إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
29 - الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم اغتسل ، ثم يخلل بيديه شعره ، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته ، أفاض عليه الماء ثلاث مرات ، ثم غسل سائر جسده ، وكانت تقول : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، نغترف منه جميعا } .


الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها من وجوه :

أحدها : قولها " كان إذا اغتسل من الجنابة " يحتمل أن يكون من باب التعبير بالفعل عن إرادة الفعل ، كما في قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } ويحتمل أن يكون قولها " اغتسل " بمعنى شرع في الفعل ، فإنه يقال : فعل إذا شرع ، وفعل إذا فرغ ، فإذا حملنا [ ص: 132 ] اغتسل " على " شرع " صح ذلك ; لأنه يمكن أن يكون الشروع وقتا للبداءة بغسل اليدين ، وهذا بخلاف قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقتا للاستعاذة .

الوجه الثاني : يقال " كان يفعل كذا " بمعنى أنه تكرر منه فعله ، وكان عادته ، كما يقال : كان فلان يقري الضيف ، و { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير } وقد يستعمل " كان " لإفادة مجرد الفعل ; ووقوع الفعل ، دون الدلالة على التكرار ، والأول : أكثر في الاستعمال ، وعليه ينبغي حمل الحديث ، وقول عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل " .

الوجه الثالث : قد تطلق " الجنابة " على المعنى الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين ، أو الإنزال ، وقولها " من الجنابة " في " من " معنى السببية ، مجازا عن ابتداء الغاية ، من حيث إن السبب مصدر للمسبب ومنشأ له .

الوجه الرابع : قولها " غسل يديه " هذا الغسل قبل إدخال اليدين الإناء ، وقد تبين ذلك مصرحا به في رواية سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ،

الوجه الخامس : قولها " وتوضأ وضوءه للصلاة " يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل ، ولا شك في ذلك ، نعم ، يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء : هل هو وضوء حقيقة ؟ فيكتفى به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة ، فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد ، أو يقال : إن غسل هذه الأعضاء إنما هو عن الجنابة ، وإنما قدمت على بقية الجسد تكريما لها وتشريفا ، ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى .

فقد يقول قائل : قولها " وضوءه للصلاة " مصدر مشبه به ، تقديره : وضوءا مثل وضوئه للصلاة ، فيلزم من ذلك : أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة ; لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة ، فلا يصح التشبيه ; ; لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به ، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير ، وكان التشبيه في الصورة الظاهرة ، وجوابه - بعد تسليم كونه مصدرا مشبها به - من وجهين :

أحدهما : أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل [ ص: 133 ] الجنابة ، والوضوء - بقيد كونه في غسل الجنابة - مغاير للوضوء بقيد كونه خارجا عن غسل الجنابة ، فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه ، ولا يلزم منه عدم كونه وضوءا للصلاة حقيقة .

الثاني : لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية ، شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن ، كأنه يقال : أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة .

الوجه السادس : قولها " ثم يخلل بيديه شعره " التخليل ههنا : إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر ، ورأيت في كلام بعضهم : إشارة إلى أن التخليل هل يكون بنقل الماء ، أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء ؟ وأشار به إلى ترجيح نقل الماء ، لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم { ثم يأخذ الماء ، فيدخل أصابعه في أصول الشعر } فقال هذا القائل : نقل الماء لتخليل الشعر : هو رد على من يقول : يخلل بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء ، قال : وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا ، فقال " باب تخليل الجنب رأسه " وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه ، { فقالت فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب رأسه ، ثم يحثي عليه ثلاثا } قال : فهذا بين في التخليل بالماء ، انتهى كلامه ، وفي الحديث : دليل على أن " التخليل " يكون بمجموع الأصابع العشر لا بالخمس .

الوجه السابع : قولها " حتى إذا ظن " يمكن أن يكون " الظن " ههنا بمعنى العلم ، ويمكن أن يكون ههنا على ظاهره ، من رجحان أحد الطرفين مع احتمال الآخر ، ولولا قولها بعد ذلك " أفاض عليه الماء ثلاث مرات " لترجح أن يكون بمعنى العلم ، فإنه حينئذ يكون مكتفى به ، أي بري البشرة ، وإذا كان مكتفى به في الغسل ترجح اليقين ، لتيسر الوصول إليه في الخروج عن الواجب ، على أنه قد يكتفى بالظن في هذا الباب ، فيجوز حمله على ظاهره مطلقا ، وقولها " أروى " مأخوذ من الري ، الذي هو خلاف العطش ، وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء ، يقال : رويت من الماء - بالكسر - أروى ريا وريا ، وروي ، [ ص: 134 ] وأرويته أنا فروي ، وقولها " بشرته " البشرة : ظاهر جلد الإنسان ، والمراد بإرواء البشرة : إيصال الماء إلى جميع الجلد ، ولا يصل إلى جميع جلده إلا وقد ابتلت أصول الشعر ، أو كله ، وقولها " أفاض الماء " إفاضة الماء على الشيء : إفراغه عليه ، يقال : فاض الماء : إذا جرى ، وفاض الدمع : إذا سال ، وقولها " على سائر جسده " أي بقيته ، فإنها ذكرت الرأس أولا ، والأصل في " سائر " أن يستعمل بمعنى البقية ، وقالوا : هو مأخوذ من السؤر ، قال الشنفرى :

إذا احتملوا رأسي وفي رأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري

أي بقيتي ، وقد أنكر في أوهام الخواص : جعلها بمعنى الجميع ، وفي كتاب الصحاح : ما يقتضي تجويزه .

الوجه الثامن : في الحديث دليل على جواز اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد ، وقد أخذ منه جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة ، فإنهما إذا اعتقبا اغتراف الماء : كان اغتراف الرجل في بعض الاغترافات متأخرا عن اغتراف المرأة ، فيكون تطهرا بفضلها ، ولا يقال : إن قولها " نغترف منه جميعا " يقتضي المساواة في وقت الاغتراف ; لأنا نقول : هذا اللفظ يصح إطلاقه - أعني " نغترف منه جميعا " على ما إذا تعاقبا الاغتراف ، ولا يدل على اغترافهما في وقت واحد ، وللمخالف أن يقول : أحمله على شروعهما جميعا ، فإن اللفظ محتمل له ، وليس فيه عموم ، فإذا قلت به من وجه أكتفي بذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية