صفحة جزء
12 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة . فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله " متفق عليه ، إلا أن مسلما لم يذكر إلا بحق الإسلام .


12 - ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما ) : مر ذكره [ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت ) ] : لم يذكر الآمر للعلم به ، أي أمرني ربي بالوحي الجلي أو الخفي [ ( أن أقاتل الناس ) ] أي : بأن أجاهدهم وأحاربهم . فـ " أن " مصدرية ، أو مفسرة لما في الأمر من معنى القول [ ( حتى يشهدوا ) ] وفي رواية : حتى يقولوا [ ( أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) ] أكثر الشراح على أن المراد بالناس عبدة الأوثان دون أهل الكتاب ؛ لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، ولا يرفع عنهم السيف إلا بالإقرار بنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - أو إعطاء الجزية ، ويؤيده رواية النسائي : أمرت أن أقاتل المشركين ، ولا يتم هذا إلا على رواية لم يوجد فيها ، وأن محمدا رسول الله . وقال الطيبي : المراد الأعم ، لكن خص منه أهل الكتاب بالآية . قيل : وهو الأولى لأن الأمر بالقتال نزل بالمدينة مع كل ما يخالف الإسلام ، قال ابن الصباغ في " الشامل " : لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض عليه التوحيد والتبليغ وقراءة القرآن بقوله : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ثم فرض الصلاة بمكة ، وفرض الصوم بعد سنتين من الهجرة ، والحج في السنة السادسة أو الخامسة ، وأما الزكاة فقيل بعد الصيام ، وقيل قبله ، وأما الجهاد فلم يؤذن له بمكة ، وأذن له بالمدينة لمن ابتدأ به ، ثم ابتدأهم به دون الحرم والأشهر الحرم ، ثم نسخ ذلك وأبيح ابتداؤهم في الأشهر الحرم والحرم . وقال ابن حجر : حتى غاية لـ " أمرت " أو " أقاتل " وهو أولى ، أي إلى أن يأتوا بأربعة أشياء : ما لم يعطوا الجزية إن كانوا من أهلها ، أو يعقد لهم أمان أو هدنة إن كانوا من غير أهلها كما استفيد من أدلة أخرى اهـ .

وقوله : وهو أولى ، خلاف الأولى ؛ لأن الغاية تتعين للمقاتلة القابلة للاستمرار ، ولا يصح أن يكون غاية للأمر ؛ لعدم الاستقرار [ ( ويقيموا الصلاة ) ] أي المفروضة ، بأن يأتوا بشرائطها وأركانها المجمع عليها . قيل فيه دليل لمذهب الشافعي أن تارك الصلاة يقتل بشرطه المقرر في الفقه ، وفيه أن الكلام في المقاتلة لا في القتل ، ومقاتلة الإمام لتاركي الصلاة إلى أن يأتوا بها محل وفاق مع أنه منقوض بترك الزكاة فإنه لم يقل به أحد . [ ( ويؤتوا الزكاة ) ] : وهي لا تكون إلا مفروضة ، وفيه دليل لقتال مانعيها ، ولا نزاع فيه ، ومن ثم قاتلهم الصديق ، وأجمع عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وقيل : معناه حتى يقبلوا فرضيتهما ، ثم قيل : أراد الخمسة التي بني الإسلام عليها ، وإنما خصتا بالذكر لأنهما أم العبادات البدنية والمالية وأساسهما ، والعنوان على غيرهما ، ولذا كانت الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام ، وقرن بينهما في القرآن كثيرا ، أو لكبر شأنهما على النفوس لتكررهما ، أو لم يكن الصوم والحج مفروضين حينئذ ، والمراد : حتى يسلموا . ويدل عليه رواية البخاري ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ) ؛ ولهذا حذفتا في رواية استغناء عنهما بالشهادتين لأنهما الأصل ، والتحقيق أن يقال : الشهادة إشارة إلى تخلية لوح القلب عن الشرك الجلي والخفي ، وسائر النقوش الفاسدة الردية ، ثم تحليته بالمعارف اليقينية ، والحكم الإلهية ، والاعتقادات الحقية ، وأحوال المعاد ، وما يتعلق بالأمور الغيبية والأحوال الأخروية ؛ لأن من أثبت الله بجميع أسمائه وصفاته التي دل عليها اسم الله ، ونفى غيره ، وصدق رسالة النبي بنعت الصدق والأمانة - فقد وفى بعهدة عهده ، وبذل غاية جهده في بداية جهده ، وآمن بجميع ما وجب من الكتب ، والرسل ، والمعاد ، ولذا لم يتعرض لأعداد سائر الأعداد ، وإقامة الصلاة إرشاد إلى ترك الراحات البدنية ، وإتعاب الآلات الجسدية ، وهي أم العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر [ ص: 81 ] عنها البواقي ، ولذا استغنى عن عدها وترك السيئات ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وإيتاء الزكاة هو الإعراض عن الفضول المالية ، بل عن كل موجود وهمي بالموجود الحقيقي ، وبذل المال الذي هو شقيق الروح ؛ لاستفتاح أبواب الفتوح ، واللام فيهما للعهد أو ، للجنس فينصرف إلى الكامل كقولهم : هو الرجل كأن ما عدا صلاة المسلمين وزكاتهم ليس صلاة ولا زكاة . [ ( فإن فعلوا ذلك ) ] أي المذكور من الشهادتين والصلاة والزكاة ، ويسمى القول فعلا ؛ لأنه عمل اللسان ، أو تغليبا [ ( عصموا ) ] بفتح الصاد أي : حفظوا ومنعوا [ ( مني ) ] أي من أتباعي أو من قبلي وجهة ديني [ ( دماءهم وأموالهم ) ] أي استباحتهم بالسفك والنهب المفهوم من المقاتلة [ ( إلا بحق الإسلام ) ] أي دينه ، والإضافة لامية ، والاستثناء مفرغ من أعم عام الجار والمجرور ، أي إذا فعلوا ذلك لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب ، إلا بحق الإسلام من استيفاء قصاص نفس أو طرف ، إذا قتل أو قطع ، ومن أخذ مال إذا غصب ، إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية ، كقتل لنحو زنا محصن ، وقطع لنحو سرقة ، وتغريم مال لنحو إتلاف مال الغير المحترم ، وقال ابن مالك : استثناء من الدماء والأموال بحذف موصوف ، أي إلا دماء أو أموالا ملتبسة بحق ، [ وحسابهم ] أي فيما يسترون من الكفر والمعاصي بعد ذلك [ على الله ] ، والجملة مستأنفة ، أو معطوفة على جزاء الشرط ، والمعنى أنا نحكم بظاهر الحال والإيمان القولي ، ونرفع عنهم ما على الكفار ، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم ، لا أنهم مخلصون ، والله يتولى حسابهم ، فيثيب المخلص ، ويعاقب المنافق ، ويجازي المصر بفسقه ، أو يعفو عنه ، وفيه دليل على أن من أظهر الإسلام وأبطن الكفر يقبل إسلامه في الظاهر ، وذهب مالك إلى أنه لا تقبل توبة الزنديق ، وهو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، ويعلم ذلك بأن يقر أو يطلع منه على كفر كان يخفيه ، فقيل : لا تقبل ويتحتم قتله ، لكنه إن صدق في توبته نفعه في الآخرة ، وقيل : يقبل منه مرة فقط ، وقيل : ما لم يكن تحت السيف ، وقيل : ما لم يكن داعية للضلال ، وقيل : معنى الحديث أن القتال والعصمة إنما هما في الأحكام الدنيوية ، وأما الأمور الأخروية من الثواب والعقاب وكميتها وكيفيتها ، فهو مفوض إلى الله تعالى لا دخل لنا فيه اهـ .

وقد يرجع إلى المعنى الأول ، فتأمل . وقيل : معناه أن الحساب كالواجب في تحقق الوقوع ، وقيل : هو واجب شرعا بحسب وعده تعالى به ، فيجب أن يقع لا أنه تعالى يجب عليه شيء فلا حجة فيه للمعتزلة في زعمهم وجوبه على الله تعالى عقلا ، ثم الحساب مصدر كالمحاسبة ، وهو العد . قيل : ومعنى حسابهم على الله أنه يعلمهم ما لهم وما عليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم ، وبما لهم من الثواب والعقاب . عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق ، بل يقفون بين يدي الله ، ويعطون كتبهم بأيمانهم ، فيقال : قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم فيقال : قد ضاعفتها لكم ، فيكون مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب ؛ لأن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له أو عليه ، أو أنه يجازيهم إذ الحساب سبب للأخذ والإعطاء . قال تعالى : ( والله سريع الحساب ) ومعنى سرعته أن قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في إحداث شيء إلى فكر ، وروية ، ومدة ، وعدة ؛ ولذا ورد أنه يحاسب الخلق في مقدار حلبة شاة أو في لمحة . ( متفق عليه ) أي اتفق البخاري ومسلم على رواية جميع الحديث المذكور ، إلا أن مسلما لم يذكر : [ إلا بحق الإسلام ] : لكنه مراد ، ورواه النسائي ، وابن ماجه من حديث جابر ، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى : ( فإن تابوا ) أي عن الكفر بإتيان الشهادتين ( وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وفي الجامع [ ص: 82 ] الصغير رواه الجماعة عن أبي هريرة ، وهو متواتر ، أي معنوي ، بلفظ : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) ، وفي الجامع الكبير روى ابن جرير ، والطبراني عن أنس وحسنه " ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها ) قيل : وما حقها ؟ قال : ( زنا بعد إحصان ، أو كفر بعد إسلام ، أو قتل نفس فيقتل بها ) اهـ .

ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الإقرار شرط لصحة الإسلام وترتب الأحكام ، ورد بليغ على المرجئة في قولهم : إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال ، ودليل على عدم تكفير أهل البدع من أهل القبلة المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية