صفحة جزء
3395 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، فلما كان عمر نهانا عنه ، فانتهينا . رواه أبو داود .


3395 - ( وعن جابر قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ) : أي في زمانه ( وأبي بكر ، فلما كان عمر ) : أي وجد وصار خليفة ( نهانا عنه ) : أي عن بيع أم الولد ( فانتهينا ) : قال التوربشتي : يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة ، ويحتمل أن بيعهم في زمان النبي - عليه الصلاة والسلام - كان قبل النسخ ، وهذا أولى التأويلين ، وأما بيعهم في خلافة أبي بكر ، فلعل ذلك كان في قضية فرد فلم يعلم به أبو بكر - رضي الله عنه - ولا من كان عنده علم بذلك ، فحسب جابر أن الناس كانوا على تجويزه فحدث ما تقرر عنده في أول الأمر ، فلما اشتهر نسخه في زمان عمر - رضي الله عنه - عاد إلى قول الجماعة ، يدل عليه قوله : فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا ، وقوله : هذا من أقوى الدلائل على بطلان بيع أمهات الأولاد ، وذلك أن الصحابة لو لم يعلموا أن الحق مع عمر لم يتابعوه عليه ، ولم يسكتوا عنه أيضا ، ولو علموا أنه يقول ذلك عن رأي واجتهاد لجوزوا خلافه ، لا سيما الفقهاء منهم ، وإن وافقه بعضهم خالفه آخرون ، ويشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس : إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه . فإن قيل : أوليس علي - رضي الله عنه - قد خالف القائلين ببطلانه ؟ قيل : لم ينقل عن علي كرم الله وجهه خلاف إجماع آراء الصحابة على ما قال عمر ، ولم يصح عنه أنه قضى بجواز بيعهن ، أو أمر بالقضاء به ، بل الذي صح عنه أنه كان مترددا في القول به ، وقد سأل شريحا عن قضائه فيه أيام خلافته بالكوفة ، فحدثه أنه يقضي فيه بما اتفق عليه الصحابة عند نهي عمر عن بيعهن منذ ولاه عمر القضاء بها فقال لشريح : فاقض فيه بما كنت تقضي حين يكون للناس جماعة فأرى فيه ما [ ص: 2228 ] رأى عمر ، وفاوض فيه علماء الصحابة ، وهذا الذي نقل عنه محمول على أن النسخ لم يبلغه أو لم يحضر المدينة يوم فاوض عمر علماء الصحابة فيه ، وجملة القول أن إجماعهم في زمانه على ما حكم هو به لا يدخله النقض بأن يرى أحدهم بعد ذلك خلافه اجتهادا ، والقوم رأوا ذلك توقيفا ، لا سيما ولا يقطع على القول بخلافه ، وإنما تردد فيه ترددا . وقال الشمني : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر ببيعهم إياها ، ولا يكون حجة إلا إذا علم به وأقرهم عليه ، ويحتمل أن يكون ذلك أول الأمر ، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ولم يعلم به أبو بكر لقصر مدة خلافته واشتغاله بأمور المسلمين ، ثم نهى عنه عمر لما بلغه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، كما قيل في حديث جابر في المتعة الذي رواه مسلم : كنا نتمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، حتى نهانا عمر .

قال ابن الهمام : أم الولد تصدق لغة على ما إذا ثبت نسبه من له ولد ثابت النسب . وفي عرف الفقهاء أخص من ذلك ، وهي الأمة التي يثبت نسب ولدها من مالك كلها أو بعضها ، ولا يجوز بيعها ولا تمليكها ولا هبتها ، بل إذا مات سيدها ولم ينجز عتقها تعتق بموته من جميع المال ولا تسعى لغريم ، وإن كان السيد مديونا مستغرقا . وهذا مذهب جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء إلا من لا يعتد به ، كبشر المريسي وبعض الظاهرية ، فقالوا : يجوز بيعها ، واحتجوا بحديث جابر ، ونقل هذا المذهب عن الصديق وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير ، لكن عن ابن مسعود بسند صحيح ، وابن عباس : تعتق من نصيب ولدها . ذكره ابن قدامة . فهذا يصرح برجوعهما على تقدير صحة الرواية الأولى عنهما . ( رواه أبو داود ) : وقال الحاكم : على شرط مسلم .

وأخرج النسائي عن زيد العمي إلى أبي سعيد الخدري : كنا نبيعهن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وصححه الحاكم ، وأعله العقيلي بزيد العمي ، وقال النسائي : زيد العمي ليس بالقوي ، واستدل بعضهم للجمهور بما في أبي داود من طريق محمد بن إسحاق ، عن خطاب بن صالح ، عن أمه ، عن سلامة بنت معقل امرأة من خارجة بن قيس غيلان ، وذكر البيهقي أنه أحسن شيء روي عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب قالت : قدم ابن عمي في الجاهلية فباعني من الحباب بن عمر أخي أبي اليسر بن عمر ، فولدت له عبد الرحمن بن الحباب ، ثم هلك فقالت امرأته : الآن والله تباعين في دينه ، فأتيت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فقلت : يا رسول الله ! إني امرأة من خارجة بن قيس غيلان قدم بي عمي المدينة في الجاهلية ، فباعني من الحباب بن عمر أخي أبي اليسر بن عمر ، فولدت له عبد الرحمن فمات فقالت امرأته : الآن تباعين في دينه ، فقال عليه السلام : من ولي الحباب ، قيل : أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو ، فبعث إليه : أعتقوها ، فإذا سمعتم برقيق قدم علي فأتوني أعوضكم . قالت : فأعتقوني ، وقدم على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - رقيق فعوضهم عني غلاما ، ولا يخفى أن هذا لا يدل على أنها تعتق بمجرد موته ، بل على أنه سألهم أن يعتقوها ويعوضهم ، فيحتمل أن يراد بأعتقوا خلوا سبيلها كما فسره البيهقي ، وأن العوض من باب الفضل منه عليه السلام ، لكن هذا احتمال غير ظاهر ، والعبرة للظاهر ، فلا يصار إلى هذا إلا بدليل من خارج يوجبه ويعينه ، فمن ذلك ما ذكره المصنف يعني صاحب الهداية أنه عليه السلام قال في مارية القبطية : أعتقها ولدها . وطريقه معلول بأبي بكر بن عبد الله بن سيرين ، وحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، وبسند ابن ماجه ، ورواه ابن عدي ، لكن أعله ابن سيرين فقط ، فإنه يروي أن حسينا ممن يكتب حديثه .

وأخرج ابن ماجه أيضا عن شريك ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - : " أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته " . ورواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ، وهذا توثيق لحسين ، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ، حدثنا زفر ، حدثنا إسماعيل بن أبي قبيس ، حدثنا أبو علي حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عنه عليه السلام قال : أيما رجل ولدت منه أمة فهي معتقة عن دبر [ ص: 2229 ] منه . والطرق كثيرة في هذا المعنى ، ولذا قال الأصحاب : إنه مشهور تلقته الأمة بالقبول ، وإذ قد كثرت طرق هذا المعنى وتعددت واشتهرت فلا يضره وقوع راو ضعيف فيه ، مع أن ابن القطان قال في كتابه : وقد روي بإسناد جيد . قال قاسم بن أصبغ في كتابه : حدثنا محمد بن وضاح ، ثنا مصعب بن سعيد أبو خيثمة المصيصي ، ثنا عبد الله بن عمر ، وهو الرقي ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما ولدت مارية إبراهيم قال عليه السلام : أعتقها ولدها . ومن طريق ابن أصبغ رواه ابن عبد البر في التمهيد ، ومما يدل على صحة حديث : أعتقها ولدها . ما قال الخطابي : ثبت أنه عليه السلام قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، ولو كانت مارية جارية لبيعت وصار ثمنها صدقة . وعنه عليه السلام أنه نهى عن التفريق بين الأولاد والأمهات ، وفي بيعهن تفريق ، وإذا ثبت قوله : أعتقها . . . . إلخ . وهو متأخر عن الموت إجماعا وجب تأويله على مجاز الأول ، فيثبت في الحال بعض موجب العتق من امتناع تمليكها . وروى الدارقطني عن يونس بن محمد ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن عبد الله بن يسار ، عن ابن عمر : أنه عليه السلام نهى عن بيع أمهات الأولاد فقال : لا يبعن . وفي رواية له : لا يسعين . وفي رواية : ولا يجعلن من الثلث ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها ما دام حيا فإذا مات فهي حرة . أخرجه بسند فيه عبد الله بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، وأعله ابن عدي بعبد الله بن جعفر بن نجيح المدني ، وأسند تضعيفه إلى النسائي وغيره ، ولينه هو وقال : يكتب حديثه ، ثم أخرجه عن أحمد بن عبد الله العنبري ، عن معتمر ، عن عبد الله بن عمر موقوفا عليه . وأخرجه أيضا عن فليح بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن عمر موقوفا . قال ابن القطان : رواتهم ثقات . وعندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه .

وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال : أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يتمتع منها ، وإذا مات فهي حرة . وهكذا رواه سفيان الثوري ، وسليمان بن بلال وغيرهما عن عمر موقوفا . وأخرج الدارقطني من طريق عبد الرحمن الأفريقي ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر أعتق أمهات الأولاد وقال : أعتقهن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والأفريقي وإن كان غير حجة ، فقد تقدم ما يعضد رفعه معه ترجيح ابن القطان ، فثبت الرفع بما قلنا ، ولا شك في ثبوت وقفه على عمر ، وذكر محمد في الأصل حديث سعيد بن المسيب قال : أمر رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بعتق أمهات الأولاد من غير الثلاث وقال : لا يبعن في دين . وعدم مخالفة أحد لعمر حين أفتى به وأخبر ، فانعقد إجماع الصحابة على بيعهن ، فهذا يوجب أحد الأمرين إما أن بيع أمهات الأولاد في زمنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن بعلمه ، وإن كان مثل قول الراوي : كنا نفعل في عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - حكمه الرفع ، لكن ظاهرا لا قطعا ، فإذا قام دليل في خصوص منه وجب اعتباره ، وأما أنه كان يعلمه ويقره ثم نسخ ولم يظهر الناسخ لأبي بكر - رضي الله عنه - لقصر مدته مع اشتغاله فيها بحروب مسيلمة وأهل الردة ، ومانعي الزكاة ، ثم ظهر بعده كما عن ابن عمر : كنا نخابر أربعين سنة ، ولا نرى بذلك بأسا ، حتى أخبرنا رافع بن خديج أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن المخابرة فتركناها ، وهذا إذا قصرنا النظر على الموقوف أما بملاحظة المرفوعات المتعاضدة فلا شك ، ومما يدل على ثبوت ذلك الإجماع ما أسنده عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال : سمعت عليا يقول : اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن . فقلت له : رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة . فضحك علي كرم الله وجهه . واعلم أن رجوع علي - رضي الله عنه - يقتضي أنه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرر الإجماع ، والمرجح خلافه ، وسئل داود عن بيع أم الولد فقال : يجوز لأنا اتفقنا على جواز بيعها قبل أن تصير أم ولد ، فوجب أن تبقى كذلك ، إذ الأصل في كل ثابت دوامه واستمراره ، وكان أبو سعيد البرذعي حاضرا ، فعارضه فقال : قد زالت تلك الحالة بالإطلاق ، وامتنع بيعها لما حبلت بولد سيدها ، والأصل في كل ثابت دوامه فانقطع داود ، وكان له أن يجيب ويقول : الزوال كان لمانع عرض وهو قيام الولد في بطنها وزال بانفصاله فعاد ما كان ، فيبقى إلى أن يثبت المزيل اهـ . وهو نهاية التحقيق ، والله ولي التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية