صفحة جزء
1 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ، ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . متفق عليه .


1 - ( عن عمر بن الخطاب ) : وهو الناطق بالصواب ، المسمى بالفاروق على ما دل عليه الكتاب ، وأول من سمي بأمير المؤمنين فيما بين الأصحاب ( رضي الله عنه ) : وهو . عدوي قرشي يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي ، كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي حفص ، وهو لغة : الأسد ، ولقبه بالفاروق لفرقانه بين الحق ، والباطل . قال القاضي في تفسيره عند قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي ، فلم يرض المنافق ، وقال : نتحاكم إلى عمر ، فقال اليهودي لعمر : قضى لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرض بقضائه ، وخاصم إليك ، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم ، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ سيفه ، ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت . وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي : الفاروق . وقيل بإسلامه ، إذ أمر المسلمين قبله كان في غاية من الخفاء ، وبعده على غاية من الظهور ، والجلاء ، أسلم بعد أربعين رجلا وعشرة سنة ست من النبوة . وقيل : أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وثلاثون رجلا ، وست نسوة ، ثم أسلم عمر ; فنزلت : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) . بويع له بالخلافة بعد موت الصديق بعهده إليه ، ونصه عليه سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، ففتح البلاد الكثيرة ، والفتوح الشهيرة ، واستشهد على يد نصراني اسمه أبو لؤلؤة غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة عام ثلاث وعشرين من الهجرة ، وهو ابن ثلاث وستين على الأصح ، وكانت خلافته عشر سنين ونصفا ، وصلى عليه صهيب ، روى عنه أبو بكر ، وباقي العشرة ، وخلق كثير من الصحابة ، والتابعين ، أحاديثه المرفوعة خمسمائة وسبعة وثلاثون ، له في الصحيحين أحد وثمانون انفرد البخاري منها بأربعة وثلاثين ، ومسلم بأحد وعشرين ، نقش خاتمه : كفى بالموت [ ص: 41 ] شديدا في أمر الله ، عاقلا مجتهدا صابرا محتسبا ، جعل الحق على لسانه ، وأعز الدين به ، واستبشر أهل السماء بإسلامه ، وله فضائل لا تحد ، وشمائل لا تعد ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

( 1 ) [ ( إنما الأعمال بالنيات ) ] قيل : كلمة : ( إنما ) بسيطة . وقيل : مركبة من : أن ، وما الكافة ، أو الزائدة للتأكيد . وقيل : مركبة من أن ، وما النافية فهي عاملة بركنيها إيجابا ، ونفيا فبحرف التحقيق يثبت الشيء ، وبحرف النفي ينفى ما عداه ، وما اعتراض عليه من لزوم اجتماع الضدين على شيء واحد ، ومن : أن ، وما كلاهما يقتضي الصدارة - مدفوع بأن هذا إنما هو قبل التركيب ، وأما بعده فقد صار علما مفردا على إفادة الحصر ، وتضاعيفه يفيد القصر ، لأنه ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد ، واتفق أهل العربية ، والأصول على أنها موضوعة للحصر خلافا لما نقل عن أكثر النحاة لصحة : إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو ؟ كما يجاب بـ : ما قام إلا زيد ، ولورود قوله تعالى ( فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) و ( ما على الرسول إلا البلاغ ) وإذا تقرر أنها للحصر فتثبت المذكور ، وتنفي الحكم عن غيره في نحو : إنما قام زيد أي : لا عمرو ، أو غير الحكم عن المذكور في نحو : إنما زيد قائم أي : لا قاعد ، ومما يدل له حديث : ( إنما الماء من الماء ) فإن الصحابة الآخذين بقضيته لم يعارضهم جمهورهم القائلون بوجوب الغسل ، وإن لم ينزل بأن إنما لا تفيده ، وإنما عارضوهم بأدلة أخرى كحديث : ( إذا التقى الختانان وجب الغسل " ، وقد استدل ابن عباس - لما تفرد به قيل : ورجع عنه لما اشتد إنكار أبي سعيد الخدري عليه - بخبر : ( إنما الربا في النسيئة ) ، ولم ينازعه الصحابة فيه ، بل عارضوه في الحكم بأدلة أخرى ، فدل على اتفاقهم على أنها للحصر فالتقدير : إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ، ولا تعتبر إذا كانت بلا نية ; فتصير إنما بمعنى ما وإلا . وقيل : الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام ; فإنه مفيد للاستغراق ، وهو مستلزم للحصر ، فالمعنى ليست الأعمال حاصلة بالنية ، ولا يمكن هنا نفي نفس الأعمال لثبوتها حسا ، وصورة من غير اقتران النية بها ، فلا بد من إضمار شيء يتوجه إليه النفي ، ويتعلق به الجار . فقيل : التقدير صحيحة ، أو تصح كما هو رأي الشافعي ، وأتباعه . وقيل : كاملة ، أو تكمل على رأي أبي حنيفة ، وأصحابه ، والأظهر أن المقدر : معتبرة ، أو تعتبر ; ليشمل الأعمال كلها سواء كانت عبادات مستقلات كالصلاة ، والزكاة فإن النية تعتبر لصحتها إجماعا ، أو شروطا في الطاعات كالطهارة ، وستر العورة فإنها تعتبر لحصول ثوابها اتفاقا ; لعدم توقف الشروط على النية في الصحة ، خلافا للشافعي في الطهارة فعليه بيان الفرق ، أو أمورا مباحة فإنها قد تنقلب بالنيات حسنات كما أنها قد تنقلب سيئات بلا خلاف . غاية ما في الباب أن متعلق الصحة ، والكمال يعرف من الخارج ، ولا محذور فيه ، ويدل على ما قلنا أن الأعمال جمع محلى باللام فيستغرق كل عمل سواء أكان من العبادات ، أو غيرها ، ويشمل المتروكات أيضا ، فإنه لا ثواب في ترك الزنا ، والغصب ، ونحوها إلا بالنية ، وإن كانت صحيحة بدونها ، وكان هذا ملحظ من قال : المراد أعمال المكلفين . ويؤيده ما قال ابن دقيق العيد : ولا تردد عندي أن الحديث يشمل الأقوال ، ثم الباء للاستعانة . وقيل للمصاحبة ليعلم منه وجوب المقارنة لكنها تشعر بوجوب استصحابها إلى آخر العمل ; لأنه الظاهر من المعية ، ولا قائل به . نعم ، يشترط اتفاقا استصحابها مع العمل حكما بأن لا ينشئ منافيا ، وأيضا تشير إلى عدم جواز تقدمها على العمل ، وهو منقوض بنية الزكاة فإنها جائزة عند أفراد مال الزكاة ، وبنية الصوم في الليل فإنها أفضل بلا خلاف فالأولى هي الأولى ، وأوقات النيات في العبادات مختلفة ، محل بسطها الكتب الفقهية ، والنية بتشديد الياء ، وقد تخفف لغة : القصد ، وشرعا : توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله ، والقصد بها تمييز العبادة عن العادة فإن قيل : النية عمل من أعمال القلب ، فيحتاج إلى النية ، وبتسلسل أجيب : بأن المراد أعمال الجوارح بدلالة العقل ، وبدليل الخبر المعتبر : ( نية المؤمن خير من عمله ) ، وبدليل أن في العرف لا يطلق العمل على فعل الناوي اهـ .

[ ص: 42 ] وفيه : أن سائر أعمال القلوب لا تعتبر شرعا إلا بالنية ، وأن معنى الحديث عمل النية خير من عمل الجارحة لوجوه ذكرها الحجة في الإحياء . وأنه لا عبرة بالعرف مع أنه يختلف ، فالأظهر في الجواب استثناء النية ، وكذا الأمور الاعتقادية للدلالة العقلية . ثم لا يخفى أن النية باللسان مع غفلة الجنان غير معتبرة لما ورد من أن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم . وفي رواية : ولكن ينظر إلى قلوبكم ، ونياتكم ، فلو نوى الظهر بقلبه في وقته ، وتلفظ بنية العصر لا يضره بخلاف العكس ، وهذا معنى قولهم ، ولا معتبر باللسان . واختلفوا في التلفظ بما يدل على النية بعد اتفاقهم أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماما ، أو مأموما ، أو منفردا فالأكثرون على أن الجمع بينهما مستحب ليسهل تعقل معنى النية ، واستحضارها . قال صاحب الهداية : ويحسن لاجتماع عزيمته . قال المحقق الإمام ابن الهمام : قال بعض الحفاظ : لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق صحيح ، ولا ضعيف أنه كان - عليه الصلاة والسلام - يقول عند الافتتاح : أصلي كذا ، ولا عن أحد من الصحابة ، والتابعين ، بل المنقول أنه كان - عليه الصلاة والسلام - إذا قام إلى الصلاة كبر ، وهذه بدعة اهـ . قال : وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته أنه لا يحسن لغير هذا القصد ، وهذا لأن الإنسان قد يغلب عليه تفرق خاطره فإذا ذكر بلسانه كان عونا على جمعه ، ثم رأيته في التجنيس . قال : والنية بالقلب لأنه عمله ، والتكلم لا معتبر به ، ومن اختاره لتجتمع عزيمته اهـ . كلامه . وقيل : لا يجوز التلفظ بالنية فإنه بدعة ، والمتابعة كما تكون في الفعل تكون في الترك أيضا ، فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع ، فهو مبتدع . وقد يقال : نسلم أنها بدعة لكنها مستحسنة استحبها المشايخ للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليها ، وهو - عليه الصلاة والسلام - ، وأصحابه لما كانوا في مقام الجمع والحضور لم يكونوا محتاجين إلى الاستحضار المذكور ، وقيل : التلفظ شرط لصحة الصلاة ، ونسبوه إلى الغلط ، والخطأ ، ومخالفة الإجماع ، لكن له محمل عندنا مختص بمن ابتلي بالوسوسة في تحصيل النية ، وعجز عن أدائها فإنه قيل في حقه إذا تلفظ بالنية سقط عنه الشرط دفعا للحرج . وأغرب ابن حجر ، وقال : إنه - عليه الصلاة والسلام - نطق بالنية في الحج فقسنا عليه سائر العبادات . قلنا له : ثبت العرش ، ثم انقش من جملة الواردات فإنه ما ورد نويت الحج ، وإنما ورد اللهم إني أريد الحج إلخ ، وهو دعاء ، وإخبار لا يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء ، وهو يتوقف على العقد ، والقصد الإنشائي غير معلوم ، فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال ، مع عدم صحته جعله مقيسا عليه محال ، ثم قال : وعدم وروده لا يدل على عدم وقوعه . قلنا : هذا مردود بأن الأصل عدم وقوعه حتى يوجد دليل وروده ، وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه ، وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) فدل على عدم وجود التلفظ . وذكر أبو داود أنه قال : قلت للبخاري : هل تقول شيئا قبل التكبير فقال : لا . انتهى .

وبما ذكرناه يتبين فساد بقية كلام ابن حجر من قوله : وأيضا فهو - عليه الصلاة والسلام - لا يأتي إلا بالأكمل ، وهو أفضل من تركه إجماعا ، والنقل الضروري حاصل بأنه لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره فثبت أنه أتى في نحو الوضوء ، والصلاة بالنية مع النطق ، ولم يثبت أنه تركه ، والشك لا يعارض اليقين اهـ .

وقد علمت أن الأفضل المكمل عدم النطق بالنية مع أن دعوى الإجماع غير صحيحة ، فإن المالكية قالوا : بكراهته ، والحنبلية نصوا على أنه بدعة غير مستحب ، وإن أراد به الاتفاق بين الشافعية ، والحنفية فليس على الإطلاق بل محله إن احتاج إليه بالاستعانة عليه ، وقد ثبت تركه عند الحفاظ المحدثين بلا ريب فقوله : والشك لا يعارض اليقين مجازفة عظيمة من أعجب العجائب الذي يتحير فيه أولو الألباب حيث جعل الوهم يقينا ، وثبوت الحفاظ ريبا ، لا يقال :

[ ص: 43 ] المثبت مقدم على النافي لأنا نقول : محله إذا تعارض دليلان أحدهما على النفي ، والآخر على الإثبات ، والخصم هنا سواء جعلناه مثبتا ، أو نافيا ، ليس معه دليل ، ودليلنا على النفي ثابت بنقل المحدثين المؤيد بالأصل الذي هو عدم الوقوع فتأمل فإنه موضع زلل ، ومحل خطل ، ثم رأيت ابن القيم ذكر في زاد المعاد في هدي خير العباد ، وهذا لفظه كان - عليه الصلاة والسلام - إذا قام إلى الصلاة قال : ( الله أكبر ) ، ولم يقل شيئا قبلها ، ولا تلفظ بالنية ، ولا قال : ( أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما ، أو مأموما ) ، ولا قال : أداء ، ولا قضاء ، ولا فرض الوقت ، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه - عليه الصلاة والسلام - أحد قط بإسناد صحيح ، ولا ضعيف ، ولا مسند ، ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ، بل ولا عن أحد من الصحابة ، ولا استحبه أحد من التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي في الصلاة أنها ليست كالصيام لا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية ، وأن مراد الشافعي بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا ، وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحدة ، ولا أحد من خلفائه ، وأصحابه ، وهذا هديهم ، وسيرتهم ; فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه ، وقابلناه بالقبول ، والتسليم ، ولا هدي أكمل من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وصرح السيد جمال الدين المحدث بنفي رواية التلفظ بالنية عن المحدثين ، وكذا ذكره الفيروزأبادي صاحب القاموس في كتابه المسمى بالصراط المستقيم . وقال القسطلاني في المواهب : وبالجملة فلم ينقل أحد أنه - عليه الصلاة والسلام - تلفظ بالنية ، ولا أعلم أحدا من أصحابه التلفظ بها ، ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال : ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) . نعم اختلف العلماء في التلفظ بها ، فقال قائلون : هو بدعة ؛ لأنه لم ينقل فعله ، وقال آخرون : هو مستحب ؛ لأنه عون على استحضار النية القلبية ، وعبادة للسان كما أنها عبودية للقلب ، والأفعال المنوية عبادة الجوارح ، وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي ، والحافظ عماد الدين ابن كثير ، وأطنب ابن القيم في الهدي في رد الاستحباب ، وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود ، لاسيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها ، وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حديث أنس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج ، والعمرة جميعا يقول : ( لبيك عمرة ، وحجة ) ، وهذا تصريح باللفظ ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس لكنه تعقب هذا بأنه - عليه الصلاة والسلام - قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ، ويقصدونه من النسك ، ولقد صلى - عليه الصلاة والسلام - ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال : نويت أصلي صلاة كذا ، وكذا ، وتركه سنة كما أن فعله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله ، وتركه فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتي له في الموضع الذي فعله ، والفرق بين الحج ، والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما بالآخر ، ثم اللام في النيات عوض عن المضاف إليه أي : إنما الأعمال بنياتها ، أو الحديث من باب مقابلة الجمع بالجمع على حد ركب القوم دوابهم . قال ابن الهمام : هذا حديث مشهور متفق على صحته ، وأما ألفاظه فإنما الأعمال بالنيات ، وبالنية ، والأعمال بالنية ، والعمل بالنية كلها في الصحيح ، وأما الأعمال بالنيات كما في الكتاب يعني الهداية فقال النووي في كتابه بستان العارفين ، ولم يكمله نقلا عن الحافظ أبي موسى الأصفهاني : أنه لا يصح إسناده ، وأقره ، ونظر بعضهم فيه ، إذ قد رواه كذلك ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في أربعينه ، ثم حكم بصحته . قلت : وهو رواية عن إمام المذهب في مسند أبي حنيفة - رحمه الله - رواه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة عن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الأعمال بالنيات ) الحديث . ورواه ابن الجارود في المنتقى : ( إن الأعمال بالنيات ، وإن لكل امرئ ما نوى ) اهـ .

وروي عن الشافعي في فضل هذا الحديث أنه يدخل فيه نصف العلم ، ووجهه : أن النية عبودية القلب ، والعمل عبودية القالب ، أو أن الدين إما ظاهر ، وهو العمل ، أو باطن ، وهو النية ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم ) لتعلقها بالموت المقابل للحياة ، وروي عنه ما يدل على أنه ربع العلم كما قال :


عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية

    اتق الشبهات ، وازهد ، ودع ما
ليس يعنيك ، واعمل بنية



[ ص: 44 ] إشارة إلى الأحاديث الأربعة فكأنه اعتبر اتقاء السيئات ، والزهد في المباحات ، وترك الفضولات ، والعمل بالنيات في جميع الحالات . وروي عنه ، وعن أحمد أنه ثلث الإسلام ، أو ثلث العلم ، ووجهه البيهقي بأن كسب العبد إما بقلبه كالنية ، أو بلسانه ، أو ببقية جوارحه ، والأول أحد الثلاثة بل أرجحها ؛ لأنه عبادة بانفرادها ، وهذا وجه خير ( نية المؤمن خير من عمله ) ، وفي رواية أبلغ ، وفي أخرى زيادة : ( إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله ) ، وذلك أن النية لا رياء فيها ، والعمل يخالطه الرياء ، وله طرق ضعيفة يتقوى بمجموعها ، ولا يعارضه حديث : ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له واحدة ، ومن عملها كتبت له عشرة ) الموهم أن العمل خير منها لأن كتابة العشر ليست على العمل وحده بل معها ؛ لأنها شرط لصحته ، وهو ليس شرطا لصحتها ، ولهذا يثاب على النية المجردة فانقلب هذا الحديث دليلا على خيريتها ، وظهر فساد ما قيل : المراد أن النية خير من العمل بلا نية لا معها لئلا يلزم أن الشيء خير من نفسه مع غيره ، والعجب من ابن حجر حيث ذكر هذا القيل ، وقرره بالتعليل ، وأما قوله : ومن خيريتها على العمل أنها تقتضي التخليد في الجنة ، أو النار إذ المؤمن ناو الإيمان دائما ، والكافر ناو الكفر دائما فقوبل التأبيد بالتأبيد ، ولو نظر للعمل لكان الثواب ، أو العقاب لقدر مدته فمدخول ومعلول فإنه لا يقال نية الكافر خير من عمله ، بل مفهوم الحديث أن عمل الكافر خير من نيته ، نعم ذكروا في جانب الجنة أن دخولها بالإيمان ، ودرجاتها بالأعمال ، وخلودها بالنية ، أو من باب الإفضال فلا إشكال ، وأما دخول الكفار في النار فلكفرهم ، ودركاتها على قدر أعمالهم السيئة فكان مقتضى العقل في ظاهر العدل أن الكافر الذي عاش في الدنيا مائة سنة مثلا أن يعذب قدرها ، فقالوا : التخليد في مقابلة نيته من التأبيد فإنه لو فرض أنه عاش أبد الآباد لاستمر على كفره المعتاد ، ثم قيل : ضمير عمله الكافر معهود ، وهو السابق كبناء قنطرة عزم مسلم على بنائها ، والقول بأن خير ليست بمعنى أفعل التفضيل : والمعنى النية خير من جملة الخيرات ساقط عن الاعتبار من جميع الجهات . قال ابن حجر : واختلفوا في النية السيئة ، والحق أنه لا عقاب عليها إلا إن انضم إليها عزم ، أو تصميم أي : عزم على الفعل بالفعل ، أو تصميم على أنه سيفعل ، وفيه أن النية لا تكون إلا مع العزيمة : وإلا فمع التردد تسمى خطرة ، وهي مرفوعة بالإجماع . قال في المدارك عند قوله تعالى : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم ) الآية ، ولا تدخل الوساوس ، وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو عنه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولكن ما اعتقده ، وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر ، وخطرة الذنوب من غير عزم معفو عنها ، وعزم الذنب إذا ندم عليه ، ورجع عنه معفو عنه بل يثاب ، فأما إذا هم بسيئة ، وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع لا باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي : بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا ؟ قيل : لا ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل ، أو تتكلم به ) . والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم ، وأن المؤاخذة في العزم ثابتة ، وإليه مال الشيخ أبو منصور ، وشمس الأئمة الحلواني ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) الآية . وقال ابن حجر : فإن قلت : ونية الحسنة كذلك قلت : فرق بأن ناوي الحسنة يثاب عليها ، وعلى نيتها ، وناوي السيئة إنما يعاقب على نيتها فقط . قلت : لا حاجة إلى الفرق فإن لكل امرئ ما نوى ، ثم ما ذكره من الفرق غير صحيح ؛ لأنه إن أراد التعدد الحقيقي ، فهو غير ثابت ، وإن أراد التعدد الحكمي ، وهو الزيادة في الكيفية دون الكمية كما أشار إليه بقوله : ومعنى ثوابه على الأولين أنه يكتب له حسنة عظيمة لكن باعتبارين ، فهذا جار في السيئة أيضا . ومن جملة الفروع المتعلقة بهذا الحديث أن من سبق لسانه بمكفر يدين خلافا لبعض المالكية إذ لا نية له ، ويؤيدنا خبر مسلم في الذي ضلت راحلته ، ثم وجدها ، فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( أخطأ من شدة الفرح ) .

[ ص: 45 ] قال ابن حجر : فإن قلت : ظاهر كلام بعضهم قبول دعواه سبق اللسان هنا ، ولو من غير قرينة فينافيه ما مر في نحو الطلاق أنه لا بد من قرينة فما الفرق ؟ قلت : أما بالنسبة إلى الباطن فهما على حد سواء فلا شيء عليه باطنا فيهما حيث سبق لسانه ، وأما ظاهرا فلا بد من قرينة في الطلاق ، وكذا الكفر كما هو ظاهر ، ويحتمل قبوله فيه ظاهرا مطلقا ، ويفرق بأنه يغتفر في حق الله ما لا يغتفر في حق غيره لبناء حقه تعالى على المسامحة ، وحق الآدمي على المشاحة ، ومنها أن من وطئ ، أو شرب ، أو قتل يظن الحليلة [ ونحو الماء ، وغير المعصوم ] فبان محرما لا يأثم ، وفي عكسه يأثم اعتبارا بالنية فيها . وقال بعض العلماء : استثنى بعض الأعمال من هذا العموم كصريح الطلاق ، والعتاق لأن تعيين الشارع هذه الألفاظ لأجل هذه المعاني بمنزلة النية ، ولا يخفى أن هذا إنما هو بالنسبة إلى الصحة ، والجواز ، وأما بالنسبة إلى الثواب فلا بد من تصحيح النية ، والله أعلم .

[ ( وإنما لامرئ ) ] أي : الشخص . وفي رواية : وإنما لكل امرئ [ ( ما نوى ) ] أي : جزاء الذي نواه من خير ، أو شر ، أو جزاء عمل نواه ، أو نيته دون ما لم ينوه ، أو نواه غيره له ، ففيهبيان لما تثمره النية من القبول ، والرد ، والثواب ، والعقاب ، وغير ذلك كإسقاط القضاء ، وعدمه ، إذ لا يلزم من صحة العمل قبوله ، ووجود ثوابه لقوله تعالى : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ففهم من الجملة الأولى أن الأعمال لا تكون محسوبة إلا بالنية ، ومن هذه أنها إنما تكون مقبولة بالإخلاص ، وحاصل الفرق أن النية في الأول متعلقة بنفس العمل ، وفي الثاني متوجهة إلى ما لأجله العمل من الأمل ، وقيل : هذه مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص ، ونوقش بأن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة ، وقيل : المراد بالأعمال العبادات ، وبالثاني الأمور المباحات فإنها لا تفيد المثوبات إلا إذا نوى بها فاعلها القربات كالمآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وسائر اللذات إذا نوى بها القوة على الطاعات لاستيفاء الشهوات ، وكالتطيب إذا قصد إقامة السنة ، ودفع الرائحة المؤذية عن عباد الله تعالى ، ففي الجملة كل عمل صدر عنه لداعي الحق ، فهو الحق ، وكذا المتروكات لا يترتب عليها المثوبات إلا بالنيات . روي أن رجلا من بني إسرائيل مر بكثبان رمل في مجاعة ، فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس فأوحى الله إلى نبيهم : قل إن الله قد صدقك ، وشكر حسن صنيعك ، وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به . وقال الخطابي في إعلام الحديث ، واختاره النووي أن هذه إشارة إلى إيجاب تعيين المنوي فلا بد أن ينوي في الفائتة من كونها ظهرا ، أو عصرا ، ولولاه لدل إنما الأعمال على الصحة بلا تعيين ، أو أوهم ذلك اهـ .

وكذلك إذا عمل عملا ذا وجهين أو وجوه من القربات كالتصديق على القريب الذي يكون جارا له ، وفقيرا ، أو غير ذلك من الأوصاف التي يستحق بها الإحسان ، ولم ينو إلا وجها واحدا لم يحصل له ذلك بخلاف ما إذا نوى جميع الجهات فعلم سر تأخير هذه الجملة ، وأنهما متغايرتان ، قيل : المفهوم منه أن نية الخاص في ضمن نية العام غير معتبرة كما قال به بعض ، وقال بعضهم : إنها معتبرة ، ويدل عليه حديث : ( الخيل لثلاثة ) إلخ . والله أعلم . وقيل : النية في الحديث محمولة على معناها اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده ، وتقسيمه بقوله : [ ( فمن كانت هجرته إلى الله ، و ) ] : إلى [ ( رسوله ) ] : فإنه تفصيل ما أجمله ، واستنباط المقصود عما أصله ، وتحريره أن قوله : إنما لامرئ ما نوى دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية إن كانت خالصة لله فهي له تعالى ، وإن كانت للدنيا فهي لها ، وإن كانت لنظر الخلق فهي لذلك ، فالتقدير إذا تقرر أن لكل إنسان منويه من طاعة ، أو مباح ، أو غيرهما فمن كانت هجرته من الهجر ، وهو الترك الذي هو ضد الوصل ، والمراد هنا ترك الوطن الذي بدار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة لما اشتد بهم أذى أهل مكة منها إلى الحبشة ، وإلى المدينة قبل هجرته - عليه الصلاة والسلام - ، وبعدها ، ولما احتاجوا إلى تعلم العلوم من أوطانهم إلى المدينة ، وقد تطلق كما في أحاديث على هجرة ما نهى الله عنه ، وفي معناها [ ص: 46 ] هجر المسلم أخاه ، وهجر المرأة مضجع زوجها ، وعكسه ، ومنها الهجرة من ديار البدعة إلى بلاد السنة ، والهجرة لطلب العلم ، وترك الوطن لتحصيل الحج ، وفي معناه الاعتزال عن الناس ، وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( لا هجرة بعد الفتح ) محمول على خصوص الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ لأن عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان باق على حاله ، وكذا الهجرة من المعاصي ثابتة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) . والمراد المهاجر الكامل . وهذا معنى حديث : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ) قيل : المراد منها هاهنا إلى المدينة لذكر المرأة ، وحكاية أم قيس ، لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، والمعنى من قصد بهجرته وجه الله ، والتقرب إلى رضاه لا يخلطها بشيء من الأعراض الدنيوية ، فهو كناية عن تخليص النية ، أو ذكر الله توطئة لذكر الرسول تخصيصا له بالله ، وتعظيما للهجرة إليه ، أو ذكر الله للتزيين ، والإيماء إلى أن الهجرة إليه - عليه الصلاة والسلام - كالهجرة إلى الله تعالى . كقوله : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) في الثابت في النسخ المصححة إعادة الجار في الشرط ، والجزاء ، وهي تفيد الاستقلال في الحكم بمعنى أن كلا من الهجرتين يقوم مقام الأخرى في مرتبة القبول : [ ( فهجرته إلى الله ، و ) ] : إلى [ ( رسوله ) ] : لم يقل إليهما استلذاذا بتكرير اسمهما ، " وإلى " متعلقة بهجرته إن قدرت " كانت " تامة ، وبمحذوف هو خبرها إن كانت ناقصة أي : منتسبة إليهما ، والمراد أصل الكون لا بالنظر إلى زمن مخصوص ، أو وضعه الأصلي من المضي ، أو هنا من الاستقبال لوقوعها في حيز الشرط لفظا ، أو معنى للإجماع على استواء الأزمنة في الأحكام الشرعية إلا لمانع ، ثم من القواعد المقررة أنه لا بد من المغايرة بين الشرط ، والجزاء لحصول الفائدة فقيل : التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله قصدا ، ونية فهجرته إلى الله ، ورسوله ثمرة ، ومنفعة ، فهو تمييز للنسبة ، ويجوز حذفه للقرينة ، وقيل : فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله في الدنيا فهجرته إلى الله ورسوله في العقبى ، وقيل : الجملة الجزائية كناية عن قوله : فهجرته مقبولة ، أو صحيحة فأقيم السبب مقام المسبب ، وقيل : خبره مقدر من طرف الجزاء أي : فهجرته إلى الله ، ورسوله مقبولة أي : فهي كما نواها ، وقد وقع أجره على الله سواء مات في الطريق ، أو وصل إلى الفريق كقوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) وقيل : اتحاد الشرط ، والجزاء لقصد التعظيم ، ولإرادة التحقير فيما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد بالأول ما وجد خارجا ، وبالثاني ما عهد ذهنا على حد : أنت أنت أي : الصديق الخالص ، وهم هم أي : الذين لا يعرف قدرهم ، ومنه : أنا أبو النجم ، وشعري شعري . أي : الآن هو شعري الذي كان ، والكبر ما غير اللسان ، والحاصل أن يقال : فهجرته عظيمة ، ونتيجتها جسيمة . [ ( ومن كانت هجرته إلى دنيا ) ] : بضم الدال ، ويكسر ، وهي فعلى من الدنو ، وهو القرب لدنوها إلى الزوال ، أو لقربها من الآخرة منا ، ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث ، أو هي تأنيث أدنى ، وهي كافية في منع الصرف ، وتنوينها في لغة شاذ ، ولإجرائها مجرى الأسماء ، ولخلعها عن الوصفية نكرت كرجعى ، ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسنى ، واختلفوا في حقيقتها مع أنه لا حقيقة لها فقيل : وهي اسم مجموع هذا العالم المتناهي ، ففي القاموس الدنيا نقيض الآخرة ، ولو قال ضدها لكان أولى إيماء إلى أنهما لا يجتمعان مع جواز أنهما يرتفعان ، وقيل : هي ما على الأرض من الجو ، والهواء ، أو هي كل المخلوقات من الجواهر ، والأعراض الموجودة قبل الآخرة . قال النووي : وهذا هو الأظهر ، ويطلق على كل جزء منها مجازا ، وأريد هاهنا شيء من الحظوظ النفسانية كمال أو جاه ، وقد تكون إشارة إلى العاجل ، والمرأة إيماء إلى الآجل ، وهو الآخرة لانضمام الروحانية إلى الجسمانية في كل منهما فيفيد حينئذ أن قصد ما سوى الله تعالى فيه انحطاط تام عمن لم يقصد غير وجهه تعالى ، وقليل ما هم ، وعند محققي القوم ما تعلق دركه بالحس ، فهو دنيا ، وما تعلق دركه بالعقل ، فهو أخرى ، وفي رواية : ومن كانت هجرته لدنيا أي : لأجل عرضها ، وغرضها فاللام للتعليل ، أو بمعنى ( إلى ) لتقابل المقابل [ ص: 47 ] [ ( يصيبها ) ] ، أي : يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية شبه حصولها بإصابة السهم للغرض ، والأظهر أنه حال مقدرة أي : يقصد إصابتها ، وفيه إيماء إلى أنه لو طلب الدنيا لأن يستعين بها على الأخرى فلا يذم مع أن تركها أولى لقول عيسى - عليه الصلاة والسلام - : يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر . [ ( أو امرأة يتزوجها ) ] : خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث ، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود : كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها : أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها . قال : فكنا نسميه مهاجر أم قيس ، وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظيمة أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره ; أو دلالة على أعظم فتن الدنيا لقوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات من النساء ) . ولقوله عليه السلام : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) لكن المرأة إذا كانت صالحة تكون خير متاعها ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( الدنيا كلها متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ) .

[ ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ] أي : منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) أو المعنى فهجرته مردودة ، أو قبيحة . قيل : إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ، ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ، ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل : هذا أحسن من أصحابنا فإنه جمل الدنيا بالدنيا ، وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين . وقال ابن عبد السلام : متى اجتمع باعث الدنيا ، والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر ، وفي الصحيح : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك ) . قال الغزالي : يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب ، أو باعث الدنيا ، أو استويا لم يثب . قال ابن حجر : يؤخذ من قول الشافعي ، وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا ، وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه ، أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) اهـ .

وهو تفصيل حسن ، وتعليل مستحسن هذا بلسان العلماء أرباب العبارة ، وأما بلسان العرفاء أصحاب الإشارة فمعناه مجملا أن أعمال ظاهر القالب متعلق بما يقع في القلوب من أنوار الغيوب ، والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له ، وأن لا يسنح في السر ذكر غيره ، وللناس فيما يعشقون مذاهب ، ثم نية العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل ، والإعواض ، ونية الجاهل التحصين عن سوء القضاء ، ونزول البلاء ، ونية أهل النفاق التزين عند الناس مع إضمار الشقاق ، ونية العلماء إقامة الطاعات ، ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من العبادات ، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولت عبودية . وإنما لكل امرئ ما نوى من مطالب السعداء ، وهي الخلاص عن الدركات السفلى من الكفر ، والشرك ، والجهل ، والمعاصي ، والسمعة ، والرياء ، والأخلاق الذميمة ، وحجب الأوصاف ، والفوز بالدرجات العلا وهي المعرفة ، والتوحيد ، والعلم ، والطاعات ، والأخلاق المحمودة ، وجذبات الحق ، والفناء عن إنابته ، والبقاء بهويته ، أو من مقاصد الأشقياء ، وهي إجمالا ما يبعد [ ص: 48 ] عن الحق ، فمن كانت هجرته أي : خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه ، أو منزلا من منازل النفس ، أو مقاما من مقامات القلب إلى الله لتحصيل مراضيه ، وتحسين الأخلاق ، والتوجه إلى توحيد الذات ، ورسوله باتباع أعماله ، واقتفاء أخلاقه ، والتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات ، فهجرته إلى الله ورسوله فتخرجه العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى أنوار الشهود ، والبقاء ، وتجذبه من حضيض العبودية إلى ذروة العندية ، ويفنى في عالم اللاهوت ، ويبقى بالحي الذي لا يموت ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس بدار القرار في جوار الملك الغفار ، وأشرقت عليه سبحات الوجه الكريم ، وحل بقلبه روح الرضا العميم ، ووجد فيها الروح المحمدي ، وأحبابا ، وعرف أن له مثوى ، ومآبا . ومن كانت هجرته لدنيا أي : لتحصيل شهوة الحرص على المال ، والجاه ، أو تحصيل لذة شهوة الفرج فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة ، وديار الظلمة له نار الفرقة ، والقطيعة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، وأنشد بعض المخلصين لبعض المخلطين :


يا غافل القلب عن ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات

    إن الحمام له وقت إلى أجل
فاذكر مصائب أيام ، وساعات

    لا تطمئن إلى الدنيا ، وزينتها
قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي

    وكن حريصا على الإخلاص في عمل
فإنما العمل الزاكي بنيات



قد ورد في مسند أبي يعلى الموصلي مرفوعا : ( إن الله تعالى يقول للحفظة يوم القيامة : اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ ذلك عنه ، ولا هو في صحيفتنا فيقول إنه نواه ) . ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري قدس الله سره العلي ، أن زبيدة رؤيت في المنام فقيل لها : ما فعل الله بك ؟ فقالت : غفر لي ، فقيل لها : بكثرة عمارتك الآبار ، والبرك ، والمصانع في طريق مكة ، وإنفاقك فيها ؟ فقالت : هيهات هيهات ذهب ذلك كله إلى أربابه ، وإنما نفعنا منه النيات فغفر لي بها ، اللهم فأحسن نياتنا ، ولا تؤاخذنا بنياتنا ، واختم بالخير منياتنا . ( متفق عليه ) أي : اتفق البخاري ، ومسلم على روايته ، ويعبر عن هذا القسم بالمتفق عليه أي : بما اتفق عليه الشيخان لا بما اتفقت عليه الأمة ، لكن اتفاقها عليه لازم ذلك لاتفاقها على تلقي ما اتفق عليه بالقبول ، وكذلك أخرجه الأربعة بقية الستة . وقيل : لم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك ، ففي الجملة حديث مشهور مجمع على صحته ، ومما ذكره ابن ماكولا ، وغيره من التكلم فيه لا يلتفت إليه ، وما قيل إنه متواتر غير صحيح فإنه لم يروه من طريق صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عمر ، ولم يروه عن عمر إلا علقمة ، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ، ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم تواتر عنه بحيث رواه عنه أكثر من مائة إنسان أكثرهم أئمة . وقال جماعة من الحفاظ : إنه رواه عنه سبعمائة إنسان من أعيانهم مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، والليث بن سعد ، وحماد بن زيد ، وسعيد ، وابن عيينة . وقد روى هذا الحديث عن عمر تسعة غير علقمة ، وعن علقمة اثنان غير التيمي ، وعن التيمي خمسة غير يحيى ، فالحديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله ، ثم اعلم أن جمعا من المحدثين ، وغيرهم ذهبوا إلى أن جميع ما وقع مسندا في الصحيحين ، أو أحدهما من الأحاديث يقطع بصحته لتلقي الأمة له بالقبول من حيث الصحة ، وكذا العمل ما لم يمنع منه نحو نسخ ، أو تخصيص ، وإجماع هذه الأمة معصوم عن الخطأ كما قال - عليه الصلاة والسلام - ، فقبولها للخبر الغير المتواتر يوجب العلم النظري ، وعبارة الأستاذ ، أبي إسحاق الإسفراييني : أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ، ومتونها ، ولا يحصل الخلاف فيها بحال ، وإن حصل اختلاف فذلك اختلاف في طرقها ، ورواتها ، فمن خالف حكمه خبرا منهما [ ص: 49 ] وليس له تأويل سائغ نقضنا حكمه . وقال إمام الحرمين : أجمع علماء المسلمين على صحتهما ، وقد قال عطاء : الإجماع أقوى من الإسناد فإذن أفاد العلم ، وقال الأكثرون ، والمحققون : صحتهما ظنية ؛ لأن أخبارهما آحاد ، وهي لا تفيد إلا الظن ، وإن تلقتها الأئمة بالقبول ؛ لأنهم تلقوا بالقبول ما ظنت صحته من غيرهما ، ولأن تصحيح الأئمة للخبر المستجمع لشروط الصحة إنما هو باعتبار الظاهر ؛ ولأن فيهما نحو مائتي حديث مسند طعن في صحتها ، فلم تتلق الأمة كلها ما فيهما بالقبول لكن بعض القائلين بالأول استثنوا هذه . قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني : والتحقيق أن الخلاف لفظي ؛ لأن من أطلق عليهما العلم بالصحة جعله نظريا ، وهو الناشئ عن الاستدلال ، ومن أبى هذا الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر ، وما عداه عنده ظن ، واختلفوا هل يمكن التصحيح ، والتحسين ، والتضعيف في الأعصار المتأخرة ؟ واختار ابن الصلاح أنه لا يمكن بل يقتصر على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة ، ورده النووي ، وتبعوه ، وأطالوا في بيان رده ، ومن ثم صحح جماعة من معاصريه كالقطان ، والضياء المقدسي ، ثم المنذري ، والدمياطي طبقة بعد طبقة . قيل : ولعله إنما اختار حسم المادة لئلا يتطفل على ذلك بعض الجهلة . قلت : ومن هذا القبيل اختلافهم هل يمكن لأحد الاجتهاد المطلق في الأزمنة المتأخرة ; فقيل : يمكن ، وقيل : لا . والخلاف لفظي لأن الإمكان أمر عقلي ، ومنعه أمر عادي ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية