إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
28 - الحديث الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة ، وهو جنب ، قال : فانخنست منه ، فذهبت فاغتسلت ، ثم جئت ، فقال : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال : كنت جنبا ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال : سبحان الله ، إن المؤمن لا ينجس } .


" الجنابة " دالة على معنى البعد ، ومنه قوله تعالى : { والجار الجنب } وعن الشافعي أنه قال : إنما سمي " جنبا " من المخالطة ، ومن كلام العرب : أجنب الرجل ، إذا خالط امرأته ، قال بعضهم : وكأن هذا ضد للمعنى الأول ، كأنه من القرب منها ، وهذا لا يلزم ، فإن مخالطتها مؤدية إلى الجنابة التي معناها البعد ، على ما قدمناه ، وقول أبي هريرة " فانخنست منه " الانخناس : الانقباض والرجوع ، وما قارب ذلك من المعنى ، يقال " خنس " لازما ومتعديا ، فمن اللازم : ما جاء في الحديث في ذكر الشيطان { فإذا ذكر الله خنس } ومن المتعدي : ما جاء في الحديث { وخنس إبهامه } أي قبضها ، وقيل : إنه يقال " أخنسه " في المتعدي ، ذكره صاحب مجمع البحرين وقد روي في هذه اللفظة { فانبجست منه } بالجيم ، من الانبجاس ، وهو الاندفاع ، أي اندفعت عنه ، ويؤيده : قوله في [ ص: 130 ] حديث آخر { فانسللت منه } وروي في هذه اللفظة أيضا { فانبخست منه } من البخس ، وهو النقص ، وقد استبعدت هذه الرواية ، ووجهت - على بعدها - بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصاحبته ، مع اعتقاده نجاسة نفسه ، هذا أو معناه ، وقوله " كنت جنبا " أي كنت ذا جنابة ، وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع ، بلفظ واحد ، قال الله تعالى في الجمع : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقال بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إني كنت جنبا " وقد يقال : جنبان ، وجنبون ، وأجناب ، وقوله " فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة " يقتضي استحباب الطهارة في ملابسة الأمور العظيمة ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رد ذلك ; لأن الطهارة لم تزل ، بقوله " إن المؤمن لا ينجس " لا ردا لما دل عليه لفظ أبي هريرة من استحباب الطهارة لملابسته صلى الله عليه وسلم وفي هذا نظر ، وقوله " سبحان الله ، " تعجب من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة ، وقوله " إن المؤمن لا ينجس " يقال : نجس ونجس ، ينجس - بالفتح والضم .

وقد استدل بالحديث على طهارة الميت من بني آدم ، وهي مسألة مختلف فيها ، والحديث دل بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس ، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن ، والمشهور التعميم ، وبعض الظاهرية : يرى أن المشرك نجس في حال حياته أخذا بظاهر قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ويقال للشيء : إنه " نجس " بمعنى أن عينه نجسة ، ويقال فيه : إنه " نجس " بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له ، ويجب أن يحمل على المعنى الأول ، وهو أن عينه لا تصير نجسة ; لأنه يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة ، فلا ينفي ذلك ، وقد اختلف الفقهاء في أن الثوب إذا أصابته نجاسة : هل يكون نجسا أم لا ؟ فمنهم من ذهب إلى أنه نجس ، وأن اتصال النجس بالطاهر موجب لنجاسة الطاهر ، ومنهم من ذهب إلى أن الثوب طاهر في نفسه ، وإنما يمتنع استصحابه في [ ص: 131 ] الصلاة بمجاورة النجاسة ، فلهذا القائل أن يقول : دل الحديث على أن المؤمن لا ينجس ، ومقتضاه : أن بدنه لا يتصف بالنجاسة ، وهذا يدخل تحته حالة ملابسة النجاسة له ، فيكون طاهرا ، وإذا ثبت ذلك في البدن ثبت في الثوب ; لأنه لا قائل بالفرق ، أو يقول : البدن إذا أصابته النجاسة : من مواضع النزاع ، وقد دل الحديث على أنه غير نجس ، وعلى ما قدمناه - من أن الواجب حمله على نجاسة العين - يحصل الجواب عن هذا الكلام ، وقد يدعى أن قولنا " الشيء نجس " حقيقة في نجاسة العين ، فيبقى ظاهر الحديث دالا على أن عين المؤمن لا تنجس ، فتخرج عنه حالة النجس التي هي محل الخلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية