صفحة جزء
17 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من القوم ؟ أو : من الوفد ؟ " قالوا : ربيعة . قال : " مرحبا بالقوم - أو : بالوفد - غير خزايا ولا ندامى . قالوا : يا رسول الله ، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام ، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ، فمرنا بأمر فصل نخبره من وراءنا وندخل به الجنة ، وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع ؛ أمرهم بالإيمان بالله وحده ، قال : ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس ) . ونهاهم عن أربع : عن الحنتم ، والدباء ، والنقير ، والمزفت ، وقال : ( احفظوهن ، وأخبروا بهن من وراءكم ) . متفق عليه ، ولفظه للبخاري .


17 - ( وعن ابن عباس ) : هو عبد الله بن عباس ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وقيل : خمس عشرة سنة ، وقيل : عشر . كان حبر هذه الأمة وعالمها ، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة ، والفقه ، والتأويل ، ورأى جبريل - عليه السلام - مرتين ، وكان عمر بن الخطاب يقربه ويشاوره بين أجلة الصحابة ، وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالطائف سنة ثمان وستين [ ص: 88 ] في أيام ابن الزبير وهو ابن إحدى وسبعين سنة . وروى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين . ( قال : إن وفد عبد القيس ) الوفد : جمع وافد ، وهو الذي أتى إلى الأمير برسالة من قوم ، وقيل : رهط كرام . وعبد القيس أبو قبيلة عظيمة تنتهي إلى ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، وربيعة قبيلة عظيمة في مقابلة مضر ، وكان قبيلة عبد القيس ينزلون البحرين وحوالي القطيف ، وما بين هجر إلى الديار المضرية ، وكانت وفادتهم سنة ثمان ، وسببها أن منقذ بن حبان منهم كان يتجر إلى المدينة ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه فسأله عن أشراف قومه مسميا له بأسمائهم فأسلم ، وتعلم الفاتحة واقرأ باسم ربك ، ثم رحل إلى هجر ومعه كتابه - عليه الصلاة والسلام - فكتمه أياما لكن أنكرت زوجته صلاته ومقدماتها ، فذكرت ذلك لأبيها المنذر رئيسهم فتجاذبا فوقع الإسلام في قلبه ، ثم ذهب بالكتاب إلى قومه وقرأه عليهم ، فأسلموا وأجمعوا على المسير إليه - عليه الصلاة والسلام - فتوجه منهم أربعة عشر راكبا ، فحين قربوا من المدينة قال - عليه الصلاة والسلام - لجلسائه : ( أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج ) أي المنذر ، سماه - عليه الصلاة والسلام - بذلك لأثر بوجهه . وروي أنهم أربعون ، وجمع بأن لهم وفادتين ، أو بأن أشرافهم أربعة عشر . ( لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي حضروه ( قال ) أي رسول الله كما في نسخة ( - صلى الله عليه وسلم - : من القوم ؟ ) بفتح الميم ( أو : من الوفد ) ؟ شك من الراوي ، والظاهر أنه ابن عباس ، والسؤال إنما هو للاستئناس ( قالوا : ربيعة ) أي قال بعض الوفد : نحن ربيعة ، أو وفد ربيعة ، أو قال بعض الصحابة : هم ربيعة ، أو وفد ربيعة على حذف مضاف ، وفي نسخة بالنصب أي تسمى ربيعة ، أو يسمون ربيعة ( قال : مرحبا بالقوم ) أو ( بالوفد ) أي أصاب الوفد رحبا وسعة ، أو أتى القوم موضعا واسعا ، فالباء زائدة في الفاعل ، ومرحبا مفعول به لمقدر ، أو أتى الله بالقوم مرحبا ، فالباء للتعدية ، ومرحبا مفعول مطلق ، وقيل : هو من المفاعيل المنصوبة بمضمر وجوبا لكثرة دورانه على الألسنة ، ويقال هذا للتأنيس وإزالة الحزن والاستحياء عن نفس من أتاهم من وافد ، أو باغي خير ، أو قاصد حاجة ، وتقدير ابن حجر : صادفتم ، أو أصبتم غير ظاهر مع وجود القوم . ( غير خزايا ) بفتح الخاء جمع خزيان ، من الخزي وهو الذل والإهانة ، ونصبه على الحال من الوفد ، والعامل فيه الفعل المقدر في مرحبا . وفي رواية للبخاري : ( بالوفد الذين جاءوا غير خزايا ) وجوز جره على أنه بدل من القوم ، وأغرب ابن حجر فقال : وروي بالكسر صفة ، ووجه غرابته أن المحققين على أن " غير " متوغلة في النكرة بحيث إنها لا تصير معرفة بالإضافة ، ولو إلى المعرفة ( ولا ندامى ) : جمع ندمان بمعنى نادم ، أو جمع نادم على غير قياس ، إذ قياسه : ( نادمين ) ازدواجا للخزايا ، والمعنى ما كانوا بالإتيان إلينا خاسرين خائبين ؛ لأنهم ما تأخروا عن الإسلام ، ولا أصابهم قتال ولا سبي فيوجب استحياء أو افتضاحا أو ذلا أو ندما ( قالوا : يا رسول الله ، إنا لا نستطيع أن نأتيك ) أي في جميع الأزمنة ( إلا في الشهر ) من الشهرة ، والظهور ( الحرام ) : والمراد به الجنس ، لأن الأشهر الحرم أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم متوالية ، ورجب فرد . قال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) وإنما قالوا ذلك اعتذارا عن عدم الإتيان إليه - عليه الصلاة والسلام - في غير هذا الوقت ؛ لأن الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضا ويكفون في الأشهر الحرم ؛ تعظيما لها وتسهيلا على زوار البيت الحرام من الحروب والغارات الواقعة منهم في غيرها ، فلا يأمن بعضهم بعضا في المسالك والمراحل إلا فيها ، ومن ثم كان يمكن مجيء هؤلاء إليه - عليه الصلاة والسلام - فيها دون ما عداها ؛ لأمنهم فيها من كفار مضر الحاجزين بين منازلهم وبين المدينة ، [ ص: 89 ] وكان هذا التعظيم في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ( وبيننا وبينك هذا الحي ) : الجملة حال من فاعل " نأتيك " ، أو بيان لوجه عدم الاستطاعة ، وأصل الحي منزل القبيلة ، سميت به اتساعا لأن بعضهم يحيا ببعض ، أو يحمس بعضهم بعضا ( من كفار مضر ) : تبعيضية ، أو بيانية وهو الأظهر ، ومضر غير منصرف على الأصح ، وهو ابن نزار بن معد بن عدنان ، فهو أخو ربيعة أبي عبد القيس ( فمرنا بأمر ) : الأظهر أن الأمر بمعنى الشأن ، واحد الأمور ، والباء صلة ، والتنكير للتعظيم ، والمراد به معنى اللفظ ومورده ، وقيل : الأمر واحد الأوامر ، أي القول الطالب للفعل ، والتنكير للتقليل ، والباء للاستعانة ، والمراد به اللفظ ، والمأمور به محذوف أي مرنا نعمل بقولك : آمنوا ، أو قولوا آمنا ، وأغرب ابن حجر في قوله : ومن ثم قال الراوي : أمرهم بالإيمان اهـ . فإنه يدل على أن الأمر بمعنى الشأن ؛ لأنه لو كان كما قال لقال الراوي : قال - عليه الصلاة والسلام - لهم : آمنوا ، أو قولوا : آمنا . ( فصل ) : بمعنى فاصل بين الحق والباطل ، وهو صفة لأمر أي أمر قاطع ، أو بمعنى مفصل لتفصيله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بأركانه الخمسة ، أو مفصول أي مبين واضح به المراد من غيره ، وحكى الإضافة ( نخبر ) : بالرفع على أنه صفة ثانية لأمر أو استئناف ، وبالجزم على جواب الأمر ( به ) : بسببه كذا قيل ، والظاهر أنها للتعدية ( من وراءنا ) : بفتح الميم والهمزة ، أي من خلفنا من قومنا ، أو من بعدنا ممن يدركنا ، قال ابن حجر : وفي رواية أخرى بكسرها اهـ .

وهو غير موجود في النسخ المصححة ، ويحتاج إلى تقدير المفعول . ( وندخل ) عطفا على نخبر بصيغة الفاعل ، وفي نسخة بصيغة المفعول ( به ) أي بسبب قبول أمرك والعمل به ، أو بالإخبار به المفهوم من " نخبر " ( الجنة ) أي مع الفائزين ، وقال ابن حجر : مع الناجين اهـ . وفيه مناقشة لا تخفى ، ودخول الجنة إنما هو بفضل الله لكن العمل الصالح سببه كما أن الأكل سبب الشبع ، والمشبع هو الله تعالى بفضله ؛ إذ لا يجب على الله سبحانه ، أو المضاف مقدر أي درجاتها فإنها في مقابلة الأعمال ، ودخول الجنة بالإفضال . قال ابن حجر : وهذا على حد : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) أي بعملكم ، ولا ينافيه خبر : ( لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله ) ; لأن المراد نفي كون العمل سببا مستقلا في الدخول ، بدليل قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) . وهذا أولى من الجواب بأن الباء في الآية للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم ، أي لثوابها ، أو للمقابلة كـ " بعته بدرهم " ، أو المراد الجنة العالية ، أو بأن درجاتها بالعمل ودخولها بالفضل . وقال النووي : الدخول بسبب العمل ، والعمل من رحمته تعالى أي فلم يقع الدخول إلا برحمة الله ، واعترض بأن المقدمة الأولى خلاف صريح الحديث ، ويدفع بأن المراد به ما تقرر من انتفاء كونه سببا مستقلا مع قطع النظر عن كونه من الرحمة ، إذ القصد به الرد على من يرى عمله متكفلا بدخولها من غير ملاحظة لكونه من جملة رحمة الله . اهـ .

والتحقيق أن المراد بالحديث انتفاء دخولها بالعمل على وجه العدل ، وإثباته على طريق الفضل فما بينهما تناف يقبل الفصل . ( وسألوه ) أي الوفد ( عن الأشربة ) - جمع شراب ، وهو يشرب - أي عن حكم ظروفها بحذف المضاف ، أو الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة ، بحذف الصفة ، والمراد : عن حكمها ( فأمرهم بأربع ) أي بأربع خصال تنبيها على أنها الأهم بالسؤال ، والأتم في تحصيل الكمال ( ونهاهم عن أربع ) أي أربع خصال ، وهي أنواع الشرب باعتبار أصناف الظروف الآتية . ( أمرهم بالإيمان بالله وحده ) : نصب على الحال أي واحدا في الذات منفردا في الصفات لا شريك له في الأفعال . وهذا الأمر توطئة ، فإن الأمر والنهي من فروع التكاليف ، وهي موقوفة على الإيمان ، فإنه شرط صحتها ، ومبدأ ثبوتها ( قال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ ) ذكره تنبيها لهم على تفريغ أذهانهم لضبط ما يلقى إليهم فيكون أوقع في نفوسهم ( قالوا : الله ورسوله أعلم ) تأدبا وطلبا للسماع منه - صلى الله عليه وسلم - لأن القوم كانوا مؤمنين ، فلا وجه لقول ابن حجر : هو بمعنى عالم على حد : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ثم أغرب [ ص: 90 ] في قوله : ويؤخذ منه الرد على من نازع في قول الفقهاء عقب نحو فتاويهم وأبحاثهم : والله أعلم ، وعلى من فصل فقال : يقول المجيب في العقائد : وبالله التوفيق ، وفي الفروع : والله أعلم اهـ . فإنه تناقض بين تأويله وأخذه . ( قال ) : قيل أي الإيمان بالله وحده الذي هو بمعنى الإسلام ؟ إذ كل يطلق بمعنى الآخر ، ومن ثم فسره - عليه الصلاة والسلام - في بعض الأحاديث بما فسر به الإيمان هنا . كذا قاله ابن حجر ، وهو تأويل حسن لولا قوله : بالله وحده قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) : برفع شهادة لا غير على أنها خبر مبتدأ محذوف هو : هو ( وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ) : بجر الثلاثة ، وهو الأظهر ، أو برفعها على ما سيأتي بيانها . قال القاضي عياض : وإنما لم يذكر الحج لأن وفادة عبد القيس كانت عام الفتح ، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر ( وأن تعطوا من المغنم ) بفتح الميم والنون أي الغنيمة ( الخمس ) بضم الميم ، وسكونها . قال ابن الصلاح : " وأن تعطوا " عطف على قوله : بأربع ، فلا يكون واحدا منها ، وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان اهـ . فيكون هذا من باب زيادة الإفادة . قال الطيبي : في الحديث إشكالان ، أولهما : أن المأمور به واحد ، والأركان تفسير للإيمان ؛ بدلالة قوله : أتدرون ما الإيمان ؟ وثانيهما : أن الأركان أي المذكورة خمسة ، وقد ذكر أربعة أي أولا . وأجيب عن الأول بأنه جعل الإيمان أربعا نظرا إلى أجزائه المفصلة ، وعن الثاني بأن عادة البلغاء إذا كان الكلام منصبا لغرض من الأغراض جعلوا سياقه له وكأن ما سواه مطروح ، فهاهنا ذكر الشهادتين ليس مقصودا ؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة ؛ بدليل قولهم : الله ورسوله أعلم اهـ .

ويدل عليه ما جاء في رواية للبخاري : أمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع : ( أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وأعطوا خمس ما غنمتم ، ولا تشربوا في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت ) اهـ .

وبهذه الرواية تندفع الإشكالات وترجع إليها التأويلات ، لكني ما أقول ما قاله الطيبي من أن ذكر الشهادتين ليس مقصودا ، بل أقول : هو المقصود بالذات ، وإنما المذكورات بيان شعبها المعظمة ، وأركانها المفخمة ، ومحمل كلام الطيبي أنه ليس مقصودا من الأربع ، بل هو جملة معترضة بين الأربع وبين مبينها . قال السيد جمال الدين : قيل هذا الحديث لا يخلو عن إشكال ؛ لأنه إن قرئ : وأقام الصلاة إلخ بالرفع على أنها معطوفة على شهادة ليكون المجموع هـو الإيمان فأين الثلاثة الباقية ؟ وإن قرئت بالجر على أنها معطوفة على قوله : بالإيمان يكون المذكور خمسة لا أربعة . وأجيب على التقدير الأول بأن الثلاثة الباقية حذفها الراوي اختصارا أو نسيانا ، وعلى التقدير الثاني بأنه عد الأربع التي وعدهم ، ثم زادهم خامسة ، وهي أداء الخمس ؛ لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر ، وكانوا أهل جهاد وغنائم اهـ .

والأظهر اختيار الجار ، والمجرورات الأربعة بالعطف هي المأمورات ، ويكون ذكر الإيمان لشرفه وفضله ، وبيان أساسه وأصله ، سواء كانوا مؤمنين أو مرتدين ، ويكون قوله : أمرهم بالإيمان إلى آخر الشهادتين كجملة معترضة ، ويكون التقدير أمرهم بالإيمان أيضا بدليل اتفاق أهل السنة على أن الأركان ليست من أجزاء الإيمان ، وللرواية السابقة عن البخاري : ( ونهاهم عن أربع ) أي خصال ، وهي الانتباذ في الظروف الأربعة والشرب منها ( عن الحنتم ) : بدل بإعادة الجار ، وهو - بفتح الحاء - الجرة مطلقا ، أو خضراء أو حمراء ، أعناقها في جنوبها ، يجلب فيها الخمر من مضر ، أو أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف ، أو جرار تعمل من طين وأدم وشعر - أقوال للصحابة وغيرهم - ولعلهم كانوا ينتبذون في ذلك كله . ( والدباء ) بضم الدال وتشديد الباء ، ويمد ويقصر - وعاء القرع ، وهو اليقطين اليابس ( والنقير ) بفتح فكسر - جذع ينقر وسطه وينبذ فيه ( والمزفت ) : بتشديد الفاء المفتوحة - المطلي بالزفت ، ويقال له : القار والقير ، وربما قال ابن عباس : " المقير " بدل المزفت ، والمراد بالنهي ليس استعمالها مطلقا ، بل النقيع فيها والشرب منها ما يسكر ، وإضافة الحكم إليها خصوصا إما لاعتيادهم استعمالها في المسكرات ، أو لأنها أوعية تسرع بالاشتداد فيما يستنقع ؛ لأنها غليظة لا يترشح منها الماء ولا ينفذ فيه الهواء ، فلعلها تغير النقيع في زمان قليل ، ويتناوله صاحبه على غفلة بخلاف السقاء فإن التغير فيه يحدث على مهل ، والدليل على ذلك ما روي أنه قال : ( نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ، فاشربوا في الأسقية كلها ، ولا تشربوا مسكرا ) . وقيل : هذه الظروف كانت مختصة بالخمر ، فلما حرمت الخمر حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال هذه الظروف ، إما لأن في استعمالها تشبيها بشرب الخمر ، وإما لأن هذه الظروف كانت فيها أثر الخمر ، فلما مضت مدة أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال هذه الظروف ، فإن أثر الخمر زال عنها ، وأيضا في ابتداء تحريم شيء يبالغ ويشدد [ ص: 91 ] ليتركه الناس مرة ، فإذا تركه الناس واستقر الأمر يزول التشديد بعد حصول المقصود ، هذا وذهب مالك وأحمد إلى أن تحريم الانتباذ في هذه الظروف باق لم ينسخ ؛ لأن ابن عباس استفتي عن الانتباذ فذكره ، فلو نسخ لم يذكره ، ويرد بأنه لم يبلغه النسخ ، فلا يكون إيراده له حجة على من بلغه . ( وقال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( احفظوهن ) أي الكلمات المذكورات من المأمورات والمنهيات واعملوا بهن ، ( وأخبروا بهن ) أي أعلموهن ( من وراءكم ) أي الذين خلفكم من القوم ؛ لتكونوا عالمين معلمين وكاملين مكملين ، وفي بعض النسخ بكسر الميم وجر ما بعده ، وهو غير ظاهر ؛ لاحتياجه إلى تقدير المفعول ( متفق عليه ) : ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ( ولفظه ) أي لفظ الحديث للبخاري ، يعني ولمسلم معناه ، فبهذا المعنى صار الحديث متفقا عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية