صفحة جزء
4609 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " . متفق عليه .


4609 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال : من رآني ) أي : مثالي ( في المنام فقد رآني ) أي : فكأنه قد رآني في عالم الشهود والنظام ، لكن لا يبتني عليه الأحكام ليصير به من الصحابة ، وليعمل بما سمع به في تلك الحالة ، كما هو مقرر في محله ، وقيل : أراد به أهل زمانه ، أي : من رآني في المنام يوفقه الله تعالى لرؤيتي في اليقظة إما في الدنيا أو في الآخرة ، ويدل عليه حديث أبي هريرة الآتي : فسيراني في اليقظة ، ولعل التعبير بصيغة الماضي تنزيلا للمستقبل منزلة المحقق الواقع في الحال ، وإن كان يقع في المآل ، وقيل : يراه في الآخرة على وفق منامه بحسب مقامه ، وقيل : هو بمعنى الإخبار ، أي : من رآني في المنام فأخبروه بأن رؤيته حقيقة وحقة ليست بأضغاث أحلام . ( فإن الشيطان لا يتثمل في صورتي ) : أراد به صفته المعروفة له - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وقيل : من رآني على أي صورة كانت فقد رآني حقيقة ; لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا يتراءى بي كما في رواية ( متفق عليه ) : وفي الجامع الصغير : رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس ، ولفظه : لا يتمثل بي ، وفي رواية للترمذي في الشمائل لا يتصور ، أو قال : لا يتشبه بي ، وفي أخرى لا يتمثلني ، هذا وقد قال الطيبي : الشرط والجزاء اتحدا ، فدل على التناهي في المبالغة كما يقال : من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى ، أي : أدرك مرعى متناهيا في بابه ، أي : من رآني فقد رأى حقيقتي على كماله لا شبهة ولا ارتياب فيما رأى ، ويدل عليه قوله ، أي : في الحديث الآتي : فقد رآني الحق ، والحق هنا مصدر مؤكد أي : من رآني فقد رآني رؤية الحق ، وفي البخاري ومسلم والحميدي وجامع الأصول : فقد رأى الحق على أن الحق مفعول به ، وقوله : فإن الشيطان كالتتميم للمعنى والتعليل للحكم .

[ ص: 2915 ] قال النووي : اختلفوا فيه فقال ابن الباقلاني : معناه أن رؤياه صحيحة ليست بأضغاث أحلام ، ولا من تشبيهات الشيطان أو تسويلاته . قال : وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة كمن يراه أبيض اللحية ، وقد يراه شخصان في زمان واحد . أحدهما في المشرق ، والآخر في المغرب ، ويراه كل منهما في مكانه ، حكاه المازري عنه ، ثم قال ، وقال الآخرون : بل الحديث على ظاهره ، والمراد أن من يراه فقد أدركه ، وليس لمانع أن يمنعه ، وأن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل ، وأما قوله : فإنه قد يرى على خلاف صفته ، أو في مكانين معا ، فإنه تغيير في صفاته لا في ذاته ، فتكون ذاته - صلى الله عليه وسلم - مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية ، والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ، ولا قرب المسافة ، ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ، ولا ظاهرا عليها ، وإنما يشترط كونه موجودا ، فلو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من صفاته المتخيلة لا المرئية . قال القاضي عياض : ويحتمل أن يكون المراد بقوله : فقد رآني ، إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته ، فإن رؤي على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة ، وهو ضعيف ، بل الصحيح أنه يراه حقيقة ، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها ، كما ذكره المازري اهـ . كلام النووي .

والظاهر أنه لا فرق بين كلاميهما ، فإن مرادهما أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا رؤي على صفته المسطورة ، وهيئته المعروفة المذكورة ، فلا يحتاج إلى تأويل ، بل يقال : إنه قد رآه على وجه الإطلاق ، وأما إذا رآه على غير صفته كما إذا رآه ميتا في قطعة من أرض المسجد ، على ما حكي عن بعض المشايخ أنه رآه كذلك ، فاحتاج إلى تأويل وتعبير بما قيل أن تلك القطعة من أرض المسجد مغصوبة ، أو مملوكة غير صحيحة على قواعد شرعه - صلى الله عليه وسلم - فكأنه أميت في تلك البقعة ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، وكذلك ما رآه إمامنا الأعظم في منامه الأكرم من جمع أعظمه المباركة المتفرقة ، فعبر له ابن سيرين بأنك تصير إماما للمسلمين ، وجامعا لمعاني الأحاديث المختلفة بين الصحابة والمتفرقة بين التابعين ، وكثر أمثال ذلك مما وقع في رؤياه - صلى الله عليه وسلم - لطبقات العلماء والأولياء والصالحين .

وقال الشيخ أبو حامد الغزالي : ليس معناه أنه رأى جسمي وبدني ، بل رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه ، بل البدن الجسماني في اليقظة أيضا ليس إلا آلة النفس ، والآلة تارة تكون حقيقية وتارة خيالية ، والنفس غير المثالات المتخيلة إذ لا يتخيل إلا ذو لون أو ذو قدر بعيد من المتخيل أو قريب ، والحق أن ما يراه مثال روحه المقدسة التي هي محل النبوة ، فما رآه من الشكل ليس هو روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شخصه ، بل هو مثال له على التحقيق ، ومعنى فقد رآني ما رآه صار واسطة بيني وبينه في تعريف الحق إياه ، وكذلك ذات الله منزهة عن الشكل والصورة ، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور ، أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقي المعنوي الذي لا صورة فيه ولا لون ، ويكون ذلك المثال صادقا وحقا وواسطة في التعريف ، فيقول الرائي : رأيت الله تعالى في المنام لا بمعنى أني رأيت ذاته .

وقال الشيخ أبو القاسم القشيري : من المعلوم أنه قد يراه - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس كأنه على صورة شيخ ، ويراه بعضهم كأنه على صورة أمرد ، وواحد كأنه مريض ، وآخر كأنه ميت ، وغير ذلك من الوجوه ، ثم يكون معنى الخبر أن تلك الرؤيا جمع يحتمل وجوها من التأويل ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان موصوفا بتلك الصفات جميعا ، فكذلك لو رأى أحد في المنام ربه على وصف يتعالى عنه ، وهو يعلم أنه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ، ولا يعتقد في صفته تعالى ذلك لا تضره تلك الرؤيا ، بل يكون لها وجه من التأويل ، قال الواسطي : من رأى ربه تعالى في المنام على صورة شيخ عاد تأويله إلى الرائي ، وهو إشارة إلى وقاره وقدر محله ، وكذلك إذا رآه شخص ساكن يتولى أمره ويكفي شأنه اهـ . كلام القشيري .

وهو لب التحقيق ، وقد نشأ من التوفيق ; لأن كثيرا من الناس يرونه سبحانه في المنام ، فلا ينبغي أن يفتى بمجرد قوله أنه رأى الله تعالى بكفره ، كما قاله بعض علمائنا ; لأنه ليس له في رؤية المنام اختيار ، ولم يقع نص في النهي عن ذكر مثل ذلك ، وإنما هو مكلف بأن لا يعتقد في ذاته تعالى ما يتعالى عن ذلك ، فإذا نزهه سبحانه سواء علم تأويل رؤياه أو لم يعلم لم يضره ، ففي قاضيخان لو قال : رأيت الله في المنام . قال الشيخ أبو منصور الماتريدي : هذا الرجل شر من عابد الوثن . قلت : وإنما يكون شرا منه لكونه يثبت لله تعالى ما لا يليق به من الكمية والكيفية في الهوية الألوهية الذاتية ، وصدور المكان ، ومرور الزمان ، وسائر الأحوال والصفات التنزيهية ، وقد يكون عابد الوثن خاليا عن ذلك ، فيكون كفره بمجرد الإشراك ، ثم قال : وهذه مسألة اختلف فيها مشايخ بخارى وسمرقند . قال مشايخ سمرقند : رؤية الله تعالى في المنام باطل لا تكون ; لأن ما يرى في المنام لا يكون عين المولى ، بل خيال له [ ص: 2916 ] والله منزه عن ذلك . قلت : وما أظن أن قول مشايخ بخارى يكون على خلاف ذلك ، فيتحصل اتفاقهم على أن رؤياه على وجه ما رآه باطلة ; لأنها من أصلها لا حقة ولا حقيقة لشأنها ، وعلى تقدير القول ببطلانها مطلقا ، فإذا قال الشخص : رأيت مناما ويكون باطلا فما وجه تكفيره ، مع أنه في الجملة صادق في رؤياه ، ولم يكفر من يكذب ويفتري وينسب إلى عينه ما لم تره . هذا وقد تقدم في أول الكتاب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة " ، وذكرنا توجيهاته على تقدير أن تكون الرؤيا حال اليقظة ، ومن جملة تأويلاته أنه مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، فإنه روى الطبراني بإسناده ، عن مالك بن عامر ، عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال : احتبس علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغدوة ، حتى كادت الشمس تطلع ، فلما صلى الغدوة ، قال : " إني صليت الليلة ما قضي لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي في أحسن صورة " . قال التوربشتي من أئمتنا : فعلى هذا لم يكن فيه إشكال إذ الرائي قد يرى غير المتشكل متشكلا والمتشكل بغير شكله ، ثم لم يعد ذلك خللا في الرؤيا ، ولا في الرائي ، بل لأسباب أخر ، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء إلى تعبير اهـ . كلامه . وهو في غاية التحقيق ، وبالله التوفيق . ثم قال : وترك الكلام في هذه المسألة أحسن . قلت : لا والله ، بل التحقيق والتثبيت فيها أفضل ، بل هو المتعين لأنها كثيرة الوقوع ، فيحتاج إلى تفصيلها وتبيينها حتى لا يقع المفتي في تكفير مسلم ، ولا مسلم في كفر من اعتقاد باطل ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

قال الطيبي : قول المازري وأبي حامد من واد واحد ، ويمكن أن يرجح قول الباقلاني بأن يقال : إن أثبت الروايات هي فقد رأى الحق ، فلا بد من تقدير ما يستقيم أن يقع الجزاء مسببا من الشرط ، ويترتب على العلل المعللة ، فالمعنى : من رآني في المنام بأي صفة كانت فليستبشر ، وليعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله تعالى ، وهي المبشرات لا الباطل ، الذي هو الحلم المنسوب إلى الباطل الذي هو الشيطان ، فإن الشيطان لم يتمثل بي ، وكيف لا تكون مبشرات وهو البشير النذير والسراج المنير ، وهو الرحمة المهداة إلى كافة الخلق . قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . وعلى هذا أيضا الرواية الأخرى ، فقد رآني الحق ، أي رؤية الحق لا الباطل ، وكذا الرواية الأخرى : فقد رآني ، فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الكمال والغاية ، أي : فقد رآني رؤيا ليس بعدها كقوله : " من كانت هجرته إلى الله ، فهجرته إلى الله " ، ولا كمال أكمل من الحق كما لا نقص أنقص من الباطل ، والباطل هو الكذب ، ويؤيده حديث أبي هريرة : رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب ، فحينئذ لا يفتقر إلى تلك التكلفات والتمحلات ، ولا يكشف الأستار عن تلك الأسرار إلا من تدرب في علم المعاني ، واعتلى شامخ البيان ، وعرف كيف يؤلف الكلام ويصنف ، ويرتب النظام ويرصف .

قلت : هذا خطبة بليغة عظيمة فيها مبالغة جسيمة وسيمة ، لكن لا نعرف ما المراد من التكلفات والتمحلات ، وسائر ما عبر عنه بالأستار عن الأسرار المغيبات ، فإنه ما سبق إلا كلام السابقين في ميدان البلاغة ، والمصدرين في ديوان الفصاحة من الشارح الأول ، وهو العلم الأكمل الشيخ التوربشتي ، ومن شارح مسلم ، وهو الإمام محيي الدين النووي المشتمل كلامه على نقل مقول ابن الباقلاني والمارزي وكلام القاضي عياض ، وهم عمدة المحققين ، وزبدة المدققين ، ثم ختم المبحث بقول حجة الإسلام ، والقشيري مقتدى الأنام ، فرحم الله من أنصف ولم يتجاوز قدره ولم يتعسف ، ومع هذا نقول : التسليم أسلم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية