إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

صفحة جزء
422 - الحديث السابع عشر : وعنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش } .


هذا هو التنفيل بالمعنى الثاني ، الذي ذكرناه في معنى النفل ، وهو أن يعطي الإمام لسرية ، أو لبعض أهل الجيش خارجا عن السهمين ، والحديث مصرح بأنه خارج عن قسم عامة الجيش ، إلا أنه ليس مبينا لكونه من رأس الغنيمة ، أو من الخمس ، فإن اللفظ محتمل لهما جميعا ، والناس مختلفون في ذلك ففي رواية مالك عن أبي الزناد : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول " كان الناس يعطون النفل من الخمس " ، وهذا مرسل ، وروى محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد ، فخرجت معها ، فأصبنا نعما كثيرا فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا ، [ ص: 700 ] فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس ، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا ، ولا عاب عليه ما صنع ، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله } ، وهذا يدل على أن التنفيل من رأس الغنيمة ، وروى زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة قال : { شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة } ، وهذا أيضا يدل على أن التنفيل من أصل الغنيمة ظاهرا مع احتماله لغيره ، وروي في حديث حبيب هذا : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس ، والثلث بعد الخمس إذا قفل } ، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه : ينفل بعد إخراج الخمس ، أي ينفله من أربعة أخماس ما يأتون به ردء الغنيمة إلى موضع في البدأة ، أو في الرجعة ، وهذا ظاهر ، وترجم أبو داود عليه " باب فيمن قال : الخمس قبل النفل " ، وأبدى بعضهم فيه احتمالا آخر ، وهو أن يكون قوله " بعد الخمس " أي بعد أن يفرد الخمس ، فعلى هذا : يبقى محتملا لأن ينفل ذلك من الخمس ، أو من غير الخمس فيحمله على أن ينفل من الخمس احتمالا ، وحديث ابن إسحاق صريح ، أو كالصريح .

وللحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال ، وما يضر من المقاصد الداخلة فيها ، وما لا يضر ، وهو موضع دقيق المأخذ ، ووجه تعلقه به : أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل ، والمخاطرة والمجاهدة ، وفي ذلك مداخلة لقصد الجهاد لله تعالى ، إلا أن ذلك لم يضرهم قطعا ، لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا يقدح من الإخلاص ، وإنما الإشكال في ضبط قانونها ، وتمييز ما يضر مداخلته من المقاصد ، ويقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص ، وما لا تقتضيه ويكون تبعا لا له ، ويتفرع عنه غير ما مسألة .

وفي الحديث : دلالة على أن لنظر الإمام مدخلا في المصالح المتعلقة بالمال أصلا ، وتقديرا على حسب المصلحة ، على ما اقتضاه حديث [ ص: 701 ] حبيب بن مسلمة في الربع ، والثلث فإن " الرجعة " لما كانت أشق على الراجعين ، وأشد لخوفهم ; لأن العدو قد كان نذر بهم لقربهم ، فهو على يقظة من أمرهم : اقتضى زيادة التنفيل . و " البدأة " لما لم يكن فيها هذا المعنى : اقتضى نقصه ، ونظر الإمام متقيد بالمصلحة لا على أن يكون بحسب التشهي حيث يقال : إن النظر للإمام : إنما يعني هذا ، أعني أن يفعل ما تقتضيه المصلحة ، لا أن يفعل على حسب التشهي .

التالي السابق


الخدمات العلمية