صفحة جزء
4043 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء : على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح والسيف والقوس ونحوه ، فجاء أبو جندل يحجل في قيوده ، فرده إليهم . متفق عليه .


4043 - ( وعن البراء بن عازب قال : صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء ) أي : خصال ، أو شروط ( على أن من أتاه من المشركين ) أي : مسلما ( رده إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه ) أي : إليه ، وهذا هو الأول ( وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ) أي : وعلى أن لا يأتيهم في هذا العام وهذا هو الثاني . ( ولا يدخلها ) أي : وعلى أن لا يدخلها حين يدخلها ( إلا بجلبان السلاح ) : بضم الجيم واللام وتشديد الموحدة جراب من أدم يوضع فيه السيف مغمودا ، ويطرح في السوط والآلات ، فيعلق من أخرة الرحل ، ويروى بسكون اللام ( والسيف ، والقوس ونحوه ) بدل من السلاح ، والمراد أن تكون الأسلحة في أغمادها بلا تشهير السلاح ، كما في صورة القهر والغلبة ، وكان من عادة العرب أن لا يفارقهم في السلم والحرب . قال ابن الملك : المراد أنهم لا يدخلون مكة كاشفين سلاحهم متأهبين للحرب ، وبها شرطوه ليكون أمارة للسلم فلا يظن أنهم دخلوها قهرا ، واشتراطه هذه الشروط كان لضعف حال المسلمين وعجزهم عن مقاومة الكفار حينئذ ظاهر اهـ .

وتبع القاضي فيه حيث قال : شرط رد المسلم إلى الكفار فاسد يفسد الصلح إلا إذا كان بالمسلمين خور وعجز ظاهر ، ولذلك شرطه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية اهـ . وهو خطأ ظاهر إذ لم يكن بالمسلمين ضعف حينئذ وهم قريب ألفين من شجعان العرب ، وقد غلبوا وهم ثلاثمائة أهل مكة ببدر ، وهم ألفان بل إنما كان الصلح لكونهم في الإحرام والحرم ، ولم يؤذنوا بالقتال فيه ، ولما رأى صلى الله عليه وسلم فيه من الحكم والمصالح الآتي بعضها ، ومنها قوله تعالى ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) الآيات ، هذا وقد قال ابن الهمام : ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية أي : النقيصة ، ومن ذلك قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما في الحديبية ، وكان متجانفا عن الصلح : أليس برسول الله ؟ قال أبو بكر : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال ؟ بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه : الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : وأنا أشهد أنه رسول الله ذكره ابن إسحاق رضي الله عنه في السير . وفي الحديث : ليس للمؤمن أن يذل نفسه ، فالعزة خاصية الإيمان [ ص: 2620 ] قال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) إلا إذا خاف الإمام الهلاك على نفسه والمسلمين ، فلا بأس ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد على الناس البلاء في وقعة الخندق أرسل إلى عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المزني ، وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلثي ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهما ، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة . فذكر لهما ذلك ، فاستشارهما فيه فقالا : يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : ( بل أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد ، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ) . فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا ونحن وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا شراء أو بيعا فحين كرمنا الله بالإسلام وهدانا له وعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة ، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فأنت وذاك ) فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ، ثم قال : ليجهدوا علينا . قال محمد بن إسحاق : حدثني به عاصم بن عمرو بن قتادة ، ومن لا أتهمه عن محمد بن سلمة بن عبد الله عن ابن شهاب الزهري اهـ .

وقد سبق له تحقيق مناسب للمقام أيضا فتدبر . وأغرب الطيبي حيث قال قوله : لم يردوه . فإن قلت : كيف أتى الجزاء هنا بلفظ المضارع ، وفيما سبق بلفظ الماضي ، وما فائدته عند علماء المعاني ؟ قلت : اهتمامهم بشأن رد المسلمين من أتاهم من المشركين أشد وأولى من ردهم المسلمين إليهم اهـ . ووجه غرابته أن قوله : لم يردوه ماض معنى ، وإن كان لفظه مضارعا ، كما هو مقرر في محله فلا فرق بين لم يردوا وبين ما ردوه في المعنى ، والعبرة بالمعنى عند أرباب المعاني مع أن كلا منهما بعد دخول حرف الجزاء يصير مضارعا في المعنى .

( فجاء أبو جندل ) أي : ابن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ، أسلم بمكة ، فقيده المشركون فانفلت منهم مع قيده ( يحجل ) : بسكون المهملة وضم الجيم أي : يمشي ( في قيوده ) : على دينه كما يمشي الغراب ، والحجل مشي الغراب ( فرده إليهم ) أي : محافظة للعهد ومراعاة للشرط . قال ابن الهمام : فصار ينادي : يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني عن ديني فقال له عليه السلام اصبر أبا جندل واحتسب فإن الله جاعل لك وللمستضعفين فرجا ومخرجا ( متفق عليه ) . قال صاحب المواهب : وفي رواية البخاري : فبينا هم كذلك دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نقض الكتاب بعد ) أي : لم نفرغ . قال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأجزه لي ) قال : ما أنا بمجيز ذلك . قال : ( بلى فافعل ) . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجرناه لك . قال أبو جندل أي : معشر المسلمين أرد إلى المشركين ، وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت ، وكان قد عذب في الله عذابا شديدا . زاد ابن إسحاق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا ) . ووثب عمر يمشي إلى يمينه ويقول : اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب .

قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين أحدهما : أن الله قد أباح التقية لمسلم إذا خاف الهلاك ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التورية ، فلم يكن رده إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك ، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني : أنه رده إلى أبيه ، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وإن عذبه ، أو سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا ، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به خير عباده من المؤمنين .

[ ص: 2621 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية