صفحة جزء
15 - وعن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - وفي رواية : غيرك - قال : " قل آمنت بالله ، ثم استقم " . رواه مسلم .


15 - ( وعن سفيان ) بتثليث السين والضم هو المشهور ( ابن عبد الله ) أي ابن ربيعة ( الثقفي ) بفتحتين ، نسبة إلى قبيلة ثقيف ، يكنى أبا عمرو ، وقيل أبا عمرة ، يعد في أهل الطائف له صحبة ، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف ، مروياته خمسة أحاديث ( قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام ) أي فيما يكمل به الإسلام ، ويراعى به حقوقه ، ويستدل به على توابعه ، وقيل : التقدير : في مبادئ الإسلام وغاياته ( قولا لا أسأل عنه [ ص: 84 ] أحدا بعدك ) أي قولا جامعا لا أحتاج فيه إلى سؤال أحد بعد سؤالك هذا ، كقوله تعالى : ( وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) أي من بعد إمساكه ( - وفي رواية : غيرك - ) أي لا أسأل عنه أحدا غيرك ، والأول مستلزم لهذا ؛ لأنه إذا لم يسأل أحدا بعد سؤاله لم يسأل غيره ، وكذا يظهر وجه أولوية الأول فجعله أصلا ، والثاني رواية خلافا لما فعل النووي في أربعينه ( قال : قل آمنت بالله ) أي بجميع ما يجب الإيمان به ( ثم استقم ) هذا مقتبس من قوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) يعني على امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وفي آية أخرى : ( تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) الآيات .

فالتوحيد حاصل بقوله : آمنت بالله ، والطاعة بأنواعها مندرجة تحت قوله : ( ثم استقم ) ؛ لأن الاستقامة امتثال كل مأمور واجتناب كل محذور ، فيدخل فيه أعمال القلوب والأبدان من الإيمان والإسلام والإحسان ، إذ لا تحصل الاستقامة مع شيء من الاعوجاج ، ولذا قالت الصوفية : الاستقامة خير من ألف كرامة ، أو نقول آمنت بالله شامل للإتيان بكل الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات ، وقوله : ثم استقم محمول على الثبات فيهما ، ولعظمة أمر الاستقامة قال عليه السلام : ( شيبتني سورة هود ) ؛ لأنه نزل فيها : ( فاستقم كما أمرت ) وهي جامعة لجميع أنواع التكاليف . وقالت الصوفية : لأن الدعوة إلى الله مع كون المدعو على الصراط المستقيم أمر صعب لا يمكن إلا إذا كان الداعي على بصيرة يرى أنه يدعوه من اسم إلى اسم . قال ابن عباس في قوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ) ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية . ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - لما قالوا له : قد أسرع إليك الشيب : ( شيبتني هود وأخواتها ) . وقال الفخر الرازي : الاستقامة أمر صعب شديد لشمولها العقائد بأن يجتنب التشبيه والتعطيل ، والأعمال بأن يحترز عن التغيير والتبديل ، والأخلاق بأن يبعد عن طرفي الإفراط والتفريط . وقال الغزالي : الاستقامة على الصراط في الدنيا صعب كالمرور على صراط جهنم ، وكل واحد منهما أدق من الشعر ، وأحد من السيف اهـ . ومما يزيد صعوبة هذا المرقى خبر ( استقيموا ، ولن تحصوا ) أي ولن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة ، ولكن اجتهدوا في الطاعة حق الإطاعة ، فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وفيه تنبيه نبيه على أن أحدا لا يظن بنفسه الاستقامة ، ولا يتوهم أنه خرج بالكلية من صفة النفس اللوامة ، فيقع في العجب والغرور اللذين هما أقبح من كل ما يترتب عليه الملامة ، نسأل الله السلامة .

وقد يقال : السين لطلب القيام والثبات على الحالات والمقامات في جميع الساعات إلى الممات ، ثم قد يقال : الحكمة في عدم الإطاقة على دوام الإطاعة أن تراب الإنسان عجن بماء النسيان الناشئ عنه العصيان ؛ ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : ( كلكم خطاءون ، وخير الخطائين التوابون ) فجنس الإنسان كنوع النسوان التي خلقن من الضلع الأعوج فلا يتصور منهن الاستقامة على صفة الإدامة ، وكل ميسر لما خلق له ، ولا يزول طبع عما جبل عليه كما ورد في حديث الإشارة إليه هذا ، ولفظة ( ثم ) مستعارة للتراخي الرتبي ؛ لأن الاستقامة أفضل من قوله : آمنت بالله ؛ لشمولها العقائد والأعمال والأخلاق . ذكره الزمخشري والإمام ، وهي لغة ضد الاعوجاج أي الاستواء في جهة الانتصاب ، وتنقسم إلى استقامة العمل ، وهو الاقتصاد في غير متعد من منهج السنة ، ولا متجاوز عن حد الإخلاص إلى الرياء والسمعة ، أو رجاء العوض ، أو طلب الغرض ، واستقامة القلب وهي الثبات على الصواب ، وعند المحققين هي استواء القصد في السير إلى الله ، وثبات القوى على حدودها بالأمر والنهي ، وهي دون الاستقامة في السير في الله ؛ لأن هذه في الطريق والسلوك إليه بأحديه الطريق المستقيم ، وأما السير في الله فهو الاتصاف بصفاته ، والاستقامة في الله [ ص: 85 ] دون الاستقامة في السير في الله المأمور بها نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - في قوله : ( فاستقم كما أمرت ) ؛ لأن تلك في مقام جمع الجمع ، والبقاء بعد الفناء ، والأولى للمريدين ، والثانية للمتوسطين . واستقامة الروح وهي الثبات على الحق والسر ، وهي الثبات على الحقيقة . قال القشيري : الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها ، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ، ومن لم يكن مستقيما ضاع سعيه ، وخاب جهده ، وأنشد :


إذا أفشيت سرك ضيق صدر أصابتك الملامة والندامة     وإن أخلصت يوما في فعال
تنال جزاءه بالاستقامة



وقال بعض العارفين : معنى الحديث أنه إذا وفقت بالتوحيد ورؤية جلال قدمه فدر مع الحق حيث دار ، إما قضاء وإما رضاء ، ولا تنزل عن مقام الرضا إلى فترة النفس والهوى ، وقال الغزالي : لعزة الاستقامة والاحتياج إليها في كل حالة أمر الله تعالى عباده بقراءة الفاتحة المتضمنة للدعاء بالاستقامة أمر وجوب في الأوقات الخمسة ، نسأل الله تعالى الاستقامة الشاملة بحسن الخاتمة ( رواه مسلم ) . ورواه النسائي وابن ماجه والترمذي ، وزاد : قلت : يا رسول الله ما أخوف ما أخاف علي ؟ فأخذ بلسانه ثم قال : ( هذا ) . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وزاد في الإحياء : قلت : ما أتقي ؟ فأومأ بيده إلى لسانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية