صفحة جزء
4895 - وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : في يوم حنين كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته - يعني بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غشيه المشركون ، نزل فجعل يقول : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " قال : فما رئي من الناس يومئذ أشد منه . متفق عليه .


4895 - ( وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ) : صحابيان جليلان ( قال : في يوم حنين ) : ظرف مقدم ، والجملة هي المقول ( كان أبو سفيان بن الحارث ) أي : ابن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أخاه من الرضاعة أرضعتهما حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ، وكان من الشعراء المطبوعين ، وكان سبق له هجاء في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه حسان بن ثابت ، ثم أسلم فحسن إسلامه ، ويقال : إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه ، وكان إسلامه عام الفتح ، وقال له علي كرم الله وجهه : ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ، ففعل أبو سفيان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، وقبل منه وأسلم ، وكان سبب موته أنه حج ، فلما حلق الحلاق رأسه قطع أثلوثا في رأسه ، فلم يزل مريضا منه حتى مات بعد مقدمه من الحج بالمدينة سنة عشرين ، ودفن في دار عقيل بن أبي طالب ، وصلى عليه عمر - رضي الله عنه - والحاصل أنه يوم حنين ( كان آخذا بعنان بغلته ، يعني ) : هو كلام بعض الرواة ، أي : يريد البراء بقوله : بغلته ( بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) احترازا من رجع الضمير إلى أبي سفيان ( فلما غشيه ) : بفتح فكسر ( المشركون ) أي : أتوه من جميع جوانبه ( نزل ) أي : عن بغلته ( فجعل يقول ) : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " .

بسكون الباء فيهما على الصواب ، وقيل : بفتحها في الأول وكسرها في الثاني ، وقد تقدم الكلام عليه من جهة أنه شعر أم لا . قال التوربشتي : ليس لأحد أن يحمل هذا على المفاخرة ، والشيخ - يعني صاحب المصابيح - لم يرد في إيراد هذا الحديث في هذا الباب ، ولا شك أنه تبع بعض أصحاب الحديث في مصنفاتهم و لم يصيبوا

[ ص: 3070 ] أولئك أيضا ، وقد نفى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرا ، بل شكرا لأنعمه فقال : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " الحديث . وذم العصبية في غير موضع ، فأنى لأحد أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين ؟ وكيف يجوز على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتخر بمشرك ، وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم ؟ وإنما وجه ذلك أن تقول : تكلم بذلك على سبيل التعريف ، فإن الله تعالى قد أرى قوما قبل ميلاده ما قد كان ، علما لنبوته ودليلا على ظهور أمره ، وأظهر علم ذلك على الكهنة حتى شهد به غير واحد منهم ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهم بذلك ، وعرفهم أنه ابن عبد المطلب الذي روي فيه ما روي ، وذكر فيه ما ذكر .

قال الطيبي : الجواب ما ذكره في شرح السنة من قوله الافتخار والاعتزاز المنهي عنه ما كان في غير جهاد الكفار ، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها . وروي أن عليا - رضي الله عنه - بارز مرحبا يوم خيبر فقال :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

. قلت : حاصله يرجع إلى تأويل التوربشتي أنه للتعريف لا للافتخار ، ثم قال الطيبي : وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يري الكفار شدة جأشه وشجاعته مع كونه مؤيدا من عند الله تعالى حين قل شوكة المسلمين ، وهو السكينة التي أنزلها الله عليه يوم حنين وعلى المسلمين ، وتلخيص الجواب : أن المفاخرة نوعان : مذمومة ومحمودة ، فالمذموم منها : ما كان عليها الجاهلية من الفخر بالآباء والأنساب للسمعة والرياء ، والمحمود منها : ما ضم مع النسب الحسب في الدين لا رياء ، بل إظهارا لأنعمه تعالى عليه ، فقوله : " لا فخرا " احترازا عن المذموم منها ، وكفى به شاهدا قوله في الحديث السابق : " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " . وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه عباس وكأنه سمع شيئا ، فقام على المنبر فقال : " من أنا ؟ " فقالوا : أنت رسول الله . قال : " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم فرقتين ، فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل ، فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا " .

قلت : وهذا كله تعريف لنسبه الشريف المنضم بحسبه المنيف ، وليس فيه الافتخار بآبائه الكفار لما سيأتي في أول الفصل الثاني ، مع أنه لو أراد الافتخار لافتخر بأجداده الأبرار ، وقال : أنا ابن إسماعيل أو إبراهيم عليهما السلام ، وقد قال في الإحياء : كان افتخاره - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وبقربه لا بكونه مقدما على ولد آدم ، كما أن المقبول عند الملك قبولا عظيما إنما يفتخر بقبوله إياه ، وبه يفرح لا بتقدمه على بعض رعاياه .

( قال ) أي : الراوي ( فما رئي ) : بصيغة المجهول ، أي : ما عرف ( من الناس ) أي : أحد منهم ( يومئذ أشد منه ) أي : أقوى وأشجع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل عليه اختياره البغلة التي لا تصلح للعزة بالمرة ، ثم زاد عليه بأنه نزل منها ، وعرف الناس به بإظهار نسبه وحسبه المتضمن لكمال التعريف ، المنافي عادة لمقام التخويف ، وما ذاك إلا لقوة قلبه ، وتوكله على ربه ، واعتماده على عصمته بمقتضى وعده ; حيث قال تعالى : والله يعصمك من الناس وبموجب حكمه ; حيث قال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية