صفحة جزء
[ ص: 2156 ] ( 13 ) باب في كون الرقبة في كفارة مؤمنة

الفصل الأول

3303 - عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ! إن جارية كانت لي ترعى غنما لي فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم ، فسألتها عنها فقالت : أكلها الذئب ; فأسفت عليها وكنت من بني آدم ، فلطمت وجهها ، وعلي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أين الله ؟ ) : فقالت : في السماء فقال : ( من أنا ؟ ) : فقالت : أنت رسول الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعتقها ) رواه مالك .

وفي رواية مسلم قال ، كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمنا ، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون ، لكن صككتها صكة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظم ذلك علي . قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! أفلا أعتقها ؟ قال : ( ائتني بها ) : فأتيت بها . فقال لها : ( أين الله ؟ ) : قالت : في السماء . قال : ( من أنا ) : قالت : أنت رسول الله قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) :


[ 13 ] - باب في كون الرقبة في كفارة مؤمنة

يحتمل الرفع والسكون أي : باب كون الرقبة في الكفارة مؤمنة ، وأراد المصنف الاستظهار بأن الرقبة في كفارة الظهار يشترط أن تكون مؤمنة . وقال في شرح الوقاية : وجاز فيها المسلم والكافر ، وفيه خلاف الشافعي وتحقيقه في أصول الفقه في حمل المطلق على المقيد ، اهـ . فالتقييد في الحديث الآتي بالإيمان إما لمواد مخصوصة لا يجوز فيها إلا المؤمنة ككفارة القتل خطأ ، وإما بيانا للأفضل والأكمل ، والله - تعالى - أعلم بالحال .

الفصل الأول

3303 - ( عن معاوية بن الحكم ) : أي : السلمي ، كان نزل المدينة وعداده في أهل الحجاز ، روى عنه ابن كثير وعطاء بن يسار وغيرهما ، مات سنة سبع عشرة ومائة ( قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله ! إن جارية ) : أي : أمة ( كانت لي ) : أي : مملوكة ( ترعى غنما لي ) : أي : لا لغيري ( فجئتها وقد فقدت ) : بصيغة المعلوم المتكلم ، وفي نسخة بصيغة المجهول الغائبة ( شاة ) : بالنصب على الأول ، وبالرفع على الثاني ، والجملة حالية ( من الغنم : أي : من قطيعه ، ومن تبعيضية ( فسألتها ) : أي : الجارية ( عنها ) : أي : عن الشاة ( قالت : أكلها الذئب ) : بالهمز ويبدل أو الياء لغة ( فأسفت ) : بكسر السين ( عليها ) : أي : غضبت على الجارية أو حزنت على الشاة ( وكنت من بني آدم ) : عذر لغضبه وحزنه السابق ولطمه اللاحق ( فلطمت ) : أي : ضربت ببطن الكف ( وجهها ) : فإن الإنسان مجبول على نحو ذلك ( وعلي رقبة ) : أي : إعتاق رقبة من وجه آخر غير هذا السبب ( أفأعتقها ) : أي : عنه أو عنهما ، لما روي عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه " : كما سيجيء في الفصل الأول من باب النفقات ( قال لها ) : أي : للجارية ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أين الله ؟ ) : وفي رواية : ( أين ربك ؟ ) : أي : أين مكان حكمه وأمره وظهور ملكه وقدرته ( قالت : في السماء ) . قال القاضي : هو على معنى الذي جاء أمره ونهيه من قبل السماء لم يرد به السؤال عن المكان ، فإنه منزه عنه كما هو منزه عن الزمان ، بل مراده - صلى الله عليه وسلم - من سؤاله إياها أن يعلم أنها موحدة أو مشركة ؟ لأن كفار العرب كانوا يعبدون الأصنام ، وكان لكل قوم منهم صنم مخصوص يكون فيما بينهم يعبدونه ويعظمونه ، ولعل سفهاءهم وجهلتهم كانوا لا يعرفون معبودا غيره ، فأراد أن يتعرف منها ما تعبد ، فلما قالت : في السماء ، وفي رواية : أشارت إلى السماء فهم أنها موحدة يريد بذلك نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكانا له ، تعالى الله عما يقول الظالمون علو كبيرا ، ولأنه لما كان مأمورا بأن يكلم الناس على قدر عقولهم ويهديهم إلى الحق على حسب فهمهم ، ووجدها تعتقد أن المستحق للعبودية إله يدبر الأمر من السماء إلى الأرض لا الآلهة التي يعبدها المشركون قنع منها بذلك ، ولم يكلفها اعتقاد ما هو صرف التوحيد حقيقة التنزيه ، وقيل : معناه أن أمره ونهيه ورحمته ووحيه جاءت من السماء فهو كقوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء ) قيل : وقد جاء في بعض الأحاديث أن هذه الجارية كانت خرساء ، ولهذا جوز الشافعي الأخرس في العتق فقوله : ( قالت في السماء ) : بمعنى أشارت إلى السماء كما في رواية قال شارح الوقاية : وجاز الأصم أي : من يكون في أذنه وقر ، أما من لم يسمع أصلا فينبغي أن لا يجوز ; لأنه فائت جنس المنفعة . ( قال : من أنا ؟ ) : قالت : أنت رسول الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعتقها ) : أمر إجازة ( رواه مالك ) .

[ ص: 2157 ] ( وفي رواية مسلم قال ) : أي : معاوية ( كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد ) : بكسر القاف وفتح الباء أي : جانبه ، وأحد بضمتين جبل معروف في المدينة ( والجوانية ) : بتشديد الواو موضع قريب أحد ( فاطلعت ) : بتشديد الطاء أي : أشرفت على الغنم ( ذات يوم ) : أي : يوما من الأيام أو نهارا ، " ذات " : زائدة ( فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمنا ) : إذا للمفاجأة ، واللام في الذئب للعهدية الذهنية نحو قوله تعالى : ( إذ هما في الغار ) ، ( وأنا رجل من بني آدم آسف ) : بهمزة ممدودة وفتح سين ، أي : أغضب ( كما يأسفون ، لكن ) : أي : وأردت أن أضربها ضربا شديدا على ما هو مقتضى الغضب لكن ( صككتها صكة ) : أي : لطمتها لطمة ( فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعظم ) : بالتشديد والفتح ( ذلك علي ) : أي : كثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر أو الضرب علي ، وفي نسخة بالتخفيف والضم ( قلت ) : وفي نسخة : فقلت ، ( يا رسول الله ! أفلا أعتقها ) : قال الطيبي - رحمه الله - تعالى - : فإن قلت : كيف التوفيق بين الروايتين ؟ قلت : الرواية الأولى متضمنة لسؤالين صريحا ; لأن التقدير كان علي عتق رقبة كفارة ، وقد لزمني من هذه اللطمة إعتاقها ، أفيكفيني إعتاقها للأمرين جميعا ؟ والرواية الثانية مطلقة تحتمل الأمرين ، والمطلق محمول على المقيد ، ومما يدل على أن السؤال ليس عن مجرد اللطمة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الجارية عن إيمانها اهـ .

والظاهر أن الإعتاق عن اللطمة مستحب ، فيندرج في ضمن الإعتاق الواجب فليس من باب تداخل الكفارة كما توهم قال : ( ائتني بها ) : الباء للتعدية أي : احضر بها لي ( فأتيته بها . فقال لها : ( أين الله ؟ ) : أي : أين المعبود المستحق الموصوف بصفات الكمال ؟ ( قالت : في السماء ) : أي : كما في الأرض والاقتصار من باب الاكتفاء . قال - تعالى - جل جلاله ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) وقال الله عز وجل : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) ويمكن أن يكون الاقتصار لدفع توهم الشركة في العبودية ردا على عبدة الأصنام الأرضية قال : ( من أنا ؟ ) : قالت : أنت رسول الله قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) : أي : بالله وبرسوله ، وبما جاء من عندهما ، وهذا يدل على قبول الإيمان الإجمالي ونفي التكليف الاستدلالي .

التالي السابق


الخدمات العلمية