صفحة جزء
[ ص: 2257 ] كتاب القصاص

الفصل الأول

3446 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والمارق لدينه التارك للجماعة " " متفق عليه .


كتاب القصاص بكسر أوله مصدر من المقاصة ، وهي المماثلة ، أو فعال من قص الأثر أي تبعه ، والوالي يتبع القاتل في فعله . المغرب : القص القطع وقصاص الشعر مقطعه ومنتهى منبته من مقدم الرأس إلى حواليه ، ومنه القصاص وهو مقاصة ولي المقتول القاتل ، والمجروح الجارح وهي مساواته إياه في قتل أو جرح ثم عم في كل مساواة .

الفصل الأول

3446 - ( عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ ) : أي إراقته ، وهذا المعنى متضح عرفا فلا إجمال فيه ، ولا في كل تحريم مضاف إلى الأعيان كما ظن ، والمراد بامرئ : الإنسان ، فإن الحكم شامل للرجال والنسوان إلا في جانب المرتدة فسيأتي البيان ( " مسلم " ) ، هو صفة مقيدة لامرئ ( " يشهد " ) : أي يعلم ويتيقن ويعتقد ( " أن لا إله إلا الله " ) : أي بوجوده ووجوب وجوده وتوحيده وتمجيده ( " وأني رسول " ) : أي إلى كافة خلقه . قال القاضي : يشهد مع ما هو متعلق به صفة ثانية جاءت للتوضيح والبيان ، ليعلم أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين ، وأن الإتيان بهما كاف للعصمة . وقال الطيبي رحمه الله : الظاهر أن يشهد حال جيء بها مقيدة للموصوف مع صفته إشعارا بأن الشهادتين بهما العمدة في حقن الدم ، ويؤيده قوله في حديث أسامة كيف تصنع بلا إله إلا الله . ( " إلا بإحدى ثلاث " ) : أي خصال ثلاث : قتل نفس بغير حق ، وزنا لمحصن ، والارتداد ، ففصل ذلك بتعداد المتصفين به المستوجبين القتل لأجله فقال : ( " النفس " ) : بالجر وجوز الرفع والنصب فيها وما عطف عليها ، كذلك قال الكازروني بالرفع خبر مبتدأ وبالجر بدل ، وبالنصب بتقدير أعني ، لكن الرواية على الأول اهـ . ولعله روايته وإلا فالمشهور الجر في مثل هذا التركيب ، كقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين وهو المفهوم من شرح الأربعين لابن حجر أي قاتل النفس . ( " بالنفس " ) ، ليلائمه ما بعده من قوله : ( " والثيب الزاني ، والمارق لدينه التارك للجماعة " ) . أو تقديره قتل النفس وزنا الثيب ومروق المارق ، ليكون بيانا للخصال الثلاث ، وبالنفس متعلق بفعل مقدر أي قتل ملتبس بالنفس كذا قيل ، والأظهر أن الباء للمقابلة أي قتل النفس المقتص بالنفس ، والمراد به القتل بغير حق إخراجا للقتل المستحق . قال الطيبي رحمه الله : أي يحل قتل النفس قصاصا بالنفس التي قتلها عدوانا وهو مخصوص بولي الدم لا يحل قتله لأحد سواه ، حتى لو قتله غيره لزمه القصاص . وقال بعض العرفاء : كما كتب القصاص في القتلى كتب على نفسه الرحمة في قتلاه الذين بذلوا الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني ، كما قال : من أحبني قتلته ، ومن قتلته فأنا ديته ، الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى . أي من كان متوجها إليه بالكلية كان فيضه متصلا به بالكلية ، ومن كان في رق غيره من المكونات لم يتصل به غاية الاتصال ، ومن كان ناقصا في دعوى محبته لم يكن مستحقا لكمال محبته ، ومن كان الله ديته فله حياة الدارين والبقاء برب الثقلين ، والمراد بالثيب المحصن ، وهو المكلف الحر الذي أصاب في نكاح صحيح ثم زنى ، فإن للإمام رجمه وليس لآحاد الناس ذلك ، لكن لو قتله مسلم ففي وجوب القصاص عليه خلاف ، والأظهر عندنا أنه لا يجب ; لأن إباحة دمه لمحافظة أنساب المسلمين ، وكان له حقا فيه ، أما لو قتله ذمي اقتص منه لأنه لا تسلط له على المسلم ، ذكره الطيبي رحمه الله وفي التعليل الأول نظر ; لأن إباحة دم القاتل أيضا لمحافظة دماء المسلمين ، مع أنه ليس لكل أحد قتله اتفاقا ، ثم الدليل على الرجم أن عمر قال في خطبته : إن الله بعث محمدا نبيا وأنزل عليه كتابا وكان فيما أنزل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما [ ألبتة ] نكالا من الله إن الله كان عزيزا حكيما ، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا الحديث . وكان ذلك بمشهد من الصحابة فلم ينكر عليه ، والحكمة فيه أن في الزنا مفاسد من اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد ، ويثب كل رجل على كل امرأة بمقتضى طبعه فتهيج الفتن والحروب بعد التشبه بالبهائم إلى غير ذلك ، وأما البكر والمكلف غير المحصن فإن كان حرا فيجلد مائة ، وإن كان رقيقا فيجلد خمسين ، [ ص: 2258 ] ويراد بالمارق لدينه الخارج عنه من المروق وهو الخروج ، ومنه المرق وهو الماء الذي يخرج من اللحم عند الطبخ . قال الطيبي رحمه الله : وهو مهدر في حق المسلمين لا قصاص على من قتله ، وفيما إذا قتله ذمي خلاف . اهـ .

والتارك للجماعة صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين ، وخرج من جملتهم وانفرد عن أمرهم بالردة التي هي قطع الإسلام قولا أو فعلا أو اعتقادا ، فيحب قتله إن لم يتب ، وتسميته مسلما مجازا باعتبار ما كان عليه لا بالبدعة أو نفي الإجماع كالروافض والخوارج ; فإنه لا يقتل . وفي الحديث دليل لمن قال : لا يقتل أحد دخل الإسلام بشيء سوى ما عدد كترك الصلاة على ما هو المذهب عندنا . قال بعض شراح الأربعين : وخالفه الجمهور لقوله عليه الصلاة والسلام : " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " . أي استحق عقوبة الكفر كذا فسره الشافعي . قلت : الحديث السابق نص في الحصر المفيد لنفي قتله ، فلا يثبت إثباته بمثل هذا الاستدلال مع وجود غيره من الاحتمال ، فإنه فسر بأنه قارب الكفر ، أو شابه عمل الكفرة ، أو يخشى عليه الكفر ، أو المراد بالكفر الكفران ، أو محمول على ما إذا استحل تركه أو نفى فرضيته ، أو على الزجر الشديد والتهديد والوعيد ، كما في قوله تعالى بعد إيجاب الحج : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين حيث وضع قوله : كفر موضع من لم يحج .

قال النووي : المراد بقوله في النفس القصاص بشرطه ، وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في قولهم : يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد ، والجمهور على خلافه منهم مالك والشافعي والليث وأحمد . قلت : ويؤيد مذهبنا أيضا قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس والمفهوم المستفاد من قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد غير معتبر عندنا لا سيما عند وجود المنطوق مع الاتفاق ، على أن لا مفهوم في بقية الآية من قوله : الأنثى بالأنثى . قال : وأما قوله : التارك لدينه المفارق للجماعة فهو عام في كل من ارتد عن الإسلام بأية ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام ، ويستثنى من هذا العموم المرأة ; فإنها لا تقتل عند أصحاب أبي حنيفة رحمه الله قالوا : ويتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهما ، وخص من هذا العام الصائل ونحوه ، فيباح قتله في الدفع ، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة ، والمراد لا يحل تعمد قتله قصدا إلا في هؤلاء الثلاث اهـ .

وقال بعض أصحاب المعنى : لا يخفى أن ما ذكر حال الأشقياء من أهل القهر الإلهي ، والطرد الكلي ، لا يفتح لهم باب المشهد الصمدي ، وهو القلب فيأتيه الإلهام من الرب ، ولا باب السمع والإبصار ، فيدخلهما الفهم والاعتبار ، فارتدوا عن طريق الحق وصراط التوحيد ، واحتجبوا بظلمات الكثرة عن نور التفريد ، واستحقوا القتل والنار ، وحبسوا في ظلمات دار البوار ، فرحم الله امرأ اشتغل بالفضائل ، وانتهى عن هذه الذنوب وسائر الرذائل ، وما أنفع قول القائل :


أيا فاعل الخير عد ثم عد ويا فاعل الشر مه لا تعد     فما ساد عبد بدون التقى
ومن لم يسد بالتقى لم يسد

( متفق عليه ) . وفي جامع الأصول : رواه الخمسة يعني الستة إلا ابن ماجه . واعلم أن لفظ الحديث على ما وجدته في الصحيحين وجامع الأصول : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة . فجملة يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله أسقطها الإمام النووي في أربعينه . وقال ابن حجر في شرحه : كذا هذه الزيادة في رواية ، والله أعلم بما فيهما ، وصاحب المشكاة مع التزامه في أول الكتاب تتبع الصحيحين وجامع الأصول خالف هاهنا واختار تأخير الثيب عن النفس ، مع أن الترتيب للترقي مستفاد من نقلنا إذ الزنا دون القتل ، وهو دون الارتداد ، لا يقال الواو لا تفيد الترتيب ، لأنا نقول : الترتيب الذكري معتبر صحيح في كلام الحكيم الفصيح ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " ابدءوا بما بدأ الله به إن الصفا والمروة " . ثم قوله : الزاني بإثبات الياء في نسخ المشكاة ، وهو الموافق لما في رواية البخاري ، وكذا في بعض نسخ مسلم ، لكن قال النووي في شرح مسلم : هكذا في النسخ ، الزان من غير ياء بعد النون ، وهي لغة صحيحة قرئ بها في السبع في قوله تعالى : الكبير المتعال والأشهر في اللغة إثبات الياء .

[ ص: 2259 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية