صفحة جزء
باب الصلح

الفصل الأول

4042 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه ، ومروان بن الحكم رضي الله عنهم قالا : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما أتى ذا الحليفة ، قلد الهدي ، وأشعر ، وأحرم منها بعمرة ، وسار حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل ، خلأت القصواء فقال النبي : ( ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال : ( والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ) ، ثم زجرها ، فوثبت ، فعدل عنهم ، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه ، وشكي إلى رسول صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينا هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر في خزاعة ، ثم أتاه عروة بن مسعود وساق الحديث إلى أن قال : إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) . فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني " . اكتب : محمد بن عبد الله ) فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته . فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ) ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) الآية فنهاهم الله تعالى أن يردوهن ، وأمرهم أن يردوا الصداق ، ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة . نزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، أرني أنظر إليه . فأمكنه منه ، فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأى هذا ذعرا ؟ ) فقال : قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول . فجاء أبو بصير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ) فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وانفلت أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم . رواه البخاري .


[ 9 ] باب الصلح

المغرب : الصلاح خلاف الفساد ، والصلح اسم بمعنى المصالحة ، والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم . قال ابن الهمام : هو جهاد معنى لا صورة فأخره على الجهاد صورة ومعنى ، فإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب ، أو فريقا منهم بمال ، أو بلا مال ، وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به ؛ لقوله تعالى ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) الآية . وإن كانت مطلقة ، لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة المسلمين في ذلك بآية أخرى وهي قوله تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع ، والسلم بكسر السين وفتحها مع سكون اللام وفتحها ، ومنه قوله تعالى : ( وألقوا إليكم السلم ) .

الفصل الأول

4042 - ( عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم رضي الله عنه ) : سبق ذكرهما ولعل الجمع بينهما لتصديق مروان في روايته وتقويته ( قالا : خرج النبي ) : وفي نسخة : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي : يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة وهو المعني بقوله : ( عام الحديبية ) : بتخفيف الياء وقد يشدد ، موضع قريب من مكة ، ذكره في المغرب . وفي النهاية : قرية قريبة من مكة سميت ببئر هناك ، وهي مخففة الياء وكثير من المحدثين يشددونها . أقول : وهي ما بين مكة وجدة بالجيم قريب قرية تسمى حدة بالحاء المهملة ، وتسمى ببئر شمس ، وإليها ينتهي حد الحرم من ذلك الصوب ، وهي من الحل وبعضها من الحرم على ما ذكره الواقدي ، وهو الموافق [ ص: 2612 ] لمذهب أبي حنيفة ، وقد قال المحب الطبري : الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم ، وهي على تسعة أميال من مكة ، وهو لا ينافي ما في صحيح البخاري أن الحديبية خارج الحرم . قال القاضي : وإنما أضاف العام إليها لنزوله صلى الله عليه وسلم بها حين صد عن البيت اهـ . ( في بضع عشرة مائة ) : بسكون الشين وتكسر ، والبضع بكسر الموحدة ويفتح ما بين الثلاثة إلى التسعة أي : مع ألف ومائة ( من أصحابه ) ، وقد سبقت الرواية عن جمع من أكابر الصحابة بأنهم كانوا ألفا وأربعمائة رجل ، وقيل : ألف وثلاثمائة . وعن مجمع بن جارية : أنهم كانوا ألفا وخمسمائة . قال صاحب المواهب : والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، فمن قال ألف وخمسمائة جبر الكسر ومن قال ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع عليه ، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع عليهم والزيادة من الثقة مقبولة ، وأما قول ابن إسحاق : إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه ; لأنه قال استنباطا من قول جابر نحرنا البدنة عن عشرة ، وكانوا نحروا سبعين بدنة وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا ، وجزم موسى بن عقبة أنهم كانوا ألفا وستمائة ، وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع ألف وسبعمائة . وحكى ابن سعد ألفا وخمسمائة وعشرين ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ( فلما أتى ذا الحليفة ، قلد الهدي ، وأشعر ) : قال ابن الملك : تقليده أن يعلق شيء على عنق البدنة ليعلم أنها هدي ، وإشعاره أن يطعن في سنامه الأيمن ، أو الأيسر ، حتى يسيل الدم منه ليعلم أنه هدي ( وأحرم منها ) أي : من تلك البقعة ( بعمرة ، وسار ) : في المواهب نقلا عن البخاري : وأحرم منها . وفي رواية : أحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه ، فقال : إن قريشا جمعوا لك جموعا ، وقد جمعوا لك الأحابيش أي : أحياء من النادة انضموا إلى بني ليث ، كذا في النهاية . وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك . فقال أشيروا علي أيها الناس ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذي يريدون أن يصدونا عن البيت ، وفيه قال أبو بكر : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه بنا فمن صدنا عنه قاتلناه . قال : امضوا على اسم الله ، وفي رواية للبخاري : حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين ) . فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى إذا كان بالثنية ) : بتشديد التحتية ، وهي الجبل الذي عليه الطريق ( التي يهبط ) : بصيغة المجهول ( عليهم ) أي : على أهل مكة ( منها ) أي : من الثنية ( بركت به ) أي : بالنبي ( راحلته ) ، والباء للمصاحبة ( فقال الناس : حل حل ) : بمهملة مفتوحة ولام مخففة زجر للبعير إذا حثثته على الانبعاث ، والثانية تأكيد في الزجر ، وينون الأول إذا وصلت بالأخرى ، والمحدثون يسكنونها في الوصل . وفي المواهب : فالحث أي : تمادت على عدم القيام ( فقالوا : خلأت ) : بفتح الخاء المعجمة واللام والهمزة أي : بركت من غير علة وحزنت ( القصواء ) بفتح القاف ممدودا للناقة المقطوع طرف أذنها . قال الجوهري : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى قصواء ولم تكن مقطوعة الأذن ( خلأت القصواء ) كرر تأكيدا لعدم انبعاثها وحسبوا أنه بسبب تعبها ، أو أنه من عادتها ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما خلأت القصواء ) أي : للعلة التي تظنونها ( وما ذاك ) أي : الخلأ وهو للناقة كالحران للفرس ( لها بخلق ) بضمتين ويسكن الثاني أي : بعادة ( ولكن حبسها حابس الفيل ) أي : منعها من السير كيلا تدخل مكة مع أصحاب الفيل من مكة وهو الله تعالى ؛ لئلا تقع محاربة وإراقة دم في الحرم قبل أوانه لو قدر دخولها ، كما لو قدر دخول الفيل ، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم ، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون .

قال القاضي : روي أن أبرهة لما هم بتخريب الكعبة واستباحة أهلها توجه إليها في عسكرهم ، فلما وصل إلى ذي المجاز امتنعت الفيلة من التوجه نحو مكة ، وإذا صرفت عنها إلى غيرها أسرعت . اهـ .

[ ص: 2613 ] وذو المجاز على ما في القاموس : سوق كانت لهم على فرسخ ومن عرفة بناحية كبكب . ( ثم قال : ( والذي نفسي بيده لا يسألوني ) : بتخفيف النون المشددة ، وضمير الجمع لأهل مكة ، والمعنى لا يطلبونني ( خطة ) : بضم المعجمة وتشديد المهملة أي : خصلة أريد بها المصالحة حال كونهم ( يعظمون فيها حرمات الله ) : جمع حرمة أراد بها حرمة الحرم ، والإحرام بالكف فيها عن القتال ( إلا أعطيتهم إياها ) أي : تلك الخطة المسئولة قال القاضي : المعنى لا يسألوني خصلة يريدون بها تعظيم ما عظمه الله وتحريم هتك حرمته إلا أسعفهم إليها ، ووضع الماضي موضع المضارع مبالغة في الإسعاف ( ثم زجرها ) أي : الإبل ( فوثبت ) أي : قامت بسرعة ( فعدل عنهم ) أي : مال عن طريق أهل مكة ودخولها وتوجه غير جانبهم ، وأغرب شارح فقال أي : انحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصحابة وذهب أمامهم ، ( حتى نزل بأقصى الحديبية ) أي : بآخرها من جانب الحرم ( على ثمد ) : بفتح المثلثة والميم أي : ماء قليل ، والمراد به هنا موضعه ، مجاز لإطلاق الاسم الحال على المحل ، كان هناك حفرة فيها ماء قليل بدليل وصفه بقوله : ( قليل الماء ) : وقيل : إنه صفة كاشفة فوصفه بالقلة مع استغنائه عنها بلفظ الثمد إرادة للتأكيد في كونه أقل القليل . قال القاضي : والثمد الماء القليل الذي لا مادة له ، وسمي قوم صالح ثمود لنزولهم على ثمد . ( يتبرضه الناس ) : بالضاد المعجمة أي : يأخذونه قليلا قليلا ( تبرضا ) ، مفعول مطلق ( فلم يلبثه الناس ) : بالتخفيف ويشدد من ألبث ولبث بمعنى على ما في القاموس أي : لم يجعلوا لبث ذلك الماء طويلا في تلك البئر ( حتى نزحوه ) أي : الماء ( وشكي ) : بصيغة المجهول ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ) أي : شكوا عدم الماء الموجب للعطش إليه صلى الله عليه وسلم ( فانتزع ) أي : أخرج ( سهما من كنانته ) ، بكسر الكاف أي : جعبته ( ثم أمرهم أن يجعلوه ) أي : السهم ( فيه ) أي : في مكان الماء ( ففعلوا ) : وفيه إيماء إلى إجراء خرق العادة على أيدي أتباعه صلى الله عليه وسلم ( فوالله ما زال يجيش ) أي : يفور ماؤه ( لهم بالري ) : بكسر الراء وتشديد الياء أي : بما يرويهم من الماء ، أو بالماء الكثير من قولهم : عين رية أي : كثيرة الماء ( حتى صدروا عنه ) أي : رجعوا عن ذلك الماء راضين ، ( فبينا هم كذلك ، إذ جاء بديل ) : بضم الموحدة وفتح المهملة ( ابن ورقاء الخزاعي ) : بضم الخاء المعجمة ( في نفر في خزاعة ) ، قبيلة كبيرة من العرب ( ثم أتاه عروة بن مسعود ، وساق الحديث ) أي : ذكر البخاري الحديث بطوله . ( إلى أن قال ) والظاهر أن هذا الاختصار من صاحب المصابيح .

والحاصل أنه قال البخاري راويا بسنده عن المسور ومروان . ( إذ جاء سهيل ) : بالتصغير ( ابن عمرو ) : بالواو ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب ) أي : يا علي ( هذا ما قاضى ) أي : صالح كما في رواية ، وفي نسخة قضى ( عليه محمد رسول الله ) : صلى الله عليه وسلم أي : فصل به أمر المصالحة من قضى الحكم إذا فصل الحكومة ، وإنما أتى به على زنة فاعل ; لأن فصل القضية كان من الجانبين أي : هذا ما صالح مع أهل مكة ، ثم اعلم ما بينهما على ما في المواهب هكذا ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي أعداد مياه الحديبية أي : ذوات المادة كالعيون والأنهار معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت والعوذ بالذال المعجمة جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن ، والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها يريد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ؛ ليكون أدعى إلى عدم الفرار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب أي : أضعفتهم وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس إن شاءوا فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا يعني استراحوا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد

[ ص: 2614 ] 98 سالفتي
) أي : صفحة العنق كنى بذلك عن القتل ( ولينفذن الله أمره ) . فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء . قال ذو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول قال : يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : ألست بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ أي : طلبت منهم الخروج إليكم ؟ وفي القاموس عكاظ هو كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة ، وتستمر عشرين يوما يجتمع قبائل العرب فيتعاكظون يتفاخرون اهـ .

فلما بلحوا علي وهو بالحاء المهملة أي : تمنعوا من الإجابة جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا عرض عليكم خطة رشد أي : خصلة خير وصلاح اقبلوها ودعوني آتيه ، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ، وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لأرى أوباشا يعني أخلاطا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه : امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ؟ قيل : وهذا مبالغة من أبي بكر في سب عروة ، فإنه أقام معبود عروة وهو صنم مقام أمه ، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار ، والبظر بالموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة ، واللات اسم صنم ، والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم اهـ .

فقال عروة : من هذا ؟ قالوا : أبو بكر . فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنصل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال العلماء : وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه لا سيما عند الملاطفة ، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير ، لكن كان صلى الله عليه وسلم يفضي لعروة استمالة له وتأليفا والمغيرة يمنعه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما اهـ .

ويمكن أن يكون احتراسا من المكيدة والله أعلم . قال : فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر وهو معدول عن غادر على ما في النهاية . ألست أسعى في غدرتك ، وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء ، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه قال : فوالله ما يتنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ) . قال في فتح الباري : فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم ، فكأنهم قالوا بلسان الحال : من يحبه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم ، كيف يظن به أن ينفر عنه ويسلمه إلى عدوه ؟ بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التي تراعي بعضها بمجرد الرحم ، والله أعلم . اهـ .

قال : فخرج عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك . وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال [ ص: 2615 ] رجل من بني كنانة دعوني آتيه ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله : ( هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ) فابعثوا له ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم مكرز بن حفص بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي فقال : دعوني آتيه فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلم إذ جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سهل لكم من أمركم " وفي رواية ابن إسحاق فدعت قريش سهيل بن عمرو ، قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو فقالت : اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا ) . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول ، حتى وقع بينهما الصلح على أن يوضع الحرب بينهم عشر سنين ، وأن يؤمن بعضهم بعضا ، وأن يرجع عنهم عامهم هذا .

وقال معمر قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا النبي الكاتب يعني عليا كرم الله وجهه فقال - أي النبي صلى الله عليه وسلم - : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) . فقال سهيل : أما الرحمن الرحيم ، فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب باسمك اللهم ) ، ثم قال : ( هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) وفي حديث عبد الله بن مغفل ، عند الحاكم ، فكتب : ( هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة ) الحديث اهـ . ما بينهما . قال : وقوله : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، وقوله أما الرحمن الرحيم إلخ . فقال العلماء : وافقهم عليه السلام في ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ، وكتب باسمك اللهم ، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله ، وترك كتابة رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح ، مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور ، وأما البسملة وباسمك اللهم فمعناها واحد ، وكذا قول محمد بن عبد الله هو أيضا رسوله ، وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه ، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك اهـ .

( فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ) أي : حقا ( ما صددناك ) أي : ما منعناك ( عن البيت ) أي : عن طواف بيت الله للعمرة ( ولا قاتلناك ) أي : أولا ولا هممنا بقتالك آخرا ، ( ولكن اكتب ) أي : مر الكاتب أن يكتب ( محمد بن عبد الله ) ، بالنصب ، وفي نسخة بالرفع على الحكاية فإنه فاعل قاضى وصالح ( فقال النبي ) : وفي نسخة : رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لرسول الله وإن كذبتموني : ( اكتب ) أي : يا علي ( محمد بن عبد الله ) : فيه الوجهان . قال صاحب المواهب : وفي رواية للبخاري ومسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : ( امحه ) فقال : ما أنا بالذي أمحاه وهي لغة في أمحوه . قال العلماء وهذا الذي فعله علي من باب الأدب المستحب ; لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتيم محو على نفسه ، ولهذا لم ينكره عليه ، ولو حتم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه اهـ . ( ثم قال صلى الله عليه وسلم أرني مكانها ) فأراه مكانها فمحاه ، وكتب ابن عبد الله . وفي روايةالبخاري في المغازي : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . قال في فتح الباري : وقديما تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي ; فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب ، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة ، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم شعرا :

برئت ممن شرى دنيا بآخرة

وقال : إن رسول الله قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال : هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن ; لأنه قد قيد النفي بما قبل ورود القرآن . قال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ) وبعد ما تحققت وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك [ ص: 2616 ] من غير تعلم ، فيكون معجزة أخرى ، وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي على ذلك منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء أفريقية واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق مجالد عن عون بن عبد الله : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ . قال مجالد : فذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك . وقال القاضي عياض : وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها كقوله لكاتبه : ضع القلم على أذنيك ، فإنه أذكر لك وقوله لمعاوية : ( ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تغور الميم ) إلى غير ذلك . قال : وهذا وإن لم يثبت أنه كتب ، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة فإنه أوتي علم كل شيء وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث . وعن قصةالحديبية بأن القصة واحدة ، والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة بأن عليا هو الذي كتب ، فيحمل على أن النكتة في قوله : فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب لبيان أن قوله : ( أرني مكانها ) أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة ، وعلى أن قوله بعد ذلك : فكتب فيه حذف تقديره فمحاها ، فأعادها لعلي فكتب ، أو أطلق بمعنى أمر بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى كسرى وقيصر ، وعلى تقدير حمله على ظاهره ، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم ، وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة ، ويخرج عن كونه أميا ككثير من الملوك ، ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها ، فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة ، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ، وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة ، وتبعه ابن الجوزي ، وتعقب ذلك السهيلي وغيره : بأن هذا وإن كان ممكنا ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب ، وهي الآية التي قامت بها الحجة ، وأفحم الجاحد ، وانحسمت الشبهة ، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة . وقال المعاند : كان يحسن أن يكتب ، لكنه كان يكتم ذلك والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا والحق أن معنى قوله : فكتب أمر عليا أن يكتب اهـ . قال : وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة يستلزم مناقضة المعجزة ، إذ يثبت كونه غير أمي نظر كبير والله أعلم اهـ .

أقول : ووجه النظر والله أعلم أن المعاند كالغريق بكل حشيش ، والمعجزة القرآنية ثابتة من وجوه كثيرة ، مع قطع النظر أنه الآتي بها أمي ، وإنما زيد فيها وصف عدم القراءة والكتابة ، لكمال ظهور الحجة وبطلان كلام معانديها ، كما أشار إليه سبحانه في قوله تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) والمعنى لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا تعلمه ، أو التقطه من كتب الأقدمين . قال البيضاوي وإنما سماهم مبطلين لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المتكاثرة اهـ .

وبهذا تبين أنه صلى الله عليه وسلم لو كان قارئا كاتبا من أول الوهلة ، وأتى بالقرآن لكان معجزة ، وهذا واضح جدا ليس فيه مرية . قال : وفي رواية البخاري ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به ) فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي : ضيقا وإكراها وشدة ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ( فقال سهيل : وعلى ) عطف على مقدر أي : على أن لا يأتينا في هذا العام ، وعلى أن تأتينا في العام المقبل ، وعلى ( أن لا يأتيك منا رجل ) : وفي نسخة : أحد ( وإن كان على دينك إلا رددته علينا ) . وفي المواهب ، قال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما ؟ ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى . ( فلما فرغ ) أي : النبي صلى الله عليه وسلم ، أو علي رضي الله عنه ( من قضية الكتابة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ) : قال الأشرف : فيه دليل على أن من أحرم بحج ، أو عمرة فأحصر ، فإنه

[ ص: 2617 ] ينحر الهدي مكانه ويحل وإن لم يكن بلغ هديه الحرم . وقال ابن الملك : فيه أن من أحرم بعمرة ، ثم منع عن إتمامها فإنه ينحر الهدي في مكانه الذي أحصر فيه ، ويفرق اللحم على مساكين ذلك الموضع ، ويحلق ويتحلل من إحرامه ، وإن لم يبلغ هديه الحرم اهـ . وهو مخالف لأئمة المذهب من أنه لا يجوز ذبحه إلا في أرض الحرم ، وقالوا : إن بعض الحديبية من الحرم وسبق نقله ، وهو مخالف أيضا لظاهر قوله تعالى : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) وقد قال الله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) أي : حرمها . ( ثم جاء نسوة مؤمنات ) أي : من مكة ( فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) أي : فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ، ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ) فنهاهم الله تعالى أن يردوهن ) ، قيل : هن غير داخلات في الشرط لرواية : منا رجل ، وعلى هذا لا إشكال ، وعلى رواية : منا أحد ، فإن لفظة أحد وإن يتناولهن ، لكن الآية ناسخة لذلك ، ذكره ابن الملك ، وتوضيحه في شرح السنة : اختلفوا في أن الصلح هل وقع على رد النساء أم لا ؟ قيل : إنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا ، لما روينا : أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخا بقوله تعالى ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) وقيل : أن الصلح لم يقع على رد النساء لقوله في هذا الحديث ( لا يأتيك منا رجل ) وذلك ; لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة . ( وأمرهم ) أي : الصحابة ( أن يردوا الصداق ) أي : صداقهن إلى أزواجهن من المشركين ، ذكره الطيبي ، وقال ابن الملك أي : إن جاءوا في طلبهن وقد سلموا الصداق إليهن وإلا لا يعطون شيئا اهـ . وهو خلاف المذهب .

قال ابن الهمام : ولو شرطوا في الصلح أن يرد إليهم من جاء مسلما منهم بطل الشرط ، فلا يجب الوفاء به ، فلا يرد من جاءنا مسلما منهم وهو قول مالك . وقال الشافعي : يجب الوفاء بالرجال دون النساء ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الحديبية ، وأما لو شرط مثله في النساء لا يجوز ردهن ، ولا شك في انفساخ نكاحها ، فلو طلب زوجها الحربي هل يعطاه ؟ للشافعي فيه قولان . في قول لا يعطاه وهو قولنا ، وقول مالك وأحمد ، وفي قول يعطاه قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) وهذا هو دليل النسخ في حق الرجال أيضا ، إذ لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك ، بل مفسدة رد المسلم إليهم أكثر ، وحين شرع ذلك كان في قوم من أسلم منهم لا يبالغون فيهم أكثر من القيد والسب والإهانة ، ولقد كان بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المستضعفين مثل أبي بصير ، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو إلى نحو سبعين لم يبلغوا فيهم النكاية لعشائرهم ، والآن على خلاف ذلك اهـ .

وفي المدارك عند قوله تعالى : ( واسألوا ما أنفقتم ) هو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم ، وعند قوله عز وجل : ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ) احتج به أبو حنيفة على أن لا عدة على المهاجرة ، وفي المعالم اختلف القول في أن المهر كان واجبا ، أو مندوبا ، واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار ؟ فقال قوم : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة ، وقال قوم : هي غير منسوخة .

( ثم رجع ) أي : النبي صلى الله عليه وسلم ( إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير ) : بفتح الموحدة وكسر الصاد المهملة ( رجل من قريش وهو مسلم ) ، قال المؤلف : هو عتبة بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة الثقفي قديم الإسلام

[ ص: 2618 ] والصحبة ، مات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( فأرسلوا ) أي : أهل مكة ( في طلبه رجلين ، فدفعه إلى الرجلين ) ، يعني : إليهما ( فخرجا به حتى إذا بلغا ) أي : معه ( ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى ) أي : بضم الهمزة ويفتح أي : أظن ( سيفك هذا يا فلان جيدا ، أرني ) : بكسر الراء ويجوز إسكانها واختلاسها ( أنظر إليه ) . بالجزم على جواب الأمر ( فأمكنه ) أي : فأقدره ومكنه ( منه ) أي : من السيف حتى أخذه ( فضربه ) أي : به كما في نسخة ( حتى برد ) أي : مات ، والمعنى أنه سكنت منه حركة الحياة وحرارتها فأطلق اللازم على الملزوم . قال القاضي : يقال برده فلان إذا قتله على سبيل النكاية ، فإن البرودة من توابع الموت ولوازمه ، ومنه السيوف البوارد ( وفر الآخر ) أي : هرب ( منه حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ) أي : يجري من خوف القتل ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأى هذا ذعرا ) : بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة أي : خوفا ذكره بعض الشراح ، أو ما خاف منه ذكره الطيبي ، وفي القاموس : الذعر بالضم الخوف ، وبالفتح التخويف وبالتحريك الدهش وكصرد الأمر المخوف اهـ . ولا يخفى أن الكل يصلح هنا ، لكن النسخ على الضم ( فقال : قتل ) : بصيغة المجهول ( والله صاحبي ، وإني لمقتول ) . أي : وإني لأخاف القتل ، أو دنوت من أن يقتلني ( فجاء أبو بصير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل أمه ) : بالنصب على المصدر وفي نسخة بالرفع على الابتداء والخبر محذوف ، ومعناه الحزن والمشقة والهلاك وقد يرد بمعنى التعجب وهو المراد هنا على ما في النهاية فإنه صلى الله عليه وسلم تعجب من حسن نهضته للحرب وجودة معالجته لها مع ما فيه خلاصة من أيدي العدو ( مسعر حرب ) : بكسر الميم وفتح العين وهو منصوب ويرفع أي : هو من يحمي الحرب ويهيج القتال ( لو كان له ) أي : لأبي بصير ( أحد ) . أي : صاحب ينصره ويعينه ، وقيل معناه لو كان له أحد يعرفه أنه لا يرجع إلي حتى لا أرده إليهم وهذا أنسب بسياق الحديث ، وأصل المسعر والمسعار ما يحرك به النار من آلة الحديد يقال : سعرت النار والحرب إذا أوقدتها يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة . قال القاضي : لما شبه الحرب بالنار مثل الذي يهيجه بمسعر التنور اهـ . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( حمي الوطيس ) أي : التنور ، وقيل : هي حجارة مدورة إذا حميت لا يقدر أحد أن يطأها ، وحمي الوطيس كناية عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق ، وهو من فصيح الكلام ، ولم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره في النهاية .

( فلما سمع ) أي : أبو بصير ( ذلك ) أي : الكلام المذكور ( عرف أنه سيرده إليهم ) ، قال القاضي : إنما عرف ذلك من قوله : مسعر حرب لو كان معه أحد ، فإنه شعر بأنه لا يؤويه ولا يعينه ، وإنما خلاصه عنهم بأن يستظهر بمن يعينه على محاربتهم ( فخرج حتى أتى سيف البحر ) بكسر السين وسكون الياء أي : ساحله والإضافة لمجرد البيان ، فإن السيف ساحل البحر ، أو محمول على التجريد ( قال ) أي : الراوي ( وانفلت ) أي : تخلص من أيدي المشركين ( أبو جندل بن سهيل ) أي : ابن عمرو القرشي ، وكان أسلم بمكة ووضعه أبوه في القيد ، فخرج أولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية فرده إليهم كما سيأتي فخرج ثانيا ، ( فلحق بأبي بصير ) ، لما عرف أن النبي يرده إليهم ( فجعل ) أي : شرع وطفق ( لا يخرج من قريش رجل قد أسلم ) أي : سابقا ، أو لاحقا ( إلا لحق بأبي بصير ) ، تحقيقا لتمكينه صلى الله عليه وسلم بقوله لو كان له أحد ( حتى اجتمعت منهم عصابة ) بكسر أوله أي : جماعة قوية .

[ ص: 2619 ] ( فوالله ما يسمعون ) أي : العصابة ( بعير ) : بكسر الموحدة على أنها حرف جر وبكسر العين قال الطيبي : العير : يقال للإبل بأحمالها ، والمعنى بقافلة ( خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ) أي : تعرضوا واستقلوا أهلها بالمحاربة ( فقتلوهم ) أي : أهل القافلة ( وأخذوا أموالهم ) : لما أخذوا بالموت رضوا بالحمى ( فأرسلت قريش ) من أهل مكة ( إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ) : منصوبان بنزع الخافض أي : تقسم قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وبالرحم يعني : بالقرابة التي بينه وبينهم ( لما ) : بتشديد الميم بمعنى إلا ( أرسل إليهم ) أي : لا يعاملهم بشيء إلا إرساله إلى أبي بصير وأتباعه أحدا ، ويدعوهم إلى المدينة كيلا يتعرضوا لهم في السبيل ( فمن أتاه ) أي : وأجازوا أن من أتى النبي صلى الله عليه وسلم ( فهو آمن ) ، وفي النهاية : نشدتك الله ، وأنشدتك الله ، وناشدتك الله وبالله أي : سألتك وأقسمت عليك وتعديته في مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا : نشدتك الله وبالله ؛ أو لأنهم ضمنوه معنى ذكرت . وقال التوربشتي : الرواية في لما بالتشديد ، وهي في موضع إلا كقوله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) على قراءة من قرأ بالتشديد والعرب تستعمل هذا الحرف في كلامهم على الوجه الذي في الحديث إذا أرادوا المبالغة في المطالبة كأنهم يبتغون من المسئول أن لا يهتم إلا بذلك . قال الطيبي : الفاء في قوله : فمن أتاه جواب شرط محذوف ، والمعنى أرسلت قريش ما تطلب منه صلى الله عليه وسلم شيئا إلا ردهم إلى المدينة ، فإذا فعلت ذلك فمن أتاه من مكة مسلما بعد فهو آمن من الرد إلى قريش ، ( فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ) . أي : إلى أبي بصير وأصحابه وطلبهم إلى المدينة . ( رواه البخاري ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية