صفحة جزء
4577 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد . رواه البخاري .


4577 - ( وعنه ) : أي عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا عدوى ) : بفتح فسكون ففتح . وفي القاموس : إنه الفساد ، وقال التوربشتي : العدوى هنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره ، يقال : أعدى فلان فلانا من خلقه ، أو من غرته . وذلك على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع : الجذام ، والجرب ، والجدري ، والحصبة ، والبخر ، والرمد ، والأمراض الوبائية . وقد اختلف العلماء في التأويل فمنهم من يقول : المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث والقرائن المنسوقة على العدوى ، وهم الأكثرون . ومنهم من يرى أنه لم يرد إبطالها ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم : " فر من المجذوم فرارك من الأسد " . وقال : " لا يوردن ذو عاهة على مصح " وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة ، فإنهم كانوا يرون العلل المعدية مؤثرة لا محالة ، فأعلمهم بقوله هذا أن ليس الأمر على ما يتوهمون ، بل هو متعلق بالمشيئة إن شاء كان ، وإن لم يشأ لم يكن ، ويشير إلى هذا المعنى قوله : " فمن أعدى الأول " . أي : إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير ، فمن أعدى الأول ؟ وبين بقوله : " فر من المجذوم " وبقوله ( لا يوردن ذو عاهة على مصح ) أن مداناة ذلك يسبب العلة ، فليتقه اتقاءه من الجدار المائل والسفينة المعيوبة . وقد رد : الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقا على مباشرة أحد الأمرين ، فتصيبه علة في نفسه أو عاهة في إبله ، فيعتقد أن العدوى حق .

قلت : وقد اختاره العسقلاني في شرح النخبة ، وبسطنا الكلام معه في شرح الشرح ، ومجمله أنه يرد عليه اجتنابه - عليه السلام - عن المجذوم عند إرادة المبايعة ، مع أن منصب النبوة بعيد من أن يورد - لحسم مادة ظن العدوى - كلاما يكون مادة لظنها أيضا ، فإن الأمر بالتجنب أظهر من فتح مادة في ظن العدوى لها تأثير بالطبع ، وعلى كل تقدير ، فلا دلالة أصلا على نفي العدوى مبينا والله أعلم .

قال الشيخ التوربشتي : وأرى القول الثاني أولى التأويلين لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه ، ثم لأن القول الأول يفضي إلى تعطل الأصول الطبية ، ولم يرد الشرع بتعطيلها ، بل ورد بإثباتها والعبرة بها على

[ ص: 2894 ] الوجه الذي ذكرناه ، وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها ، فإنا قد وجدنا الشارع يجمع في النهي بين ما هو حرام ، وبين ما هو مكروه ، وبين ما ينهى عنه لمعنى ، وبين ما ينهى عنه لمعان كثيرة ، ويدل على صحة ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم المبايع : " قد بايعناك فارجع " في حديث الشريد بن سويد الثقفي ، وهو مذكور بعد ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة : " كل ثقة بالله وتوكلا عليه " ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه : بين بالأول التوقي من أسباب التلف ، وبالثاني التوكل على الله جل جلاله ، ولا إله غيره في متاركة الأسباب وهو حاله اهـ . وهو جمع حسن في غاية التحقيق ، والله ولي التوفيق .

( ولا طيرة ) : نفي معناه النهي ، كقوله تعالى : لا ريب فيه على وجه ( ولا هامة ) : بتخفيف الميم في الأصول المعتمدة والنسخ المصححة ، وهي اسم طير يتشاءم به الناس وهي الصدى ، وهو طير كبير يضعف بصره بالنهار ، ويطير بالليل ، ويصوت ويسكن الخراب ، ويقال له : بوم ، وقيل : كوف ، وكانت العرب تزعم أن عظام الميت إذا بليت وعدمت تصير هامة ، وتخرج من القبر وتتردد وتأتي بأخبار أهله ، وقيل : كانت تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول : اسقوني اسقوني ، فإن أدرك بثأره طارت ، فأبطل - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقاد . قال أبو داود في سننه ، قال بقية : سألت ابن راشد عن قوله : " لا هامة " فقال : كان أهل الجاهلية يقولون : ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج من قبره هامة .

وقال النووي هي بتخفيف الميم على المشهور ، وقيل : بتشديدها وفيها تأويلان أحدهما : أن العرب كانت تتشاءم بها وهي من طير الليل ، وقيل : هي البومة . قالوا : كانت إذا سقطت على دار أحدهم يراها ناعية له نفسه أو بعض أهله ، وهو تفسير مالك بن أنس . وثانيهما : كانت العرب تزعم أن عظام الميت ، وقيل روحه تنقلب هامة تطير ، وهذا تفسير أكثر العلماء ، وهو المشهور ، ويجوز أن يكون المراد النوعين معا ، فإنهما باطلان . ( ولا صفر ) قال شارح : كانت العرب يزعمون أنه حية في البطن ، واللدغ الذي يجده الإنسان عند جوعه من عضه . قال أبو داود في سننه ، قال بقية : سألت محمد بن راشد عنه ؟ قال : كانوا يتشاءمون بدخول صفر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لا صفر " قال : وسمعت من يقول : هو وجه يأخذ في البطن يزعمون أنه يعدي . قال أبو داود ، وقال مالك : كان أهل الجاهلية يحلون صفرا عاما ويحرمونه عاما ، فقال - صلى الله عليه وسلم : " لا صفر " .

قال النووي ، قيل : كانت العرب تعتقد أن في البطن دابة تهيج عند الجوع ، وربما قتلت صاحبها ، وكانت العرب تراها أعدى من الحرب ، وهذا التفسير هو الصحيح ، وبه قال مطرف ، وابن عبيد وغيرهما ، وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث ، فتعين اعتماده . قلت : الأظهر الجمع بين المعاني ، فإنها كلها باطلة كما سبق نظيره . قال القاضي : ويحتمل أن يكون نفيا لما يتوهم أن شهر صفر تكثر فيه الدواهي والفتن . ( وفر ) : بكسر الفاء وتشديد الراء المفتوحة ويجوز كسرها أي : اشرد وبالغ في الاجتناب والاحتراز ( من المجذوم ) : أي الذي به جذام بضم أوله ، وهو تشقق الجلد ، وتقطع اللحم وتساقطه ، والفعل منه جذم على بناء المفعول ، ( كما تفر من الأسد ) . وقد تقدم أن هذا رخصة للضعفاء ، وتركه جائز للأقوياء بناء على أن الجذام من الأمراض المعدية فيعدي بإذن الله ، فيحصل منه ضرر ، ومعنى لا عدوى نفي ما كانوا عليه من أن المرض يعدي بطبعه لا بفعله سبحانه ، ولعل تخصيص المجذوم لأنه أشد تأثيرا من العلل المعدية ، ويؤيده ما رواه ابن عدي عن ابن عمر مرفوعا : " إن كان شيء من الداء يعدي فهو هذا " يعني الجذام . ( رواه البخاري ) : أي الحديث بكماله ، وإلا فقوله : ( لا عدوى ولا صفر ولا هامة " ، رواه أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، عن أبي هريرة ، وأحمد ومسلم عن السائب بن يزيد .

[ ص: 2895 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية