إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
[ ص: 661 ] كتاب الأطعمة

379 - الحديث الأول : عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه - إن الحلال بين ، والحرام بين وبينهما مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات : استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات : وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله . ألا وهي القلب } .


هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين ، فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب . وهو أصل كبير في الورع ، وترك المتشابهات في الدين

والشبهات لها مثارات منها : الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل ، أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام " لا يعلمهن كثير من الناس " إشارة إلى هذا المثار ، مع أنه يحمل أن يراد : لا يعلم عينها ، وإن علم [ ص: 662 ] حكم أصلها في التحليل والتحريم . وهذا أيضا من مثار الشبهات . وقوله عليه السلام " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة ، وصنفوا فيها تصانيف ، وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال : إن كان هذا الشيء مباحا - والمباح ما استوى طرفاه - فلا ورع فيه ; لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال ، وجمع بين المتناقضين ، وبنى على ذلك تصنيفا . والجواب عن هذا عندي من وجهين :

أحدهما : أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله ، وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المباح المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول . وقال : إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى ، فإن المباح قد صار منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين ، فلا يدل اللفظ على التساوي ، إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه .

الثاني : أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته ، راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان . وعلى الجملة : فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة ، وإلا فيعسر ترجيح تركه ، إلا أن يقال : إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا ، وبه يشعر لفظ الحديث .

وقوله عليه السلام " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه : أثر ذلك استهانة في نفسه ، توقعه في الحرام مع العلم به .

والثاني : أنه إذا تعاطى الشبهات : وقع في الحرام في نفس الأمر ، فمنع من تعاطي الشبهات لذلك . [ ص: 663 ]

وقوله عليه السلام " كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " من باب التمثيل والتشبيه " ويوشك " بكسر الشين بمعنى : يقرب " والحمى " المحمي ، أطلق المصدر على اسم المفعول . وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا ، وعلى ترك المأمورات التزاما ، وإطلاقها على الأول أشهر ، وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه ، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ، ورتب الأمر فيه على المضغة ، والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح .

التالي السابق


الخدمات العلمية