صفحة جزء
16 - وعن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ، ثائر الرأس ، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول ، حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يسأل عن الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس صلوات في اليوم والليلة " . فقال : هل علي غيرهن ؟ فقال : لا ، إلا أن تطوع " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ، وصيام شهر رمضان " ، قال : هل علي غيره ؟ قال : " لا إلا أن تطوع " . قال : وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة ، فقال : هل علي غيرها ؟ فقال " : لا إلا أن تطوع " . قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلح إن صدق " . متفق عليه .


16 - ( وعن طلحة بن عبيد الله ) يكنى أبا محمد القرشي ، أحد العشرة المبشرة بالجنة ، أسلم قديما ، وشهد المشاهد كلها غير بدر ، وضرب له - صلى الله عليه وسلم - سهمه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه مع سعيد بن زيد يتعرفان خبر العير التي كانت لقريش مع أبي سفيان بن حرب ، فعادا يوم اللقاء ببدر ، ووقى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بيده فشلت أصبعه ، وجرح يومئذ أربعة وعشرين جراحة ، وقيل : كانت فيه خمس وسبعون بين طعنة وضربة ورمية ، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير ، وطلحة الجود ، قتل في وقعة الجمل سنة ست وثلاثين ، ودفن بالبصرة وله أربع وستون سنة ، روى عنه جماعة . ( قال : جاء رجل ) : قيل : هو ضمام بن ثعلبة ، وافد بني سعد بن بكر ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) متعلق بجاء ( من أهل نجد ) صفة رجل ، والنجد في الأصل : ما ارتفع من الأرض ، ضد التهامة ، وهو الغور ، سميت به الأرض الواقعة بين تهامة أي مكة ، وبين العراق . ( ثائر الرأس ) بالثاء المثلثة من ثار الغبار إذا ارتفع وانتشر ، أي منتشر شعر الرأس غير مرجله بحذف المضاف ، أو سمي الشعر رأسا مجازا ، تسمية للحال باسم المحل ، أو مبالغة بجعل الرأس كأنه المنتشر ، وهو مرفوع على أنه صفة عند الأكثر ، وقيل : إنه منصوب على الحالية من رجل لوصفه ، وقيل : إنه الرواية ( نسمع دوي صوته ) أي شدته وبعده في الهواء ، فلا يفهم منه شيء كدوي النحل والذباب ، وهو بفتح الدال - وضمه رواية ضعيفة - وبكسر الواو وتشديد الياء ، وهو منصوب على المفعولية ، و " نسمع " بصيغة المتكلم المعلوم على الصحيح ، وفي بعض النسخ بالياء [ ص: 86 ] مجهولا ، ورفع دوي على النيابة ، وكذا الوجهان في قوله : ( ولا نفقه ) أي لا نفهم من جهة البعد ( ما يقول ) لضعف صوته ( حتى دنا ) أي ( من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) كما في نسخة صحيحة ، أي إلى أن قرب ففهمنا ( فإذا ) للمفاجأة ( هو ) أي الرجل ( يسأل عن الإسلام ) أي عن فرائضه التي فرضت على من وحد الله ، وصدق رسوله لا عن حقيقته ؛ ولذا لم يذكر الشهادتين ، ولكون السائل متصفا به فلا حاجة إلى ذكره ، ويؤيده رواية البخاري أيضا : أخبرني ماذا فرض الله علي ؟ ويمكن أنه سأل عن ماهية الإسلام وقد ذكر الشهادة ولم يسمعها الراوي أو نسيها ، أو اختصرها لكونها معلومة عند كل أحد ، وقيل : لم يذكر الحج لأن الحديث حكاية حال الرجل خاصة لقوله : علي ، فأجابه - عليه الصلاة والسلام - بما عرف من حاله ، ولعله لم يكن ممن وجب الحج عليه ، أو لأنه لم يفرض حينئذ ، أو أسقط من بعض الرواة ، ويؤيده رواية البخاري : فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام . ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة ) بالرفع على الصحيح ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الإسلام ، والمراد فرضه إقامة خمس صلوات ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي من شرائعه أداء خمس صلوات ، ويجوز نصبه بتقدير خذ ، أو اعمل ، أو صل ، وهو أحسن . وأغرب ابن حجر فأعرب بقوله بالجر بدلا من الإسلام ، أو بقسيميه أي هو أو خذ اهـ . والذي اختاره من الجر لا يصح رواية ودراية ، أما الأول فيظهر لك من تتبع النسخ المصححة ، وأما الثاني فلأن البدل والمبدل لا يكونان إلا في كلام شخص واحد ، وأن المقول لا يكون إلا جملة ، فأحد جزأيه الموجود يتعين أن يكون مرفوعا ، وأنه إذا جعل بدلا لا يبقى للسؤال جوابا ، فلا يتفرع عليه قوله : ( فقال ) أي الرجل ( هل علي ) أي يجب من الصلاة ( غيرهن ؟ ) أي في اليوم والليلة ، أو الجار خبر مقدم ، وغيرهن مبتدأ مؤخر ( فقال ) - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ) أي لا شيء عليك غيرها ، وهذا قبل وجوب الوتر ، أو أنه تابع للعشاء ، وصلاة العيد ليست من الفرائض اليومية بل هي من الواجبات السنوية ( إلا أن ) : بفتح الهمزة ( تطوع ) : بتشديد الطاء والواو ، وأصله تتطوع بتاءين ، فأبدلت وأدغمت ، وروي بحذف إحداها وتخفيف الطاء ، والمعنى إلا أن تشرع في التطوع فإنه يجب عليك إتمامه لقوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) ولإجماع الصحابة على وجوب الإتمام . وقول ابن حجر : هذا مجرد دعوى بلا سند - مردود ؛ لأن ذكر السند ليس بشرط لصحة الإجماع ، مع أن الآية المذكورة سند معتمد لصحة الإجماع المسطور ، وقول ابن حجر أن النهي فيه للتنزيه مخالف للأصل الذي عليه الجمهور .

وقوله : على أنه يلزم الحنفية حيث استدلوا به أن يقولوا : إن الإتمام فرض ، وهم إنما يقولون بوجوبه - مدفوع بأن الآية قطعية والدلالة ظنية .

وقوله : واستثناء الواجب من الفرض منقطع ممنوع ، فإن الواجب عندنا فرض عملي لا اعتقادي ، وهذا الاعتبار يطلق عليه أنه فرض ، فالمراد بالفرض في الحديث المعنى الأعم ، والله أعلم ، مع أنه لا محذور في جعل الاستثناء منقطعا لصحة الكلام كما اختاره في هذا المقام ، وقوله : على أنه من النفي لا يفيد الإثبات بل الحكم مسكوت عنه عندهم مدخول ، فإن هذا إنما يرد عليهم لو استدلوا بهذا الحديث ، وتقدم أن دليلهم الآية والإجماع ، وإنما حملوا لفظ الحديث على المعنى المستفاد منهما ، ثم هذا مطرد في جميع العبادات عندنا حيث يلزم النفل بالشروع ، ووافقنا الشافعي في الحج والعمرة فعليه الفرق ، وإلا فيكفينا قياس سائر العبادات عليهما أيضا ، أو المعنى إلا أن توجب على نفسك بالنذر ، والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا ، وعدل عنه ابن حجر فقال : لكن التطوع مستحب ، فهو استثناء من مدخول لا منقطع ، وحينئذ فلا يدل على إيجاب إتمام التطوع بالشروع فيه . أقول : يحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا ، والمعنى لكن التطوع باختيارك أي ابتداء كما هو مذهبنا ، أو انتهاء أيضا كما هو مذهب الشافعي ، وفيه حث على الخيرات وترك الوقوف على مجرد الواجبات . ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وصيام شهر رمضان ) عطف على خمس ، وجملة السؤال والجواب معترضة ( قال : هل علي غيره ؟ ) أي هل علي صوم فرض سوى صوم رمضان ( قال ) بحذف الفاء في الأصول الحاضرة ( لا ) فلا يجب صوم عاشوراء [ ص: 87 ] سواء كان واجبا قبل رمضان أم لا ( إلا أن تطوع قال ) أي طلحة ( وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الزكاة ) هذا قول الراوي ، فإنه نسي ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التبس عليه فقال : ذكر الزكاة ، وهذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ معتبرة في الرواية ، فإذا التبس عليه بعضها يشير في ألفاظه إلى ما ينبئ عنه كما فعل راوي هذا الحديث ( فقال : هل علي غيرها ؟ فقال : لا ) قيل : يعلم منه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بشروطها ، وهو ظاهر إن أريد به الحقوق الأصلية المتكررة تكرارها ، وإلا فحقوق المال كثيرة كصدقة الفطر ، ونفقة ذوي الأرحام ، والأضحية ( إلا أن تطوع قال ) أي طلحة ( فأدبر الرجل وهو ) أي والحال أن ذلك الرجل ( يقول : والله لا أزيد على هذا ) أي في الإبلاغ أو في نفس الفريضة ( ولا أنقص عنه ) أي شيئا ، وفي رواية البخاري : لا أتطوع شيئا ، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفلح الرجل ) أي دخل في الفلاح ، والمعنى فاز وظفر وأدرك بغيته ، وهي ضربان : دنيوي وهو الظفر فلا يطلب معه الحياة والأسباب ، وأخروي ، وهو ما يحصل به النجاة من العذاب ، والفوز بالثواب . قالوا : ولا كلمة أجمع للخيرات منه ، ومن ثم فسر بأنه بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل . وفي رواية : أفلح والله . وفي أخرى صحيحة : بلا شك ، وفي رواية : أفلح وأبيه ، وفيه إشكال لأنه ورد : من حلف بغير الله فقد أشرك ، فقيل : إنه قبل النهي ، وقيل : فيه حذف مضاف أي ورب أبيه ، وقيل : إنه والله ، وأن الكاتب قصر اللامين ، وقيل : إن الكراهة في غير الشارع كما نقله البيهقي عن بعض مشايخه ، وأغرب ابن حجر فضعف الأقوال المذكورة جميعها ، وحمل على أن هذا وقع من غير قصد ، وهو في غاية من البعد ( إن صدق ) : بكسر الهمزة على الصحيح ، وفي نسخة بفتحها ، أي لصدقه ، ولا إشكال فيه ، وعلى الأول قيل : إنما حكم - عليه الصلاة والسلام - بكونه من أهل الجنة مطلقا في رواية أبي هريرة ، وهنا علق الفلاح بصدقه ، والحال أنه روي أن الحديثين واحد ؛ لأنه يحتمل أنه قال بحضور الأعرابي لئلا يغتر فيشكل عليه ، فلما ذهب قال : من سره . . . إلخ . وقيل : يحتمل أن يكون قبل أن يطلعه الله على صدقه ، ثم أطلعه الله عليه ، ويمكن أن يقال : لا يلزم من كون الرجل من أهل الجنة أن يكون مفلحا ؛ لأن المفلح هو الناجي من السخط والعذاب ، فكل مؤمن من أهل الجنة ، وليس كل مؤمن مفلحا ، ولذا قال تعالى : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) الآيات . وقال : ( هدى للمتقين ) الآيات . ثم قال : ( وأولئك هم المفلحون ) ( متفق عليه ) : ورواه أبو داود ، والنسائي .

التالي السابق


الخدمات العلمية