صفحة جزء
2774 - وعن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا وابصة جئت تسأل عن البر والإثم ؟ " قلت : نعم قال : فجمع أصابعه ، فضرب بها صدره وقال : ( استفت نفسك ، استفت قلبك ) ثلاثا . البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس ) رواه أحمد والدارمي .


2774 - ( وعن وابصة ) : بكسر الموحدة ( ابن معبد ) أي الأسدي ، أسلم سنة تسع ، كان كثير البكاء لا يملك دمعته ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا وابصة جئت تسأل عن البر ) : بالكسر أي الإحسان ، وهو اسم جامع للخير كله ومنه قوله - تعالى : ( ولكن البر من اتقى ) ( والإثم ) : ( أي الذنب وحاصلهما الطاعة والمعصية ، ( فقلت : نعم ) ، وهذا من دلائل النبوة لأنه أخبره عما أضمر قبل أن يتكلم به ، ( قال ) : أي وابصة ( فجمع ) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أصابعه ) ، أي أصابع يده فضرب به صدره ) ، يحتمل أن يرجع ضمير صدره إلى وابصة على طريق الالتفات ، وقد جزم به الطيبي ، ثم قال : وقيل : الضمير في صدره يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أوهمه قوله قال : ويجوز أن يكون من كلام الراوي غير وابصة وهو أولى بسياق المعنى كما أمر اهـ .

وقال ابن الملك : أي وضعها عليه ليبين أن القلب في الصدر ، يعني بإزائه وجانبه من الشق الأيسر ، وليحصل له بمماسة اليد الكريمة النهي التام لفهم تلقي الكلام في ذلك المقام ، وقيل : الضمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون نظير ما ورد من حديث : أن التقوى ها هنا والله - تعالى - أعلم . ( وقال : استفت نفسك ، استفت قلبك ) واقتصر النووي - رحمه الله - على الثاني ، فكان الجمع بينهما لتأكيد أي : اطلب الفتوى من قلبك ، لأنه بلغ في سلوك طريق الكمال وطلب الوصول بعين الوصال إلى مقام القلب ، وبيان ذلك أن سير الإنسان إلى الحق إنما هو بالباطن ، وإن كان مع استعانة الظاهر لصعود الهيئات البدنية إلى خير النفس والقلب ، وهبوط الهيئات النفسانية والقلبية إلى الظاهر لعلاقة بينهما ، واشتقاق الفتوى من الفتو لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم ، أو تقوية مشكل ، كذا في المغرب يعني أنه حظ في الفتوى ما ينبئ عنه الفتو من القوة والحدوث ، ( ثلاثا ) : ظرف لقال تأكيدا ، ويحتمل أن يكون لقوله : استفت فيكون بمنزلة تكرر الاستخارة ( البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ) .

قال القاضي - رحمه الله - : المعنى أن الشيء إذا أشكل على السالك والتبس ولم يتبين أنه من أي القبيلين هو ، فليتأمل إن كان من أهل الاجتهاد ، وليسأل المجتهدين إن كان من المقلدين ، فإن وجد ما يسكن إليه نفسه ، ويطمئن به قلبه ، وينشرح به صدره ، فليأخذ به وليختره لنفسه ، وإلا فليدعه وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة ، وهذا [ ص: 1901 ] طريقة الورع والاحتياط وحاصله راجع إلى حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ولعله إنما عطف اطمئنان القلب على اطمئنان النفس للتقرير والتأكيد ، فإن النفس إذا ترددت في أمر وتحيرت فيه ، وزال عنها القرار استتبع ذلك خفقانا للقلب للعلاقة التي بينها وبين القلب الذي هو متعلق الأول لها ، فتنقل العلاقة إليه من تلك الهيئة أثرا فيحدث فيه خفقان واضطراب ، ثم ربما يسري هذا الأثر إلى سائر القوى ، فتحس بها الحلال والحرام ، فإذا زال ذلك عن النفس وحدث لها قرار وطمأنينة انعكس الأمر ، وتبدلت الحال على ما لها من الفروع والأعضاء وقيل : المعني بهذا الأمر أرباب البصائر من أهل النظر والفكر المستقيمة وأصحاب الفراسات من ذوي النفوس المرتاضة والقلوب السليمة ، فإن نفوسهم بالطبع تصبو إلى الخير وتنبو عن الشر ، فإن الشيء ينجذب إلى ما يلائمه وينفر عما يخالفه ، ويكون ملهمة للصواب في أكثر الأحوال قال التوربشتي - رحمه الله : وهذا القول وإن كان غير مستبعد ، فإن القول بحمله على العموم فيمن يجمعهم كلمة التقوى وتحيط بهم دائرة الدين أحق وأهدى . اهـ .

وقيل : النفس لغة حقيقة الشيء ، واصطلاحا لطيفة في الجسد تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معا ( والإثم ما حاك ) : من حاك يحيك ، وقال الزمخشري : حك بكاف مشددة ( في النفس ) أي أثر فيها ولم يستقر ، وفي المفاتيح : أي أثر في قلبك أوهمك أنه ذنب ، ويؤيده ما ورد : إن الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس . ( وتردد في الصدر ) أي : ولم ينشرح له ، وهذا لمن شرح الله صدره للإسلام ، فهو على نور من ربه ( وإن أفتاك الناس ) أي : وإن قالوا لك إنه حق فلا تأخذ بقولهم فإنه قد يوقع في الغلط وأكل الشبهة ، كأن ترى من له مال حلال وحرام ، فلا تأخذ منه شيئا ، وإن أفتاك المفتي مخافة أن تأكل الحرام ، لأن الفتوى غير التقوى ، وهو شرطية قطعت عن الجزاء تتميما للكلام السابق وتقريرا له سبيل المبالغة ، وزاد في حديث الأربعين قوله : ( وأفتوك ) تأكيدا وفي هذا المعنى أنشد بعض أرباب المعنى :


اتخذ طاعة الإله سبيلا تجد الفوز بالجنان وتنجو




واترك الإثم والفواحش طرا     يؤتك الله ما يدوم وينجو


( رواه أحمد ، والدارمي ) قال النووي : حديث حسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية