صفحة جزء
الفصل الثاني

4899 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا ، إنما هم فحم من جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، الناس كلهم بنو آدم ، وآدم من تراب " . رواه الترمذي وأبو داود .


الفصل الثاني

4899 - ( عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لينتهين ) : بلام مفتوحة في جواب قسم مقدر أي : والله ليمتنعن عن الافتخار ( أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا ) أي : على الكفر ، وهذا الوصف بيان للواقع لا مفهوم له ، ولعل وجه ذكره أنه أظهر في توضيح التقبيح ، ويؤيده ما رواه أحمد عن أبي ريحانة مرفوعا " من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكرما كان عاشرهم في النار " . ( وإنما هم ) أي : آباؤهم ( فحم من جهنم ) : حالا ومآلا . قال الطيبي : حصر آباءهم على كونهم فحما من جهنم لا يتعدون ذلك إلى فضيلة يفتخر بها . ( أو ليكونن ) : بضم النون الأولى عطفا على لينتهين ، والضمير الفاعل العائد إلى أقوام وهو واو الجمع محذوف من ليكونن ، والمعنى أو ليصيرن . ( أهون ) أي : أذل ( على الله ) أي : عنده ، وفي حكمه ( من الجعل ) : بضم جيم وفتح عين ، وهو دويبة سوداء تريد الغائط ، يقال لها الخنفساء فقوله : ( الذي يدهده الخراء ) أي : يدحرجه ( بأنفه ) : صفة كاشفة له ، والخراء بفتح الخاء والراء مقصورا . وفي نسخة بالمد ، وفي نسخة مصححة بكسر الخاء ممدودا وهو العذرة ، ويحتمل أن يكون بالفتح المصدر وبالكسر الاسم ، ففي باب الغريبين أن الخرء العذرة وجمعه خروء ، كجند وجنود ، وفي القاموس : خرى كفرح خراء أو خراءة ويكسر والاسم منه الخراء بالكسر ، وفي شرح المصابيح : أن الخرء بفتح الخاء وضمها واحد الخروء ، مثل قرء وقروء والقرء بفتح القاف وضمها الحيض ، وكتب الخرء في الحديث بالألف إما لأنها مفتوحة ، فكتبت بحرف حركتها ، وإما لأنه

[ ص: 3073 ] نقلت حركتها إلى الراء وقلبت ألفا على لفظ العصا ، والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - شبه المفتخرين بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية بالجعل ، وآباءهم المفتخر بهم بالعذرة ، ونفس افتخارهم بهم بالدهدهة بالأنف ، والمعنى أن أحد الأمرين واقع البتة ، إما الانتهاء عن الافتخار أو كونهم أذل عند الله تعالى من الجعل الموصوف ، وأغرب القاضي ; حيث قال : ( أو ) هنا للتخيير والتسوية ، والمعنى : أن الأمرين سواء في أن يكون حال آبائهم الذين يفتخرون بهم وأنت مخير في توصيفهم بأيهما شئت . اهـ .

والصواب ما قدمناه . وقد راعى الأدب معه الطيبي ; حيث قال : الظاهر أنه عطف على قوله : لينتهين ، والضمير فيه ضمير القوم ; لأن اللام في المعطوف والمعطوف عليه لام الابتداء على نحو قوله تعالى : لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ، كأنه - صلى الله عليه وسلم - حلف على أن أحد الأمرين كائن لا محالة ، ثم أغرب الطيبي في سؤاله ; حيث قال : فإن قلت : هب أنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه تعالى يعذبهم بسبب المفاخرة بآبائهم ، فأقسم عليه فبم عرف انتهاءهم عنها ؟ قلت : لما نظمهما بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كرمه إلى قولك ، ليكونن أحد الأمرين يعني : إن كان الانتهاء لم تكن المذلة ، وإن لم تكن كانت ، كذا حققه صاحب الكشاف في النمل ، فكأنه قيل : أحد الأمرين لا بد منه إما الانتهاء عما هم فيه ، أو إنزال الصغار والهوان عليهم من الله تعالى . اهـ . وهو ظاهر المرام ، لكن وقع بسط في الكلام .

ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - استأنف لبيان علة الانتهاء عن الافتخار بعد زوال زمان الجاهلية ، وكمال القواعد الإسلامية بقوله : ( إن الله قد أذهب ) أي : أزال ورفع ( عنكم عبية الجاهلية ) : بضم العين المهملة وكسرها وكسر موحدة فتحتية مشددتين أي : نخوتها وكبرها . ( وفخرها ) أي : وافتخار أهل الجاهلية في زمانهم ( بالآباء ) : قال التوربشتي : يقال : رجل فيه عبية بضم العين المهملة وكسرها أي : كبر وتجبر ، والمحفوظ عن أهل الحديث تشديد الياء ، وذكر أبو عبيد الهروي أنه من العبء بمعنى الحمل الثقيل ، ثم قال : وقال الأزهري : بل هو مأخوذ من العبء وهو النور والضياء يقال : هذا عب الشمس وأصله عبؤ الشمس ، وعلى هذا فالتشديد فيه كما في الذرية من الذرء بالهمزة ، والجوهري أدخله في باب المضاعف . قلت : وكذا فعل صاحب القاموس ; حيث قال : العبية بالكسر الكبر والفخر والنخوة . وقال أيضا : عب الشمس ويخفف ضوءها ، وذكره في المهموز أيضا وقال : العبء بالفتح ضياء الشمس ( إنما هو ) أي : المفتخر المتكبر بالآباء لا يخلو عن أحد الوصفين ، فإما هو ( مؤمن تقي ) : فلا ينبغي له أن يتكبر على أحد ; لأن مدار الإيمان على الخاتمة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمن اتقى ( أو فاجر ) أي : منافق أو كافر ( شقي ) أي : غير سعيد ، فهو ذليل عند الله ، والذليل لا يناسبه التكبر ، ولا يلائمه التجبر ، فالتكبر لا يليق بالمخلوق ، فإنه صفة خاصة للخالق ، ولذا قال : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته " ، ثم أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى دليل آخر ينتفي به التكبر عن الإنسان بقوله : ( الناس كلهم بنو آدم ، وآدم من تراب ) أي : فلا يليق بمن أصله التراب النخوة والتجبر ، أو إذا كان الأصل واحدا ، فالكل إخوة ، فلا وجه للتكبر ; لأن بقية الأمور عارضة لا أصل لها حقيقة ، نعم العاقبة للمتقين وهي مبهمة ، فالخوف أولى للسالك من الاشتغال بهذه المسالك ، هذا ما اخترناه في هذا المقام من خلاصة المرام ، وتكلف الطيبي فقال : في ضمير ( هو ) وجوه ، أحدها : أن في الكلام تقديما وتأخيرا فقوله : الناس كلهم بنو آدم مقدم ; لأنه مجمل وذلك تفصيله على نحو قوله : الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء


فإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء

    ما الفخر إلا لأهل العلم أنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء

.

[ ص: 3074 ] ووحد الضمير نظرا إلى الجنس ، أو على تأويل الإنسان . وثانيها : أنه ضمير مبهم يفسره الخبر ، كذا قرر صاحب الكشاف في قوله تعالى : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ، وقولهم : هي العرب تقول ما شاءت . وثالثها : أن يكون بمعنى اسم الإشارة ، فيرجع إلى المذكور السابق منطوقا ومفهوما ، وبيانه أن قوله : ( أقوام ) من باب سوق المعلوم مساق غيره ، وهم قوم مخصوصون نكرهم وجعلهم غائبين ، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله : قد أذهب عنكم ، وهذا يشعر بغضب شديد وسخط متتابع . كان أناسا من المسلمين تفاخروا بأسلافهم الذين ماتوا على الكفر ، كالعباس بن مرداس وأضرابه حتى قال قائلهم : فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع

فوبخهم وزجرهم وسفه رأيهم ، والمعنى : لينته من شرفه الله وخلع عليه حلل الإسلام ، ورفعه من حضيض الكفر إلى يفاع الإيمان عن هذه الشنعاء ، وإلا فيحطه من تلك المنزلة ، ويرده إلى أسفل السافلين من الكفر والذل ، فإن تشبيههم بأخس الحيوانات في أخس أحواله يدل عليه ، فالمعنى : ما ذاك العزيز الكريم عند الله إلا رجل تقي ، وما ذاك الذليل الدنيء عنده إلا فاجر شقي ، ثم رجع - صلى الله عليه وسلم - من ذاك العنف إلى اللطف ، ومن التوبيخ إلى إسماع الحق قائلا : والناس كلهم بنو آدم لقوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، إلى قوله : إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وفي ذكر التراب إشارة إلى نقصانهم ، وأنهم فيه سواء طف الصاع بالصاع . ( رواه الترمذي وأبو داود ) : وروى البزار بسند حسن عن حذيفة مرفوعا : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " .

التالي السابق


الخدمات العلمية