صفحة جزء
4305 - وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس جبة رومية ضيقة الكمين " . متفق عليه .


4305 - ( وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس ، : أي في السفر ( جبة ) : بضم الجيم وتشديد الموحدة ثوبان بينهما قطن ، إلا أن يكونا من صوف ، فقد تكون واحدة غير محشوة . وقد قيل : جبة البرد جنة البرد بضم الجيم وفتحها ( رومية ) : بتشديد الياء ، لا غير قال ميرك : وكذا وقع في رواية الترمذي ، ولأبي داود : " جبة من صوف من جباب الروم " ، لكن وقع في أكثر روايات الصحيحين وغيرهما " جبة شامية " ، وقد ضبطها العسقلاني بتشديد الياء وتخفيفها ، ولا منافاة بينهما ; لأن الشام حينئذ داخل تحت حكم قيصر ملك الروم ، فكأنها واحد من حيث الملك ، ويمكن أن يكون نسبة هيئتها المعتاد لبسها إلى أحدهما ، ونسبة خياطتها أو إتيانها إلى الأخرى ( ضيقة الكمين ) : بيان رومية أو صفة ثانية ، وهذا كان في سفر ، كما دل عليه رواية البخاري من طريق ذكريا ابن أبي زائدة ، عن الشعبي بهذا الإسناد عن المغيرة قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال : " أمعك ماء ؟ " ، فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته [ ص: 2764 ] فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فأفرغت عليه الأداوة ، فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة شامية من صوف ، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أصل الجبة ، وله من طرق أخرى : " فذهب يخرج يديه من كميه ، فكانا ضيقين ، فأخرج من تحت بدنه " بفتح موحدة فمهملة فنون أي جنبه ، كما في رواية أخرى ، والبدن بفتحتين درع قصيرة ضيقة الكمين زاد مسلم : و " ألقى الجبة على كتفيه ، فغسلهما ومسح برأسه وخفيه " ، ووقع في رواية مالك وأحمد وأبي داود أن ذلك كان في غزوة تبوك . وفي الموطأ ومسند أبي داود : أن ذلك كان عند صلاة الصبح ، ولمسلم من طريق عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة عن أبيه قال : فأقبلت معه حتى وجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم ، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعة الأخيرة ، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته ، فأفزع ذلك الناس ، وفي أخرى قال المغيرة : فأردت تأخير عبد الرحمن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( . . . ) ذكره ميرك .

ثم قال : ومن فوائد الحديث : الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق نجاستها ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية ولم يستفصل ، واستدل به القرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت ; لأن الجبة كانت شامية ، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر ، ومنها : جواز لبس الصوف ، وكره مالك لبسه لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد ; لأن إخفاء العمل أولى قال ابن بطال : ولم ينحصر التواضع في لبسه ، لمن في القطن وغيره مما هو بدون ثمنه . قلت : وقد روى البيهقي عن أبي هريرة ، وزيد بن ثابت : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشهرتين رقة الثياب وغلظها ولينها وخشونتها وطولها وقصرها ، ولكن سداد فيما بين ذلك واقتصاد ، وهذا هو المختار عند السادة النقشبندية ، وأما أكثر طوائف الصوفية فاختاروا لبس الصوف ; لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه وحسن منظره ، وإنما لبسوا لستر العورة ودفع الحر والقر ، فاجتزوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف ، وقد وصف أبو هريرة وفضالة بن عبيد أصحاب الصفة ، بأنهم كان لباسهم الصوف حتى إن كان بعضهم ليعرق فيه ، فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر ، وقد نقل السيوطي في الدر عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما : أن أول من لبس الصوف آدم وحواء لما هبطا من الجنة إلى الأرض ، وفي التعرف قال أبو موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة ، عليهم العباء ، يؤمون البيت العتيق " ، والروحاء موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين ميلا من المدينة على ما في القاموس ، وقال الحسن : كان عيسى - عليه السلام - يلبس الشعر ، ويأكل الشجر ، ويبيت حيث أمسى . وقال أبو موسى : كان - عليه السلام - يلبس الشعر ، وقال الحسن البصري : لقد أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف .

وذكر الغزالي في منهاج العابدين أن فرقدا السبخي دخل على الحسن ، وعليه كساء وعلى الحسن حلة ، فجعل يلمسها فقال له الحسن : ما لك تنظر إلى ثيابي ؟ ثياب أهل الجنة ، وثيابك ثياب أهل النار . بلغني أن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية ، ثم قال الحسن : جعلوا الزهد في ثيابهم ، والكبر في صدورهم ، والذي يحلف به لأحدكم لكسائه أعظم كبرا من صاحب المطرف . بمطرفه ، وإلى هذا المعنى يشير ذو النون المصري حيث قال :


تصوف فازدهى بالصوف جهلا وبعض الناس يلبسه مجانة     يريك مهانة ويريك كبرا
وليس الكبر من شكل المهانة     تصوف كي يقال له أمين
وما يغني تصوفه الأمانة     ولم يرد الإله به ولكن
أراد به الطريق إلى الخيانة

هذا : وقيل فيه ندب اتخاذ ضيق الكم في السفر لا في الحضر ; لأن أكمام الصحابة - رضي الله عنهم - كانت واسعة ، قال ابن حجر : وإنما يتم ذلك إن ثبت أنه تحراها للسفر ، وإلا فيحتمل أنه لبسها للدفاء من البرد أو لغير ذلك ، وأما ما نقل عن الصحابة من اتساع الكم ، فمبني على توهم أن الأكمام جمع كم وليس كذلك ، بل جمع كمة ، وهي ما يجعل على الرأس كالقلنسوة ، فكأن قائل ذلك لم يسمع قول الأئمة : إن من البدع المذمومة اتساع الكمين اهـ . ويمكن حمل هذا على السعة المفرطة وما نقل عن الصحابة على خلاف ذلك وهو ظاهر ، بل متعين ; ولذا قال في النتف من كتب أئمتنا : إنه يستحب اتساع الكم قدر شبر ( متفق عليه ) : ورواه مالك ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية