صفحة جزء
491 - وعنه قال : قام أعرابي ، فبال في المسجد ، فتناوله الناس . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء - أو ذنوبا من ماء - فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين " . رواه البخاري .


491 - ( وعنه ) : أي : عن أبي هريرة ( قال : قام أعرابي ) وهو ذو الخويصرة التميمي ، ( فبال في المسجد ، فتناوله الناس ) : أي : بألسنتهم سبا وشتما . وقال الطيبي : أي : وقعوا فيه يؤذونه . وقال ابن الملك : أخذوه للضرب ، والأظهر زجروه ومنعوه من غير ضرب وإيذاء ، كما في الحديث الآتي ، ( فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه ) : أي : اتركوه ; فإنه معذور ; لأنه لم يعلم عدم جواز البول في المسجد ; لقربه بالإسلام ، وبعده عنه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لئلا يتعدد مكان النجاسة ، وقيل : لئلا يتضرر بانحباس البول ، ( وهريقوا ) : وفي نسخة : أهريقوا بسكون [ ص: 461 ] الهاء بعد همزة ، وهو مطابق لما في المصابيح ، على ما نقله ابن الملك . قال الطيبي : أمر من أهراق يهريق - بسكون الهاء - إهراقا نحو اسطاعا ، وأصله أراق ، فأبدلت الهمزة هاء ، ثم جعل عوضا عن ذهاب حركة العين ، فصارت كأنها من نفس الكلمة ، ثم أدخل عليها الهمزة أي : صبوا " على بوله سجلا " بفتح السين أي : دلوا ( من ماء - أو ذنوبا ) : بفتح الذال ، وهو الدلو أيضا . قال الطيبي : الظاهر أنه من كلام الراوي ، وقال ميرك : شك من الراوي ، ويحتمل أن يكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون للتخيير ; لما بينهما من فرق ، والأول أظهر اهـ .

ومال ابن الملك إلى الثاني ، وقال : يعني خيرهم بين أن يهريقوا فيه سجلا غير ملأى ، أو ذنوبا ملأى . قال الطيبي : السجل الدلو فيه الماء ، قل أو كثر ، وهو مذكر ، والذنوب يؤنث ، وهو ما ملئ ماء ، فقوله ( من ماء ) : أي : في الموضعين زيادة وردت تأكيدا اهـ ; لأن السجل والذنوب لا يستعملان إلا في الدلو التي فيها الماء ، وقيل : من للتبيين ; لاحتمال أن يكون من ماء وغيره ، وهذا قول من يجوز التطهير بغير الماء . قال ابن الملك : وقد صرح الغزالي في المنخول بأن استدلال الشافعية بهذا الخبر غير صحيح ; لأن الغرض قطعا من تخصيص الماء ما اختص به الماء من عموم الموجود ، والمقصود من الحديث الابتدار إلى تطهير المسجد لا بيان ما تزال به النجاسة .

قال المظهر : في الحديث دليل على أن الماء إذا ورد على النجاسة على سبيل المكاثرة والمغالبة طهرها ، وعلى أن غسالات النجاسة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير ، وإن لم تكن مطهرة ، ولولاه لكان الماء المصبوب على البول أكثر تنجيسا للمسجد من البول نفسه ، قال ابن الملك : وعند أبي حنيفة لا يطهر حتى يحفر ذلك التراب ، فإن وقع عليه الشمس وجفت أو ذهب أثرها طهرت عنده من غير حفر ولا صب ماء اهـ .

قال ابن الهمام : قول صاحب الهداية : فجفت بالشمس اتفاقي ، إذ لا فرق بين الجفاف بالشمس أو الريح ، والمراد من الأثر الذاهب اللون أو الريح اهـ .

وفى شرح السنة : فيه دلالة على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة لا تطهر بالجفاف ، ولا يجب حفر الأرض ولا نقل التراب إذا صب عليه الماء نقله الطيبي . قال ابن الهمام : ليس فيه دلالة على أن الأرض لا تطهر بالجفاف ، وقد صح عن ابن عمر أنه قال : كنت عزبا أبيت في المسجد ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ، فلولا اعتبارها أنها تطهر بالجفاف كان ذلك تبقية لها بوصف النجاسة ، مع العلم بأنهم يقومون عليها في الصلاة ألبتة ، إذ لا بد منه مع صغر المسجد وعدم من يتخلف في بيته ، وكون ذلك يكون في بقع كثيرة حيث تقبل وتدبر وتبول ، فإن هذا التركيب في الاستعمال يفيد تكرار الكائن منها ، أو لأن تبقيتها نجسة ينافي الأمر بتطهيره ، فوجب كونها تطهر بالجفاف بخلاف أمره عليه الصلاة والسلام بإهراق ذنوب من ماء ; لأنه كان نهارا ، وقد لا يجف قبل وقت الصلاة ، فأمر بتطهيرها بالماء بخلاف مدة الليل ؛ أو لأن الوقت كان إذ ذاك قد آن أريد إذ ذاك أكمل الطهارتين المتيسر في ذلك الوقت ، هذا إذا قصد تطهير الأرض صب الماء عليه ثلاث مرات ، وجففت في كل مرة بخرقة طاهرة ، وكذا لو صب عليها ماء بكثرة ، ولم يظهر لون النجاسة ولا ريحها ، فإنها تطهر اهـ كلامه .

وذكر ابن حجر أجوبة عجيبة بعبارة غريبة لا بأس بذكرها قال : فجوابه أن في المسجد يحتمل تعلقه بتبول ، وبما بعده فقط ، فلم يكن صريحا في مذهب الخصم ، وبتسليم أنه عائد للجميع كما هو القاعدة ، فيحتمل أن عدم الرش إنما هو لخفاء محل بولها ، وعلى التنزل كان هذا من قبل الأمر بقتلها ، وعلى التنزل فعدم الرش لا يستلزم الطهارة ، بل العفو ، فلا دليل فيه للقائل بالطهارة .

وقال ابن الملك في شرح المشارق : استدل به الشافعي على أن الأرض النجسة تطهر بصب الماء عليها بحيث يغمرها . قلت : يجوز أن يكون الصب تسكين رائحة تلك الحالة لا للتطهير ، بل التطهير يحصل باليبس لخبر : زكاة الأرض يبسها ، أو يقال : روي أن في ذلك المكان منفذا ، فحينئذ كان الماء جاريا عليه اهـ .

[ ص: 462 ] لكن قال الزركشي : حديث " زكاة الأرض يبسها " لا أصل له ، إنما هو قول محمد بن الحنفية . أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار ، وقال السيوطي : وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عنه ، وأخرجه أيضا عن أبي جعفر ، وعن أبي قلابة قولهما اهـ .

والمراد بأبي جعفر الباقر أبو الصادق ( فإنما بعثتم ) : لما كانوا مقتدين بالمبعوث وصفوا بالبعث . ( ميسرين ) : حال أي : مسهلين على الناس ( ولم تبعثوا معسرين ) : عطف على السابق على طريق الطرد والعكس مبالغة في اليسر ، قاله الطيبي ، أي : فعليكم بالتيسير أيها الأمة ( رواه البخاري ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية