ( يرعى ) : صفة الراعي لأنه في المعنى كالنكرة ، ويحتمل أن يكون حالا ( حول الحمى ) بكسر المهملة وفتح ميم مخففة ، وهو المرعى الذي يحميه السلطان من أن يرتع منه غير رعاة دوابه ، وهذا المنع غير جائز إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله " لا حمى إلا لله ورسوله " ( يوشك ) : أي : يقرب ويسرع ( أن يرتع فيه ) : أي : في نفس الحمى بناء على تساهله في المحافظة ، وجراءته على الرعي ، وعدم الفرق بينه وبين غيره ، فيستحق عقاب الملك . وفي بعض الروايات بلفظ : أن يقع فيه ، وفي لفظ : أن يواقعه ، فالراعي يكون متعديا بمعنى من يرعى الغنم والإبل ونحوها . ( ألا ) : مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ( وإن لكل ملك ) : أي : على ما كان عليه الجاهلية ، أو إخبار عما [ ص: 1893 ] يكون عليه ظلمة الإسلامية ( حمى ) : يمنع الناس عنه ويعاقبون عليه ، والأظهر أن الواو هي الابتدائية التي تسمى النحاة الاستئنافية على انقطاع ما بعدها عما قبلها في الجل ، كما ذكره صاحب المغني ، والتحقيق أنها عاطفة لما يفهم من لفظه : ( ألا ) أنبه ، ومن قوله : ( إن لكل ملك ) ( حقا ) ، فبهذا التأويل صح العطف ، إذ عطف المفرد على الجملة لا يصح إلا باعتبار أن يتضمن المفرد معنى الفعل كما حقق في قوله - تعالى : فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ( ألا وإن حمى الله محارمه ) : وهي أنواع المعاصي ، فمن دخله بارتكاب شيء منها استحق العقوبة عليها ، فمنها ما لا يغفر وهو الشرك ، ومنها ما يكون تحت المشيئة ، والكل مغفور بالتوبة ، والحاصل أنه شبه المحارم من حيث إنها ممنوع التبسيط فيها بحمى السلطان ، ولما كان التورع والتهتك مما يستتبع ميلان القلب إلى الصلاح والفساد نبه على ذلك بقوله : ( ألا وإن في الجسد مضغة ) وهي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ ، وسمي القلب بها لأنها قطعة من الجسد . قال العلماء : المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد ، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان له . ( إذا صلحت ) : بفتح اللام وضمها ، فالأول أو صح أي : إذا تنورت بالإيمان والعرفان والإيقان ( صلح الجسد ) : أي : أعضاؤه ( كله ) : بالأعمال والأخلاق والأحوال " وإذا فسدت " بفتح السين وقيل ضمها أيضا أي : ( إذا تلفت وأظلمت بالجحود والشك والكفران ( فسد الجسد كله ) : أي : بالفجور والعصيان ، فعلى المكلف أن يقبل عليها ويمنعها عن الانهماك في الشهوات ، حتى لا يغادر إلى الشبهات ، ولا يستعمل جوارحه باقتراف المحرمات . ( وألا وهي ) : أي المضغة الموصوفة ( القلب ) : فهو كالملك ، والأعضاء كالرعية ، فأهم الأمور مراعاته ، فإن صدر عنه إرادة صالحة تحرك الجسد حركة صالحة وبالعكس ، وهذا معنى ما قيل : الناس على دين ملوكهم ، والإناء يترشح بما فيه ، والقلب لغة صرف الشيء إلى عكسه ، ومنه القلب سمي به لكثرة تقلبه ، كما أشار إليه حديث : إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " . وفي حديث آخر : " مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن " . ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . وقد قال الشاعر :


قد سمي القلب قلبا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل



وله ظاهر ، وهو المضغة الصنوبرية المودعة في التجويف الأيسر من الصدر ، وهو محل اللطيفة الإنسانية . ولذا نسب إليه الصلاح والفساد ، وباطن وهو اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية ، وبها يكون الإنسان إنسانا ، وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي ، وبها صلاح البدن وفساده ، وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها بالنفس الناطقة . قال - تعالى : ونفس وما سواها والروح قال عز وجل : قل الروح من أمر ربي وهو مقر الإيمان " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " ، كما أن الصدر محل الإسلام أفمن شرح الله صدره للإسلام والفؤاد مقر المشاهدة ما كذب الفؤاد ما رأى " واللب مقام التوحيد إنما يتذكر أولو الألباب الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي ، وبقوا بلب الوجود الحقيقي ، لكن معرفته كما هي متعذرة ، والإشارة إلى حقيقتها على أرباب الحقائق متعسرة ، هذا وفي الحديث إشارة إلى أن صلاحه إنما هو بأن يتغذى بالحلال فيصفو ، ويتأطر القلب بصفائه ويتنور ، فينعكس نوره إلى الجسد فيصدر منه الأعمال الصالحة ، وهو المعني بصلاحها ، وإذا تغذى بالحرام يصير مرتعا للشيطان والنفس ، فيتكدر ويتكدر القلب فيظلم ، وتنعكس ظلمته إلى البدن فلا يصدر منه إلا المعاصي ، وهو المراد بفسادها . هذا زبدة كلام بعض المحققين ، وخلاصة تحقيق بعض المدققين . [ ص: 1894 ] وفي شرح السنة : هذا الحديث أصل في الورع ، وهو أن ما اشتبه أمره في التحليل والتحريم ولا يعرف له أصل متقدم ، فالورع أن يتركه ويجتنبه ، فإنه إذ لم يتركه واستمر عليه واعتاده جر ذلك إلى الوقوع في الحرام ، فلو وجد في بيته شيئا لا يدري هل هو له أو لغيره فالورع أن يجتنبه ، ولا عليه إن تناوله لأنه في يده ، ويدخل في هذا الباب معاملة من في ماله شبهة أو خالطه ربا ، فالأولى أن يحترز عنها ويتركها ، ولا يحكم بفسادها ما لم يتيقن أن عينه حرام ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه من يهودي بشعير أخذه لقوت أهله ، مع أنهم يربون في معاملاتهم ويستحلون أثمان الخمور . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : لا تسأل السلاطين فإن أعطوك من غير مسألة فاقبل منهم ، فإنهم يصيبون من الحلال أكثر مما يعطونك . وروي عن ابن سيرين أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يأخذ جوائز السلطان ، وكان القاسم بن محمد ، وابن سيرين وابن المسيب لم يقبلوا جوائز السلطان ، فقيل لابن المسيب ؟ قال : قد ردها من هو خير مني على من هو خير منه . قال أبو حامد محمد الغزالي - رحمه الله : إن السلاطين في زماننا هذا ظلمة ، قلما يأخذون شيئا على وجهه بحقه ، فلا تحل معاملتهم ولا معاملة من يتعلق بهم حتى القاضي ، ولا التجارة التي في الأسواق التي بنوها بغير حق ، والورع اجتناب الربط والمدارس والقناطر التي بنوها بالأموال المغصوبة التي لا يعلم مالكها . وروى ابن الأثير في كتاب المناقب عن ابن شهاب قال : كنت ليلة مع سفيان الثوري فرأى نارا من بعيد فقال : ما هذا ؟ فقلت : نار صاحب الشرطة ، فقال : اذهب بنا في طريق آخر لأنه يستضيء بنارهم ، قلت : وما أنسب قوله - تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ( متفق عليه

التالي السابق


الخدمات العلمية