صفحة جزء
3964 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال له : ثمامة بن أثال ، سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ماذا عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي يا محمد ! خير ; إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان الغد ، فقال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بعد الغد ، فقال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، يا محمد ! والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي . وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة ، قال له قائل ، أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكنى أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه مسلم ، واختصر البخاري .


3964 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي في السنة السادسة ( خيلا : هو على حذف المضاف ; أي فرسان الخيل ، وفي الحديث : يا خيل الله اركبي ; أي يا فرسان خيل الله ، أو سميت الجماعة خيلا ; لأنهم تجردوا لما لا يتم إلا بها كما سميت الربيئة عينا ( قبل نجد ) ، بكسر القاف وفتح الموحدة ; أي : حذاءه وجانبه . في القاموس : النجد وبضم جيمه مذكر وهو ما خالف الغور ; أي تهامة ، أعلاه تهامة واليمن ، وأسفله العراق والشام أوله من جهة الحجاز ذات عرق ، ( فجاءت ) : أي الخيل ( برجل من بني حنيفة ، يقال ، له : ثمامة بن أثال ) بضم أولهما ( سيد أهل اليمامة ) : في القاموس : هي بلاد الجو منسوبة إلى جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام وسميت باسمها ، أكثر نخيلا من سائر الحجاز ، وبها تنبأ مسيلمة الكذاب ، وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة على ست عشرة مرحلة من البصرة ، وعن الكوفة نحوها والنسبة يمامي . ( فربطوه بسارية ) : أي أسطوانة ( من سواري المسجد ) ; أي المسجد النبوي ( فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ماذا عندك ) ؟ أي من الظن في أن أفعل بك ( يا ثمامة ) ؟ قال الطيبي : فيه وجهان أن تكون ما استفهامية ، وذا موصولا وعندك صلته ; أي : ما الذي استقر عندك من الظن فيما أفعل بك ( قال : عندي يا محمد ! خير ) ; لأنك لست ممن تظلم بل ممن تحسن وتنعم ، وأن يكون ماذا بمعنى " أي شيء " مبتدأ وعندك خبره ، وقوله : ( إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ) ، تفصيل لقوله : خير ; لأن فعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الأمر . قال النووي ، قوله ذا دم فيه وجوه : أحدها : معناه إن تقتل تقتل صاحب الدم ، لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله ، ويدرك قاتله بثأره ; أي لرياسته وفضله ، وحذف هذا ; لأنهم يفهمونه في عرفهم ، وثانيها : إن تقتل تقتل من عليه دم مطلوب به ، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك ، وثالثها ذا ذم بالذال المعجمة وتشديد الميم ; أي : ذا ذمام وحرمة في قومه ، ورواها بعضهم في سنن أبي داود كذلك : قال القاضي : وهي ضعيفة ; لأنها تقلب المعنى ، فإن احترامه يمنع القتل . قال الشيخ : ويمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول ; أي تقتل رجلا جليلا يحتفل قاتله بقتله ، بخلاف ما إذا قتل حقيرا مهينا ، فإنه لا فضيلة ولا يدرك به قاتله ثأره .

[ ص: 2549 ] قال الطيبي : واختار الشيخ التوربشتي ، الوجه الثاني ، حيث قال : المعنى إن تقتل تقتل من توجه عليه القتل بما أصابه من دم ، ورآه أوجه للمشاكلة التي بينه وبين قوله : وإن تنعم تنعم على شاكر ، ( وإن كنت تريد المال فسل ) : بالهمز والنقل ( تعط ) : بصيغة المفعول ( منه ) : أي من المال وهو بيان لقوله : ( ما شئت . فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي على حاله ( حتى كان ) : أو وقع ( الغد ) ، وفي نسخة بالنصب ; أي كان الزمان الغد ( فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بعد الغد ) : قال الطيبي : اسم كان ضمير عائد إلى ما هو مذكور حكما ; أي : حتى كان ما هو عليه ثمامة بعد الغد ( قال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ) : قال الأشرف : في تقديم قوله : إن تقتل تقتل ذا دم على قسميه في اليوم الأول ، وتوسيطه بينهما في اليوم الثاني والثالث ما يرشد إلى حذاقته وحدسه ، فإنه لما رأى غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول قدم فيه القتل تسلية ، فلما رأى أنه لم يقتله رجا أن ينعم عليه فقدم في اليوم الثاني والثالث قوله : إن تنعم : قال الطيبي : ويمكن أن يقال : إنه لما نفى الظلم عن ساحته - صلى الله عليه وسلم - ونظر إلى استحقاقه القتل قدمه ، وحين نظر إلى لطفه وإحسانه عليه الصلاة والسلام أخر القتل ، وهذا أدعى للاستعطاف والعفو كما قال عيسى عليه السلام : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أقول : ويمكن أن يقال : المناسب للمجرم أن يعترف بذنبه ، ثم يستغفر أولا ، فلذا قدم القتل ، ثم يطلب العفو ولا ينسى الذنب ، ولذا أخره فيما بعده ، وحاصل كلام الطيبي أنه في اليوم الأول كان الخوف غالبا عليه ، وفي اليومين الآخرين كان الغالب عليه الرجاء ، والإناء يترشح بما فيه ، وهذا يظهر وجه التنظير بقول عيسى عليه السلام ، فإن المقام مقام غلبة الخوف أولا . ألا ترى إلى قوله تعالى : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها حتى تقول الأنبياء : نفسي نفسي ، ثم لهم مقام الشفاعة لمن شاء الله تعالى . ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أطلقوا ) : أي حلوا ( ثمامة ) : وخلوا سبيله ( فانطلق إلى نخل ) : بنون مفتوحة وسكون خاء معجمة ، وفي نسخة بالجيم ; أي ماء قليل النبع ( قريب من المسجد فاغتسل ) . قال النووي قوله : نخل هكذا في البخاري ومسلم وغيرهما بالخاء المعجمة ، وتقديره انطلق إلى نخل فيه ماء فاغتسل . قال القاضي عياض ، وقال بعضهم : صوابه نجل بالجيم وهو الماء القليل المنبعث ، وقيل الجاري . قلت : بل الصواب الأول ; لأن الروايات صحت به ولم ترو إلا هكذا . وهو صحيح فلا يجوز العدول عنه ، ( ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، والله يا محمد ! ما كان على وجه الأرض وجه أبغض ) : بالنصب ; أي أكثر مبغوضا ( من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ) .

قال الطيبي : وجه بالرفع على أنه صفة وجه وهو اسم كان ، على وجه الأرض خبره ، وهذا ليس بصحيح ; لأن قوله : أحب الوجوه خبر أصبح قطعا ، وقد قوبل به ، ولأن أبغض في القرينتين الأخيرتين وقع خبرا لكان ، [ ص: 2550 ] ولأنه أخبر عن الوجه بالأبغضية لا أن وجهه أبغض كائنا على وجه الأرض ، فإذا قلنا : بجواز وقوع الحال من اسم كان ، فقوله على وجه الأرض كان صفة لقوله وجه ، فقدم فصار حالا ، وإذا منعناه قلنا إنه ظرف لغو قدم للاهتمام ليؤذن في بدء الحال باهتمام فصار العموم والشمول كما في قوله تعالى : والأرض جميعا قبضته ( والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، ووالله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ) . يعني المدينة ( فأصبح بلدك أحب البلاد كله إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ) ، جملة حالية ( فماذا ترى ) ؟ أي من الرأي في حقي ( فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ; أي بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام ، وأنه يهدم ما كان قبله من الآثام ( وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة ، قال له قائل ، أصبوت ؟ ) : من الصبوة والصبو الميل إلى الجهل . كذا في تاج المصادر للبيهقي ، وفي نسخة صحيحة : أصبأت وهو مهموز ففي النهاية : صبأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره ، وكذا في الفائق . وفي المشارق للقاضي عياض . قوله : أصبوت هكذا الرواية ; أي أصبأت ، وقريش كانت لا تهمز وتسهل الهمزة ; أي أخرجت عن دينك ؟ وقال النووي : أصبوت هكذا في الأصول أصبوت ، وهي لغة والمشهور أصبأت بالهمز اهـ .

وفيه أن الاعتماد على الأصول لا وجه مع ثبوتها إلى العدول ، ثم المتبادر من قوله " وهي لغة " أنه لغة في صبأت وهو غير ظاهر مادة ومعنى ، والعجب من الطيبي أنه اقتصر على صبأت بالهمز ( فقال : لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، فإن قلت : كيف قال : لا ، وهو قد خرج من الشرك إلى التوحيد ؟ قلت : هو من الأسلوب الحكيم كأنه قال : ما خرجت من الدين ; لأنكم لستم على دين فأخرج منه ، بل استحدثت دين الله ، وأسلمت مع رسول الله لله رب العالمين . فإن قلت : مع يقتضي إحداث المصاحبة ; لأن معنى المعية المصاحبة وهي مفاعلة ، وقد قيل : الفعل بها فيجب الاشتراك فيه ، كذا نص عليه صاحب الكشاف في الصافات . قلت : لا يبعد ذلك ، فلعله - صلى الله عليه وسلم - وافقه ، فيكون منه صلوات الله عليه استدامة ومنه استحداثا : أقول : هذا لا يبعد عقلا ، لكن يستبعد نقلا ، فإنه لو كان كذلك لنقل فيه ، أو في غيره إلينا ، وفي المعية يكتفى بالمشاركة الفعلية ، كما في قول بلقيس : وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، ثم جواب سؤاله الأول مبني على نسخة " صبأت " لا على " صبوت " كما لا يخفى ، والأظهر أن مرادهم من صبأت ; أي من دين الحق إلى الباطل ، فجوابه بلا مطابق لما في نفس الأمر وحقيقة الحق . ( ولا ) : قال الطيبي : لا يقتضي منفيا والواو معطوفا عليه ; أي لا أوافقكم في دينكم . ولا أرفق بكم في هذه السنين المجدبة ، ثم أقسم عليه بقوله : ( والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . رواه مسلم ، واختصره البخاري ) . في الهداية : ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب إذا حضروا مستأمنين ، ولا يجهز إليهم مع التجار إلى دار الحرب ; لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم . قال ابن الهمام : المعروف ما في سير البيهقي ، ومسند البزار ، ومعجم الطبراني ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السلاح في الفتنة . قال البيهقي : الصواب أنه موقوف . قال صاحب الهداية : وهو القياس في الطعام ; أي القياس فيه أن يمنع من حمله إلى دار الحرب ; لأنه به التقوي على كل شيء ، والمقصود إضعافهم إلا أنا عرفنا نقل الطعام إليهم بالنص يعني حديث ثمامة ، وحديث أسامة ، رواه البيهقي من طريق محمد بن إسحاق ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، فذكر قصة إسلام ثمامة . وفي آخره قوله لأهل مكة حين قال له قائل : صبوت . فقال : إني والله ما صبوت ، ولكني أسلمت وصدقت محمدا وآمنت به ، وايم الله الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم [ ص: 2551 ] حبة من اليمامة ، وكانت قريب مكة حتى يأذن فيها محمد ، فانصرف إلى بلده ، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش ، فكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يحمل إليهم الطعام ، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وذكره ابن هشام في آخر السير ، وذكر أنهم قالوا : أصبأت ؟ فقال : لا والله ولكني اتبعت خير الدين دين محمد ، والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال : فكتبوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا ، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل . وفي شرح السنة : فيه دليل على جواز المن على الكافر وإطلاقه بغير مال .

قال ابن الهمام : ولا يجوز المن على الأسارى ، وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب بغير شيء خلافا للشافعي إذا رأى الإمام ذلك ، وبقولنا قال مالك وأحمد وجه قول الشافعي قوله تعالى : فإما منا بعد وإما فداء ولأنه عليه الصلاة والسلام من على جماعة من أسارى بدر منهم العاص بن أبي الربيع على ما سيأتي ، وأجاب صاحب الهداية بأنه منسوخ بقوله تعالى : اقتلوا المشركين من سورة " براءة " فإنها تقتضي عدم جواز المن وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن ، وقصة بدر كانت سابقة عليها . قال النووي : فيه جواز ربط الأسير وحبسه وإدخال الكافر المسجد ، وفيه إذا أراد الكافر الإسلام يبادر به ، ولا يؤخره للاغتسال ، ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره ، ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك ، سواء كان اغتسل منها أم لا . وقال بعض أصحابنا : إن اغتسل قبل الإسلام أجزأه ، وإن لم يكن عليه جنابة فالغسل مستحب . وقال أحمد وآخرون : يلزمه الغسل ، وفي تكرير سؤاله عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام تأليف لقلبه ، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى الذين يتبعهم على الإسلام كثير من الخلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية